دياز يأخذ وقته | مقابلة

في العامية الجزائرية، لا يقتصر لفظ الحومة على الحي فقط، فهو مشتق من المحمية، أي ذلك المعقل الجغرافي المحدد الذي يحتمي فيه الساكن فيوفر له الأمان والطمأنينة بين جدرانه وأصحابه. للحومة قدسيتها وهيبتها خاصة في الأوساط الحضرية المحافظة، تنافس شيوخ الشعبي على وصفها والتباهي بمعالمها، ثم تناقل أحفادهم هذا التقليد مطلع التسعينات، بعد تأثرهم بموجة الهيب هوب النيويوركية والمارسيلية القريبة، ولم تعد أغاني الحومة مجرد حنين وشوق واعتزاز، بل اكتسبت بُعدًا أوسع، أكثر جرأة وأدق تفصيلًا، زنقة زنقة، شمل نواحي الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية، مثلما يمكن أن نتلمسه بوضوح في مشروع فريد دياز الأخير، الذي جعل من حومته لوساندي مركزًا ارتداديًا رئيسيًا ثارت من خلاله أفكاره وتوجهاته، سواء الفنية أو النضالية.

قبل أن يشد دياز الرحال إلى فيينا ليشارك في حفل جورج جاكسون في شمس فلسطين بداية أكتوبر، ثم يعود بعدها إلى فرنسا، استغللت تواجده في الجزائر فأجريتُ معه هذه المقابلة في الاستوديو الجديد بحسين داي (العاصمة)، بعد رحلة ليلية برية من أقصى الشرق دامت ست ساعات، أمدّتها حوادث المرور المتناثرة فصارت سبعًا، فلم أجد بداً غير الغوص في سماعاتي ومراجعة كلاسيكيات الأم.بيس تحضيرًا للقاء، فنط زر التشغيل أوتوماتيكيًا كما يحلو له بين أولاد البهجة ومعركة الجزائر.

حين وصولي في الثامنة، هاتفت فريد كما اتفقنا، فبدا وكأنه استفاق لتوه من النوم. تأكد لي ذلك بعد أن أخبرني بأنه أغمض جفنيه على الخامسة فقط. علمت أن لقاءنا سيطول. كيف لا وهو في حالته الطبيعية معروف بجر لسانه والتثاقل في الكلام لذلك سمي بدياز نسبة إلى مخدر الديازيبان فما باله إذا كان نصف صاحٍ؟ الحوار طال فعلا بين مقهى الحومة والاستوديو واستمر حتى الواحدة زوالًا، لكن ليس بسبب بطء في الحديث. لعل استحضار الذكريات أعاد شحن بطاريات فريد فاسترسل في الكلام والتنفيس عما بداخله.

فريد، بدايتك كانت مدوية سنة ٢٠٠٣، هل يمكن أن تحدثنا عن ذلك الفريستايل الذي تسبب في منعك من البث الإذاعي؟

تلك السنة أرادت الإذاعة الفرنسية الشهيرة سكايروك تنظيم برنامج خاص بالراب الجزائري، هو امتداد لبرنامجها الرائج پلانِت راب، وقامت بذلك فعلًا بالتعاون مع الإذاعة الجزائرية الثالثة (الناطقة بالفرنسية). كنت من بين المشاركين خلال اليوم الأول، لكن المفاجأة أنني تعرضت للإيقاف مباشرة بعد بضع دقائق من بدايتي. رسائل من هنا وفاكسات من هناك كلها تندد بأغنيتي المقدمة بالفرنسية، والتي حسب تصريحات الوزارة اتصفت بالعدائية والعنف. بسببي تم تغيير نظام البرنامج ومُنع بقية الرابرز المشاركين خلال السبعة أيام الموالية من أداء وصلاتهم على المباشر. واصل البرنامج البث مسجلاً حتى تسهل مراقبة المحتوى. في اليوم السابع والأخير كان من المقرر أن يجتمع كل الرابرز وأنا من بينهم، وحينما ذهبت لأشارك معهم منعني رجال الأمن من الدخول وطلبوا مني العودة إلى البيت.

إذن المشكلة أنك غنيت بالفرنسية وقلت كلامًا غير مباح؟

لا توجد مشكلة أصلاً لأن الإذاعة الفرنسية هي التي استدعتني من أجل المشاركة في البرنامج وليست الإذاعة الجزائرية، فمن الطبيعي أن أؤدي باللغة الفرنسية، في حين أن الكلمات عبرت ببساطة عن الواقع المعاش دون تحريف أو بهتان. لا أرى مشكلة في التعبير عن انشغالاتنا ونقلها إلى بقية العالم. في السنة التالية سافرت إلى فرنسا بعد أن تم استدعائي من جديد من طرف نفس الإذاعة، غير أن الأجواء هناك لم تعجبني وبالتالي رفضت المشاركة في برنامجهم.

ألا زلت تذكر بعض الكلمات من الأغنية؟

للأسف الأغنية كانت فريستايل.

في تلك الفترة بدأت تقترب من فرقة أم.بيس؟

نعم، كان ذلك تدريجيًا عن طريق الداي ماد (أحد أعضاء أم.بيس) الذي أسس السيكتور اش، فرقة صغيرة كان يتولى الإنتاج الموسيقي لها. من بين الأعضاء كان هناك مو بلاك، أنا، موح ٤٫٤ وغيرهم. في الحقيقة لم نكمل الألبوم الذي كنا بصدد التحضير له بسبب غياب الجدية والخبرة، لكن بما أنني كنت دائم الحضور رفقة مو بلاك فقد قررنا سويًة إنشاء فرقة جديدة أسميناها أوكسيمور، تقوم على مبدأ التناقض وجمع أمور متنافرة: مثلًا أنا أبيض البشرة وهو أسمر، أنا أغني بالفرنسية وهو بالعامية، تلك كانت فكرة ألبوم روبورتاج الذي سجلناه عند ديجي بدري في استوديو القصبة وصدر سنة ٢٠٠٥.

بالحديث عن ذلك الألبوم، هناك سطر تتحدث فيه عن الهجرة “j’ai le cul entre deux chaises”، البعض رأى أنها إشارة إلى سطر شهير لريمكا في راب المغاربة، هل هذا صحيح؟

لا، غير صحيح. المقصود من كلامي أنني لست من المهاجرين الذين يدعون سخرية بـ (beurs) بل مجرد جزائري يعيش بين الجزائر وفرنسا، حتى وإن كنت أغني بالفرنسية.

هناك أغنية أخرى مع أوكسيمور انتقدت فيها وضعية الراب منتصف الألفينات “beaucoup de hip hop bordélique, et putain de klashes à balles-deux” هل هي إشارة إلى كلاش معين؟

لا، كنت أتحدث بصفة عامة ولم أكن أقصد أي شخص بالتحديد. وإن كنتَ تشير إلى كلاش طوكس فذلك وقع بعد ذلك (٢٠٠٧).

ذكرتني بمقاطع نسيتها تمامًا، لم أسمعها منذ أكثر من ١٢ سنة.

بالحيدث عن الكلاش، هل يمكن أن نعود إلى مواجهة أم.بيس الشهيرة مع فرقة طوكس الوهرانية؟

في الحقيقة قررنا عدم التعليق عن الموضوع وغلقه، من عاش تلك الفترة يعرف ماذا جرى، ومن لم يعشها فهي مجرد ماضٍ طويناه.

أكيد، لكنها جزء من تاريخ الراب الجزائري.

حسنًا، ذلك الكلاش لم يخرج عن إطار الاحترام المتبادل، دافع فيه كل طرف عن توجهه الفني الذي يمثله. مثلاً في خوذ ما عطاك الله انتقدت بصفة عامة فكرة التشبّع الأعمى بثقافة الغرب مع تناسي ثقافتنا الخاصة، هي فكرة الأصل والعصر المعاصر التي أدافع عنها باستمرار في أعمالي. الكلاش احتكاك ضروري أحيانًا كما يحدث في السياسة بين الأطراف الفاعلة، في النهاية هو تحدي موسيقي وتقني، والباقي كما يقول رابح الروح العمية (من العمياء)”.

بالنسبة للسياق العام الذي جرى فيه الكلاش، أذكر أنه نشر على منتدى راب ألجيريان.كوم، وكانت له خصوصياته عكس ما نرى اليوم أين تغلب الحسابات الشخصية على الجانب الفني، فتفقده نكهته.

diaz

البناية التي نشأ فيها دياز على غلاف ألبوم الحومة. توجد البناية في حي المقارية (حسين داي)

هل هناك نقاط إيجابية من خلال هذا الاحتكاك؟

أظن أن الكلاش والإنترنت لا يتماشيان سويًا (يضحك)، لو كان الكلاش ينحصر ضمن ألبومات فقط أو مقابلة وجهًا لوجه أمام الجمهور ينتهي وبمجرد مغادرة المكان، لما وصلنا إلى أمور سلبية كما نرى في عصر شيوع الإنترنت. للأسف أحيانًا نفقد التحكم في زمام الأمور وتتحول تعليقات المستمعين إلى مواجهات تشطرهم نصفين، موقعةً إياهم في فخ الجِهَوية. وجدنا أنفسنا في مواجهة وهران كاملة وليس طوكس فقط، والعكس أيضًا بالنسبة إليهم. وهنا أنا أحدثك عن زمن المنتديات والسكايبلوج، اليوم مع مواقع التواصل الاجتماعي الأمر ازداد تعقيداً، ويمكن للجمهور وحده أن يوجه دفة الكلاش أينما أراد.

إذن هي تجربة للنسيان؟

لا، هي تجربة تعلمنا منها الكثير، وبفضلها لن نقع في هذا الفخ من جديد، وأظن أن عضوي الطوكس (مليك وبانيس) قد يشاركاني الرأي أيضًا. رفعنا هذا التحدي التقني في الماضي واليوم لا نريد خوضه مرة أخرى، خصوصًا وأن صورة الكلاش تعدت الجانب الفني وأصبحت منحصرة في الشتائم والمناوشات التافهة، ونحن نعمل على تظليل هذه الصورة قدر الإمكان.

بالعودة إلى ألبوم روبورتاج، يبدو أنه أول ألبوم أنتجته ذاتياً؟

فعلًا، عندما صدر ماكي بلا سلاح خامس ألبوم لفرقة أم.بيس، لاحظنا الكثير من النقائص المادية والمشاكل التسويقية، فشركات التوزيع والنشر عندنا غير جادة. مثلًا هي لا تعطيك أصلاً معلومات حول تاريخ الصدور الدقيق لمنتوجك، وقد يتعطل بسبب فصل الأفراح والأعراس. كلها أمور تافهة دفعتني إلى التفكير في تسويق ألبوم روبورتاج بنفسي. طبعنا النسخ ووزعناها في الحومة، من يد إلى يد، ومنذ تلك التجربة أدركت أن هذه هي الطريقة الأنسب للعمل وإيصال مشروعي بأمانة إلى المستمع، دون الاعتماد على شركات جشعة ذات مبتغى مالي فقط.

متى تم اعتمادك رسميًا كعضو مع فرقة أم.بيس؟

في الحقيقة كنت دائمًا مقربًا من الفرقة. أذكر أن الأعضاء كانوا يأتون باستمرار إلى حسين داي وأنا كنت ألازم ياسين والداي ماد كثيرًا، فبفضل هذا الأخير تعلمت مباديء وأساسيات البيتمايكينغ. فأنت تعلم أن الداي طور إمكاناته الموسيقية نهاية التسعينات بعد تجربة يونيفرسال، وكان يهتم بتقنية العينات الصوتية في زمن رواج الأسطوانات، وهو بالتالي خبير جيد في هذا الميدان رغم كونه رابر في الأصل.

ما جعلني أنجذب أكثر إلى فرقة أم.بيس كون أعضائها ينحدرون من نفس الحي وأنا أشاركهم توجهاتهم السياسية والفنية. تم استدعائي وشاركت في ألبوم ماكي بلا سلاح في أغنية واش، بعدها أصبحت عضواً جديدًا غطيت ذهاب رضوان، وعدنا إلى فرنسا من أجل التحضير لمشاريع جديدة.

كنا نتمنى أن نراك في ألبوم جديد رفقة الفرقة، ماذا حدث بعد ذلك؟

كما يعلم البعض فقد سجلنا ألبومًا جديدًا في فرنسا، غير أن مشكلةً تقنيةً غير متوقعة أتت على كل الإنتاجات والملفات الخاصة بالمشروع، بعدها كان من الصعب إعادة العمل من جديد فانتقلنا إلى شيء آخر. هذه المرة ميكستايب جمعنا فيه أصدقاءنا المقربين مثل زاد، ماموث، موح وغيرهم، لكن للأسف حتى هذا المشروع لم يكتمل واضطررنا إلى نسيانه.

ربما لأن رابح سافر إلى إسبانيا وبالتالي فقدتم الاتصال المباشر بينكم؟

آه نعم، رابح انتقل للعيش إلى إسبانيا وهناك قام بالتحضير لألبومه الأخير آخر عيطة، بينما أنا واصلت العمل على ألبومي الفردي الأول الحومة وصورت أول فيديو كليب رفقة الداي ماد وزاك سنة ٢٠١١.

قبل الحديث عن ألبوم الحومة، أود الاستفسار عن أخبار رابح لو سمحت، هل صحيح أنه يحضر لألبوم جديد؟

طبعًا، هناك مشروع ألبوم جديد هو بصدد إتمامه، ويود طرحه حينما تتاح له الفرصة المناسبة، دون أن يكون مجرد مشروع عابر لا يحظى بالاهتمام والدعاية اللازمة. لقد التقيت به منذ فترة قصيرة في الجزائر، وهو كما تعلم مشغول ومرتبط بتصوير برنامج ماستر شف إضافة إلى إدارة مطعمه اللندني.

وماذا عن الداي؟ ألن يصدر ألبومًا أبدًا؟

لطالما تحدثنا معه (أنا ورابح) حول هذا الموضوع، البيتمايكينغ أخذ منه وقتًا طويلًا لهذا تراجع نوعًا ما عن الكتابة، لا تنسَ أنه أنتج نصف أغاني رابح بريزيدون وماكي بلا سلاح، إضافةً إلى عشرات الأعمال للفرقة وغيرها.

السنة الماضية (٢٠١٦) كانت لكم إطلالة جماعية،هجيرة أيضًا عادت.

نعم لازلنا نلتقي لكن مشروع عمل يجمع بيننا كلنا هو أمر مستبعد.

اسمك فريد وطريقة عملك فريدة، كيف بدأت العمل على ألبوم الحومة (الحومة هي الحي في العامية الجزائرية)؟

سعيًا مني لتقديم أعمالي بطريقة مختلفة أو فريدة، أردت أن أطرح ألبومي قطرة قطرة طيلة ١٢ سنة كاملة، أي بمعدل أغنية كل عام، هذه الطريقة أعطتني الوقت الكافي لكي أصل بكل عمل إلى المستوى المنشود.

بعد أن طرحت آخر أغنية ما تدعش علينا قمت أخيرًا في ديسمبر ٢٠١٦ بتحميل الألبوم كاملًا على منصات بيع الموسيقى الافتراضية ونسخ أقراص لتوزيعها في الحومة، ألبوم مطروح بطريقة عكسية.

لماذا الحومة بالذات؟

الاستوديو الذي كنت أمتلكه آنذاك كان يطل مباشرة على الشارع، اتخذته كنافذة مفتوحة أطل بها على المارة وحركاتهم الدؤوبة التي تميز حي حسين داي، كل هذه الأجواء ساعدتني على البقاء ضمن دائرة شعبية ووصف دقيق لحال الحومة وسكانها.

البداية سنة ٢٠٠٤، يغيضني الحال.

نعم، بفضل احتكاكي الدائم بالداي ماد، اكتسبت تجربة سريعة في صناعة الموسيقى وفتحت استوديو خاص بي في حسين داي، أول عمل آلاتي صنعته هو يغيضني الحال وسجلت عليه أول أغنية من الألبوم رفقة موح ٤.٤.

في الحقيقة فكرة الألبوم بدأت تتبلور سنة ٢٠٠٦ عندما أنتجت عرسلو، أغنية راب ذات طابع شعبي، امتدادًا لمحاولة أم.بيس إدخال عينات شعبية في أغانيهم، فالاستخبار الذي نسمعه في البداية هو لـ معطوب الوناس وعازف الموندول الذي اعتمدت عليه هو قريب معطوب (ابن عمه) ما أعطى العمل نكهة خاصة.

الراب – شعبي مزج بين طابعين متباعدين، كيف استطعت التوفيق بينهما؟

في حياتي اليومية أسمع موسيقى الشعبي أكثر مما أسمع الراب، فمن الطبيعي إذًا أن أتأثر بهذه الموسيقى التقليدية وأحاول تجسيد اهتمامي وولعي بها في قالب عصري بغية إعطائها نفساً جديدًا. لو تلاحظ في أمريكا فإن الراب هناك عرف مزجًا بعدة طبوع محلية كالجاز والسول والفَنك والروك وغيرها، أنا لست مجبرًا على تتبع واستيراد كل هذه الطبوع الأجنبية ما دمت ملهمًا بموسيقى الشعبي الخاصة بنا، فلماذا لا أستحدث طابعًا خاصًا ومزيجًا رابويًا شعبيًا؟ إرث الجزائر الموسيقي غني جدًا سواء من حيث الألوان أو الجذور: الراي والأندلسي في الغرب، المالوف في الشرق، الديوان في الجنوب، فأنا أفضل استثمار كل هذه الطبوع وتطويرها عن طريق استحداث عيناتها وإدماجها في موسيقى عصرية كالراب. نحن محظوظون مقارنة مع فرنسا مثلًا، هناك نهلوا من أعمال شارل أزنافور حتى نفذت العينات ولم يعد بإمكانهم الغوص أكثر في إرثهم دون الوقوع في التكرار.

لكن يبدو أنك من آخر المدافعين عن مزج الراب بالشعبي، أين يكمن الخلل؟

ربما هي قضية أذواق قبل كل شيء، فكما قلت لك أنا متأثر بموسيقى الشعبي لكنني في نفس الوقت أسعى إلى خلق توازن بين العالمين: أنا لا أغلق على نفسي في دائرة راب فقط، ولا أفرط باستعمال الشعبي في نفس الوقت. إيجاد ميدان مشترك يجمع بين الاثنين دون أن يطغى واحد على الآخر مهم جدًا، وهذا ما حاولت القيام به في ألبوم الحومة، حيث توليت بنفسي إنتاج ٨ أغانٍ تندرج ضمن هذا السياق، بينما أسندت الثلاث الباقية إلى منتج ألماني صديق (الحومة، أونسيان جدد) وشنود الجزائري (ما تداعش عليا).

نقطة أخرى مهمة، تأثري بالشعبي لم يتوقف عند الجانب الموسيقي، بل تعداه إلى النص. بنية أو هيكلة القصيدة في الأغنية الشعبية مثيرة للاهتمام بأجزائها المختلفة، بداية من الاستخبار كمقدمة ارتجالية للعازف أو المؤدي، يليها البيت أو المقطع ثم الصياح كاستراحة أو كما يعرف في الموسيقى العصرية بالجسر الفاصل بين اللازمة والمقطع الموالي. يمكن الوقوف على هذا من خلال إمعان السمع إلى أجزاء سيفيل في بلاد العسكر مثلًا، فالآذان الخبيرة يمكنها ملاحظة استخدام فلو شعبي مختلف لمغنيين شعبيين، في المقطع الأول تأثرت بطريقة معطوب الوناس المعروفة بمزج صوتين واحد أجش والآخر حاد، هناك إشارة أخرى إلى دحمان الحراشي عندما قلت غير تحل فمك هاك كول، رجعونا قاع جيعانين، كما أشرت إلى عمر الزاهي في اللازمة وكمال مسعودي في المقطع الثاني. تأثرت أيضًا ببعض النصوص الفخرية أو كما تعرف في الراب بالإيجوتريب، وهي حقيقة نصوص رزينة ودقيقة الوصف.

من هم فنانو الشعبي الأكثر تأثيرًا عليك؟

من دون شك معطوب الوناس، ليس بسبب اللغة الأمازيغة الأم فقط، لكن معطوب شخصية مناضلة أكسبت موسيقاه بعدًا جديدًا تمثّل في نصوص ملتزمة ومكافحة على ألحان امتزجت بين الأندلسي، القبائلي والشعبي. لم يكتفِ بإعادة إحياء القصيد بل كان صاحب رسالة كما هو حال الرابرز اليوم. أنا من أشد المعجبين أيضًا بالشيخ عمر الزاهي، الحسناوي، العنقى. الباجي يشدني في القصيد كونه يكتب عن الجزائر المعاصرة، الجزائر القريبة إلينا والتي نعيشها اليوم.

في الحقيقة باقي أعضاء أم.بيس أيضًا مولعون بالشعبي، فالداي ماد ملهم بآيت منقلات ورابح بمعطوب أيضًا وبفضيلة الدزرية.

أغنية معركة الجزائر لم تدرجها في الألبوم، لماذا؟

بسبب حقوق المؤلف، استخدمت عينة موسيقية من فلم معركة الجزائر وبالتالي لا أستطيع إدماجها مع الألبوم. لكن الأغنية تندرج ضمن نفس السياق الموضوعاتي لباقي الأغاني وبالتالي يمكن اعتبارها بونَس متوفر على اليوتوب.

منذ مدة كنت أحاول استخدام موسيقى الفيلم لاينيو موريكون في أحد أعمالي غير أنني لم أجد الفكرة المناسبة، إلى أن زارني رابح العام الماضي في الاستوديو وطلب مني سماع بعض الألحان الجديدة. كنت قد بدأت الاشتغال على عينة من معركة الجزائر وأريته النتيجة، أعجب بها وقررنا البدء في كتابة نص يوازي بين جزائر الثورة وجزائر اليوم التي تحتاج بدورها إلى ثورة مغايرة. الفكرة هي خلق جسر بين عصرين مختلفين وأظن أننا لم نكن لنصل إلى ذلك دون اللجوء إلى تقنية تركيب أجزاء معينة من الفلم حرصنا على انتقائها سويةً بعد مشاهدته عشرين مرة. معركة الجزائر هي من بين الأعمال الفنية التي لا يمكن فيها فصل الصوت عن الصورة، إذا استمعت إليها فقط دون مشاهدة التركيب ستفهم المغزى من زاوية واحدة.

مثل سيفيل في بلاد العسكر أيضًا؟

نعم، نفس الشيء. الكثير يخجل من ثقافتنا ويسعى دائمًا إلى نقلها في أرقى صورة ممكنة حتى وإن كانت مصطنعة ومتكلفة، متناسيًا البساطة والواقعية. أين نقيم الحفلات نحن؟ في الملاهي؟ لا، في الأعراس والأفراح الشعبية، بديكور تقليدي تكسو موائده مختلف أنواع الحلويات. هذه هي الصورة التي أود نقلها بصدق ودون أدنى خجل، من الضروري أن يعرف المشاهد هذه الأمور لكي يعرف عمّا أتحدّث عنه في نصوصي.

في نفس الوقت، أنا لست ضد الاعتناء بجمالية الصورة، لكن ما نراه من تقليد لثقافات هي ليست لنا مزعج ومنفر، كل هذا البلينغ بلينغ مثلًا والحركات الطائشة والسيارات مجرد خيال لا يمت إلى الواقع بصلة، نعلم جيدًا أنه يزول بمجرد إسدال الستار.

مشاهدات الكليب مرتفعة بالنسبة لرابر مثل دياز، ما رأيك؟

وضعنا الكليب مباشرة على اليوتوب دون استمالة الجمهور من أجل نشره أو تسويقه بالمال، ليس من عادتنا أن نجبر أحدًا على مساعدتنا في الترويج. من أعجبه العمل ليشاركه ومن لم يعجبه لا يشاركه ببساطة. هذه المشاهدات تدل على أن هناك جمهورًا واعيًا بقيمة العمل الذي نقدمه.

دياز، أنت معروف بقلة إنتاجاتك الفنية، ما السبب وراء ذلك؟

البعض يصدر العديد من المشاريع في وقت وجيز ثم يجلس وينتظر ردود الأفعال ونقد الجمهور، ويبقى يتحسر بعد ذلك: لو فعلت كذا وكذابينما أنا أفضل تجريب كل شيء في الاستوديو وأخذ الوقت الكافي قبل إصدار أغنية واحدة لتكون في أكمل حلة عندما أطرحها أخيرًا. إنها سنة كاملة من الكتابة والبحث الموسيقي لكي أصل بمنتوجي إلى المستوى الذي أبتغيه. لا تنسَ أيضًا أنني غير ملزم بأي ارتباطات مع الشركات أو الاستوديهات، فأنا أعمل بشكل مستقل ولحسابي الخاص، إضافة إلى كوني بيتمايكر في نفس الوقت، أصنع موسيقاي الأصلية على مقاسي وحسب مزاجي، وفي الكثير من الأحيان أعمل مع عازفي موندول، بانجو، دربوكةوكل هذه الأمور تأخذ وقتًا ليس قليلاً. هذه هي طريقة عملي التي أحبذها.

أمر آخر بخصوص التعاونات، أنا أفضل الالتقاء في الاستوديو عند تسجيل أغنية مشتركة كما كنا نفعل قبل غزو الإنترنت، ولا أستطيع التعامل عن بعد عن طريق إرسال الأكابيلا افتراضيًا، فهذه الطريقة وإن كانت مربحة للوقت والمسافات فهي مقيدة للحرية، فأنت ستكون حينذاك ملزمًا باتباع طريقة العمل الأولى ولن تستطيع إحداث أي تغيير أو تحسين سواء كان كتابيًا أو تقنيًا كما تفعل عندما تكون في الاستوديو.

أنت أيضا معروف بمحتوى أغانيك المتمرد، ألم تحدث لك مشاكل مع الجهات العليا؟

ربما في البداية فقط لأن التطرق إلى مواضيع حساسة كان قليلًا، خاصةً في الراب الجزائري. تعرضت إلى مضايقات غير مباشرة كالاتصالات وركن سيارات الأمن أمام البيت، غير أن الأمور تغيرت مقارنة بالماضي عندما كان الفنان يُقتل أو يضطر إلى الرحيل لمجرد أنه فتح فمه مثل بعزيز مثلًا. اليوم الخنّاق فك قليلاً ليس لأن حرية التعبير تحسنت لكن الفن المتمرد أصبح ذريعة وحجة تُستعمل في وجه من يشكك بوجود معارضة ورأي آخر، يعني تكلم في ما تريد مادمت مَقصيّاً من الإذاعة والتلفزيون والإعلام الخاص، والمهرجانات.

هناك أمر مهم وهو طريقة التطرق إلى هذه المواضيع، عندما أقول روحانيفأنت تعلم عمّن أتحدث بالضبط، لي كان يطبل أيضًا، ما الفائدة من ذكر أسماء وشتمها كما يفعل البعض إذا كان هناك قانون يحمي رموز الدولة؟ هل هي شجاعة عندما تصرح بأسماء معينة؟ لا، أنت ترمي بنفسك إلى التهلكة، ربما بالنسبة للجمهور أنت تقول الحقيقة لكن في المقابل للحقيقة ثمن يجب أن تكون قادرًا على دفعه.

أظن أنك ذكرت اسمين في انقلاب.

كانت المرة الوحيدة والأخيرة، والمؤسف أن تلك الشخصيتين قد غادرتا منصبيهما، والشعب لم يستفق بعد (يضحك).

غيرت تسمية انقلاب بعد أن كانت “100 voix d’Algérie”، لماذا؟

بسبب موقع آيتونز، لقد رفضوا قبول أسماء أغانِ باللغة الفرنسية وأجبروني على اختيار أسماء بالعربية، لا أعلم لماذا بالتحديد، لم تكن هناك مشلكة عندما وضعت ألبوم رابح آخر عيطة سنة ٢٠٠٩.

كيف وجدت ردود الأفعال بعد طرح الحومة؟

لم أكن أتصور أن يصل الصدى إلى خارج الوطن بسرعة، كأن تُستخدم موسيقاي في فيلم مثلًا، أو يقدم أحدهم مذكرة تخرج في جامعة الصوربون تعالج قضية فني أو تدرس معركة الجزائر في جامعة كولومبيا الأمريكية. لاقيت اهتمامًا أيضًا من الإعلام الأوروبي من خلال عدة مقالات وحوارات مخصصة.

نقطة مهمة حول الإعلام، كيف ترى تهميش الصحافة الجزائرية لما تقدمه مقابل هذا الاهتمام الشديد مما وراء البحار؟ لوموند وليبيراسيون كتبا عنك. ما تفسير هذه الظاهرة؟

أظن أنها قضية ثقافة وفكر، في الجزائر لا يزال الفن منحصرًا في جانب الترفيه والفولكلور فقط، يعني الأغنية مناسباتية عندنا، نستمتع بها في الأفراح والسيارة، دون أن نبحث في بعدها العميق أو ندرس تأثيرها على الفن في حد ذاته والمجتمع بصفة عامة. تمامًا كما هو حال السينما، فالأفلام مجرد تسلية لتمضية الوقت، ونادرًا ما تجد ناقدًا يسلط الضوء على الجوانب الأخرى من القضية. في حين أن الدول الأوروبية متفتحة على كل فنون العالم، عندما يشاهد إعلامهم ظاهرة جديدة ولو في الخارج كالراب شعبي مثلًا أو منصة الحومة فإنهم ينجذبون نحوها محاولين استكشافها وتقييمها، رغم الاختلاف اللغوي والفكري. تقييم الفن عندنا شبه غائب للأسف خاصة من الجهات الرسمية. ومن خلال سفرياتي الكثيرة وعيشي بين الجزائر وفرنسا لأكثر من عشر سنوات، يمكن التأكيد بأن الفرق شاسع بين مكانة الفن والفنان هنا وهناك.

مشكلة الحفلات أيضًا، أنتم مدعوون إلى الخارج أكثر من الداخل.

نعم المشكلة عميقة. اليوم الذي سيعترفون به بمكانة الفنان ويقيمون أعماله دون النظر إلى اسمه، ربما ستتحسن الأمور.

كيف تواصل العطاء في ظل هذا التهميش المحلي؟

بفضل الجمهور الوفي الذي يتابعني، أنا اليوم أبلغ خمسًا وثلاثين سنة، ولا أستطيع أن أكتب عن شيء وأضحي في سبيله بالوقت والمال دون عائد إذا لم يكن يستحق العناء فعلاً. دوري كفنان يتمثل في التعبير عن الواقع وتبسيطه ونقله سواء لأناس بسطاء غير قادرين على التحليل أو لأناس عارفين كالأنتروبولوجيين يتخذونه كمادة أولية في دراساتهم.

هل وجدت المساندة اللازمة من طرف العائلة خلال كل هذه السنوات؟

كل أفراد العائلة على دراية بأنني فنان لكنني لا أحيطهم علمًا بكل عمل جديد، ربما لأنني لست من النوع الذي يفرض أذواقه على الغير. سأعطيك مثال بسيط: منذ فترة قصيرة فقط شاهدت والدتي كليب سيفيل في بلاد العسكر وكانت أول مرة تشاهد عملاً لي. أُعجبت كثيرًا بالأجواء التقليدية، ربما كانت تخشى رؤية كليشيهات خارجية لطالما سمعت عنها. والدي المرحوم أيضًا كان يشجعني ولا يرفض أن ينقلني مثلًا من تيزي وزو أين كنا نقيم إلى استوديوهات الجزائر العاصمة عندما كنت أطلب منه ذلك، كان يحثني على القيام بما أحب مادمت قادرًا على تحمل مسؤولياتي وتبعات فني.

هناك نادرة طريفة حدثت منذ عشر سنوات تقريباً، عندما زارنا إلى البيت الصحفي الفرنسي المعروف سيرج موواتي منشط القناة الخامسة. تفاجأت والدتي عند رؤيته وصاحت: أليس هذا رجل التلفاز الذي نشاهده؟ (يضحك). هذا هو طبعي لا أحب أن أصبح بفني على كل الأسطح، ولا فرق بين فريد ودياز فيما أقوم به.

قبل أن نختتم، حدثنا عن موجة ١٦ عالطاير التي دخلت الجزائر بفضلك؟

نعم، الفكرة جاءت من أدهم، رابر مصري، ثم انتقلت إلى صديق فلسطيني هو أسلوب الذي نقلها بدوره إلي. مثلما لاحظت فقد تحركت ساحة الراب الجزائري بشدة وشارك جميع الفاعلين الحاليين حتى المعتزلين منهم. بفضل هذه المبادرة تساوى الجميع أمام الميكروفون، سواء صاحب الكليبات العالية الجودة أو الصوت المحترف. مثل هذه المبادرات مهمة جدًا بالنسبة للرابرز الصاعدين، عليهم أن يكثفوا من التواصل فيما بينهم، ومن لا يستطيع خلق تعاونات حقيقية، يمكنه تحقيق ذلك افتراضيًا. الاحتكاك مكسب للخبرات ولايجب أن يبقى كل رابر منكمشًا في زاويته بعيدًا عما يجري في العالم.

آخر سؤال، ماذا بعد الحومة؟

كالعادة لا أزال أسير بوتيرة أغنية في العام وسأطرح الجديد قريبًا. سيكون مشابهًا في فكرته لما قمت به في سيفيل في بلاد العسكر، يعني سأركز مرة أخرى على التوافق في الإلقاء بين الراب والشعبي، فكما تعلم هناك الفلو في الراب، وما يقابله في الشعبي يسمى الهوى. أريد أن أطور هذا المزيج وآخذه إلى أبعد حدود: موسيقيًا، نصيًا وتقنيًا.