الموسيقى المسجلة وسعيها إلى الكمال (الجزء الثاني)

صوت الثمانينيّات والتسعينيّات

مع ظهور التكنولوجيا الرقميّة بفضل جهود شركة بلللاتصلات، وبالتبعية المؤثرات والآلات الرقمية في آواخر السبعينيات وانتشارها في الثمانينيات، وبعد الابتعاد عن صوت تسجيل حي طوال حقبة كاملة، نستطيع أن نفهم من أين يأتي الصوت المميز لموسيقى الثمانينيات. إذ أصبح الصوت مشبعًا بالمؤثرات الصوتية، وخاصة الترددات الطويلة (long reverb) التي تستخدم على معظم الآلات، وصوت المغني وبالأخص على آلة الدرامز لتعويض افتقار فترة السبعينيات للصوت الحي.

بصرف النظر عن جودة المنتج الفني، فقد تم في هذه الفترة ابتذال هذه المؤثرات، حتى أصبحت الموسيقى المسجلة في الكثير من الأحيان ذات طابع حى مصطنع ومبالغ فيه. أصبحت الموسيقى ذات طابع إلكتروني، مع انتشار مؤثرات مثل الـ chorus والـ harmonizer والـ vocoder والـ noise gates والـ compressors وأجهزة العينات الصوتية الرقمية وأجهزة الإيقاع الإلكترونية وعلى رأسها جهاز الـTR من شركة رولاند وتكنولوجيا الـ MIDI.

تتجسد هذه المؤثرات وهذا الصوت الجديد من خلال موسيقى الموجة الجديدة (new wave) التي قضت تمامًا على موجة البانك روك. لم تسلم موسيقى الروك من هذه التكنولوجيا الحديثة، فيمكن ملاحظة على سبيل المثال اختلاف صوت تسجيل فريق بينك فلويد وفريق كوين ويس بين الحقبتين. اختلف بالتالي الذوق العام للجمهور والفرق الموسيقية في فترة وجيزة، وأصبح الصوت الحي لهذه الفترة هو رهن بقاء الفرق واستمراريتها.



صوت فريق يس في السبعينيات

اختلاف صوت فريق يس في الثمانينيات واستخدامه للعديد من المؤثرات وخاصة للتردد (reverb)

دوران دوران وموسيقى الموجة الجديدة

ومع دخول فترة التسعينيات جاءت اسطوانة فريق نيرفانا Nevermind ليدشن صوت لحقبة جديدة، استطاع الصوت من خلالها أن يعود مرة أخرى إلى دفئه مع وجود نضج من حيث توظيف التكنولوجيا ومؤثراتها، وهو الأمر الذي استمر حتى الآن باستثناء المبالغة في استخدام الـ compressors، وهو ما سنتناوله لاحقًا. فتح صوت هذه الاسطوانة الباب للكثير من الفرق التي سارت على نهجه كي تعبر من دائرة الفرق المستقلة إلى العالم التجاري والتعاقد مع الشركات الضخمة، لتشهد تلك الحقبة تحول في ذوق الموسيقى الجماهيرية في أميركا وبريطانيا.

الصيغ الرقمية وتأثيرها

كانت الأقراص المدمجة (CD) أول صيغة رقمية لاقتناء الموسيقى، واحتلت مكانة عالية منذ آواخر الثمانينيات وحتى أوائل الألفية. لم تقض الأقراص المدمجة على الفينيل والشرائط بالرغم من جودة ونقاء صوتها، وهو الأمر الذي نجحت فيه الصيغة الافتراضية على شبكة الانترنت، مثل الـ mp3 والـ iTunes وراديوهات الانترنت، حتى بات الحاسوب والآي بود وسائط حتمية وشائعة للغاية. بالرغم من ذلك، لا يمكن أن نغفل أن الأقراص المدمجة—وهي نتاج الشراكة بين شركتي سوني وفيليبس—استطاعت أن تتغلب على الكثير من عيوبالفينيل والشرائط. فلم تواجه الأقراص المدمجة والتكنولوجيا الرقمية بشكل عام إشكالية ضعف مدى الموجات المنخفضة، وهو ما كانت تعاني منه أقراص الفينيل، مما شجّع الفرق والمنتجين على إبراز آلة الباص والآلات ذات المدى المتوسط/ المنخفض والمنخفض، ويعد ذلك أحد خصائص صوت الموسيقى المسجلة في فترة التسعينيات. نتج عن ذلك ظهور أنواع موسيقى راقصة تهتم بالأساس مدى الصوت الأكثر انخفاضًا (sub)، مثل الدرام آند باص والبيج بيت والدب ستيب لاحقًا. كما أنعش صوت الأقراص المدمجة مشهد موسيقى الهيب هوب وأعطى دفعة قوية لموسيقى التريب هوب، مثل موسيقى ماسيف أتاك وبورتسهد.

وبالرغم من كل المحاولات باستخدام التكنولوجيا المختلفة لتقليل صوت الشوائب المصاحبة لأقراص الفينيل وشرائط الكاسيت، فإنهما لم يصلا إلى نفس درجة النقاء الصوتي للأقراص المدمجة، فأصبح من الممكن الاستماع إلى الموسيقى المسجلة فقط، بدلًا من الموسيقى المسجلة التي يضاف إليها شوائب صوت الصيغة.

روني سايز وموسيقي الدرام آند باص

فريق بروديجي أهم الفرق الالكترونية ومن مؤسسي موسيقى البيج بيت

ماسيف أتاك أحد أهم فرق التريب هوب

أما بالنسبة للصيغة الرقمية الأكثر انتشارًا الآن، المتمثلة في الأغاني الموجودة على الانترنت مثل صيغة الـ mp3، فلا تتميز في صوتها وجودتهاعن الاسطوانات المدمجة. إذ تم تسجيل معظم الموسيقى المسجلة والمتاحة على صفحات الانترنت عن طريق البرامج الإلكترونية المعروفة بمحطة عمل صوتيات رقمية (digital audio workstation/DAW)، وهي أحدث طرق التسجيل المتاحة. مع التطور الزمني أصبح من الواضح أن هدف التسجيل هو الوصول بالموسيقى والصوت إلى الكمال.

لكن ضريبة الوصول إلى الكمال كلّفت الموسيقى المسجلة الكثير. إذ نتج عن هذه التكنولوجيا الحديثة انحسار العنصر البشري في عملية التسجيل وحلول الآلة مكان الموسيقي. فبالرغم من إتاحتها الكثير من الخيارات في التسجيل والإعداد والإنتاج وتوفير وقت التسجيل، أصبح من الشائع تشويه المدى الديناميكي (dynamic range) للموسيقى المسجلة، وتحرير سرعة (tempo) كل مسار مسجل بدقة فائقة، ذلك بجانب تصحيح أخطاء المغني وضبط نغمات صوته (auto tune). بمعنى إنه بات من الممكن أن يحتوي المسار الواحد المسجل العديد من الأخطاء الخاصة بالعزف والغناء والسرعة وديناميكية العزف، ثم يقوم المنتج أو الفريق بمعالجة هذه الأخطاء أثناء عملية المزج أو التحرير أو حتى أثناء مرحلة ما بعد الإنتاج لينتج صوت لامع وشديد النقاء. على الجانب الآخر من العادي أن يقوم العازف بتسجيل جملة موسيقية قصيرة ثم يقوم بتكرارها عن طريق البرنامج بدلًا من عزفها أكثر من مرة. ينتج عن ذلك موسيقى تخلو من الديناميكية حيث أن التدخل العنصر البشري بمهارته وأخطائه سمة طبيعية من سمات الموسيقى الحية، ومن ثم الموسيقى المسجلة التي كان هدفها الرئيسي ذات يوم هو إعادة إنتاج الموسيقى الحية. لا تحلو هذه الدقة الفائقة للبعض، إذ أنّها تبعد عن الواقع بنفس منطق المؤثرات الصوتية التي تم المبالغة في استخدامها في الثمانينيات، لتعود بذلك إشكالية سوء توظيف التكنولوجيا من جديد. لكن كثرة المؤثرات التي أدت إلى تشويه الموسيقى المسجلة واختزال العنصر البشري يمكن رؤيتها من منظور آخر؛ فإن إتاحة تكنولوجيا جديدة يفرض على مستخدمها التعامل مع ما ينتجه برؤية مغايرة للواقع، ويتيح قدر كبير من الخيال والإبداع، ويمكن تشبيه ذلك بطريقة التعامل مع الفوتوشوب أو كاميرات التصوير. كما أن توظيف هذه التكنولوجيا الجديدة من الممكن التعامل معه مثل لوحات الفن الانطباعي أو التعبيري والسوريالي، حيث يقوم خيال الفنان برصد صورة مختلفة عن الواقع حسب رؤيته الذاتية للمشهد الذي يقوم برسمه. فالواقع في الموسيقى هو الصورة الأولية للتسجيل الذي تم بالاستوديو من دون إدخال مؤثرات عليه وتحريره أو الموسيقى الحية.

سباق الصوت الأضخم

تبقى هناك إشكالية ومنذ بداية الألفية وهي سوء توظيف التكنولوجيا من خلال سباق الصوت الأضخم حجمًا (loudness war). فبعد نشأة التكنولوجيا الرقمية أصبح من الممكن زيادة مستوى صوت الموسيقى المسجلة بالصيغ الرقمية، ليتنافس الموسيقيون وشركات التسجيل والمنتجون على إنتاج مستوى صوت أضخم حجمًا بالألبوم. وللوصول إلى هذا الصوت يتم رفع مستوى الأغنية المسجلة، مع إضافة مؤثر ضاغط الصوت (compressor) الذي يقوم برفع مستوى صوت الأجزاء المنخفضة ليتساوى صوتها مع الأجزاء العالية. ينتج عن ذلك إتلاف المدى الديناميكي للمقطوعة المسجلة؛ وهو الفارق النسبي بين مستوى صوت الجزء المنخفض والجزء العالي. فليس من الطبيعي في نفس الأغنية أن يتساوى مستوى الغناء المنفرد المصاحب لآلة الباص بمستوى جزء آخر به غناء وأربع آلات أخرى. يؤدي ذلك إلى تشويه الموسيقى المسجلة وعدم راحة أذن المستمع. حتى في حالة خفض صوت جهاز تشغيل الموسيقى لا يعوض ذلك المدى الديناميكي المعدوم. من ناحية أخرى فإن الإفراط في استخدام الضواغط يؤدي أيضًا إلى وجود تشويه في الصوت (digital distortion/clipping). يؤدي ذلك إلى صدور صوت مسطح ومصطنع وخالٍ من العمق والأبعاد.

تلك سمة من السمات الرئيسية للموسيقى الحالية والتي انتبه لها الموسيقيون وشركات التسجيل. لكن لعل هذا الأمر بمثابة أمر مقبول من قبل الشباب الذي نشأ وتعود على هذا الصوت الحديث، ولم يتعرف على صوت الكاسيت والفينيل والأغاني الخالية من الضواغط ذات المدى الديناميكي الأفضل. لذلك فإن التجربة الذاتية للمستمع هي الفيصل في هذا الأمر.

بجانب الوعي بسوء استخدام الضواغط من قبل شركات التسجيل وبعيب الأغاني ذات المستوى العالي، بات هناك توجه إلى الرجوع إلى الصيغ القياسية، وخصوصًا أقراص الفينيل التي ارتفع إنتاجها ومبيعاتها في خلال الثلاث سنوات الأخيرة بالولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا. وبمقارنة صوت الفينيل أو الشرائط الممغنطة بالصيغ الرقمية ذات الصوت الحاديظهر ما يطلق عليه الصوت (sound warmth). وهو باختصار صوت أكثر ثراءً وعمقًا ولا تظهر به الموجات العالية بنفس الدرجة التي تظهر بها في الصيغ الرقمية. حيث أن الأجزاء الميكانيكية الخاصة بأجهزة التشغيل القياسية تسفر عن صوت يشوبه تشوه في النغمات المنخفضة (harmonic distortion)، ينتج عنه زيادة في النغمات المصاحبة للنغمة الأصلية في مدى الموجات المنخفضة التي تزيدها ثراءً، يأتي ذلك على حساب الموجات العالية التي يتم حجب بعضها. بذلك ينشأ صوت ممتلئ ذو بعد وعمق. كما أن كثرة استهلاك الفينيل وشرائط الكاسيت يؤدي إلى ضعف المدى العالي.

فيديو يوضح من أين يأتي الصوت الدافئللأجهزة القياسية

مستقبل الموسيقى المسجّلة

من الصعب التنبؤ بمستقبل الصيغ الموسيقية والموسيقى المسجلة، ولكن من الواجب أن نتوقف مرة أخرى—بجانب ما ذكر في المقدمة—عند الثورة التي ساهمت بها الصيغ الافتراضية على الإنترنت منذ بداية الألفية وهى تفكيك السوق والمشهد الموسيقي وتحريره من الشركات العملاقة وإنتاجها الضخم وهيمنتها على صناعة الموسيقى. أدى ذلك إلى وجود مشاهد موسيقية أكثر استقلالًا وفتح مجال أكبر من التجريب الموسيقي بعد أن أصبح الفنان غير خاضعًا لشركات التسجيل العملاقة. بلغ الأمر أن الفنانين التجاريين اتجهوا إلى الاعتماد على الإنترنت واتباع نفس أسلوب الفنان المستقل الذي يقوم بتسجيل وانتاج أعماله من الاستوديو المنزلي. نجد أن هناك تغير واضح في الموازين، فأصبح الفنان التجاري يسعى ويتطلع إلى آلية الإنتاج الخاصة بالفنان المعتمد على الإنتاج المحدود، بدلًا من حدوث العكس مثل في حالة طرح راديوهاد وناين إنش نيلز (وكثيرون غيرهم) أعمالهم على الانترنت. أدى ذلك إلى انخفاض مبيعات الصيغ الملموسة للفرق كي يقوموا بتعويض هذا النقص من خلال حفلات العروض الحيّة.

في نهاية الأمر يعود بنا الحديث مرة أخرى إلى الموسيقى والعزف الحي وماهية الموسيقى المسجلة التي طرحها إديسون ومن جاؤوا من بعده، وهى قدرة نقل قاعة العرض إلى غرفة المعيشة“. نرى أن تطور التكنولوجيا يفرض بطبيعته على الموسيقى المسجلة إنحرافها عن مسارها الأصلي وهو مطابقة الموسيقى الحية أو حتى الصورة الأولية لموسيقى المسجلة بالاستوديو. بل تعود بنا التكنولوجيا إلى خطوات للوراء بعد ظهور اتجاه مضاد لصوت الموسيقى المسجلة حديثًا، ومن خلال بداية ارتفاع مبيعات أقراص الفينيل من جديد، ووجود ميل إلى الصوت القياسي والإقبال على العروض الحية مع استمرار برامج التسجيل الرقمية ومميزات الإنترنت من حيث الإنتاج والدعاية. فما نسمعه في النهاية الآن على الحاسوب أو جهاز الآي بود هو صوت مختلف تمامًا عن الصوت الأوّلي للفريق الذي تم تسجيله بالاستوديو.

بذلك تظل الحفلات الحية الصيغة الأكثر مصداقية لصوت الفريق الأصلي، لتصير عملية الاستماع في النهاية وتقييم الموسيقي خاضعة للتجربة الذاتية الخاصة بأذن وذوق المستمع.

المراجع:

– David Byrne: How Music Works
– Greg Milner: Perfecting Sound Forever
– Mark Katz: Capturing Sound
– Dan Hosken: An Introduction To Music Technology
– Alex Ross: Listen To This
– Jonathan Sterne: The Audible Past
– David L. Morton Jr.: Sound Recording
– Thomas Y. Levin: For The Record (
http://www.clas.ufl.edu/users/burt/UnReadingDisaster/778934.pdf)
Hugh Robjhons: Analogue Warmth (
http://www.soundonsound.com/sos/feb10/articles/analoguewarmth.htm#Top)
Roger Beardslay: Speed And Pitching For 78rpm Gramophone Records (
http://www.charm.rhul.ac.uk/history/p20_4_3.html)