هل يمكن لرواية أن تكون فوجة؟ | عن باخ والسرد الروائي

تُرجم المقال عن ذ پاريس ريڨيو.

لم أكن مولعةً بـ باخ على وجه الخصوص وأنا أتعلم البيانو صغيرةً. أحببت بيتهوفن، شوبرت، دفوراك، وبرامس. باخ من الناحية الأخرى كان يصيبني بالصداع. التمرن على موسيقاه كان يحتاج تأنيًا واتزانًا، ويفضل أن يكون مع مترونوم، ولا الصبر ولا الاتزان كانا من سماتي. لم يكن اللحن لليد اليمنى كما هو متوقع، وإنما يمر من اليمنى إلى اليسرى ثم يعود لليمنى، موزعاً على عدة أصوات على طول السلم الموسيقي، بحيث تجد نفسك في أي لحظة تعزف أربع جمل لحنية أو أكثر. في نسخ هنلي الأصلية المجلدة بالأزرق والغالية، التي أصرت على أن أشتريها، كانت معلمتي تقوم بتعليم كل مدخل صوتي بأقواس، لم أستطع القيام بذلك بنفسي. إذا كانت ألحان برامس شعراً، فألحان باخ كانت رياضيات، أشبه بأحجية منطق لم أتمكن من حلها.

عانيت في بدايات روايتي الأولى كما العديد من الكتاب لسنوات. كتبت مئات الصفحات ورميتها غير قادرة على إيجاد شكل للقصة. حاولت مجدداً. واتتني بذرة القصة التي كنت أبحث عنها بعد سماعي برنامجًا على إن پي آر في نيسان \ أبريل ٢٠٠٥ عن رجل غامض ظهر في ساحل إنجلترا الشمالي، منقوعاً بالماء ومرتديًا بدلة رسمية. لم يستطِع قول مَن هو أو مِن أين، ولكن قيل إنه عزف البيانو كڤيرتيوسو. لقبته الصحف البريطانية بـ رجل البيانو، وبدا أنه يعاني من فقدان ذاكرة فصامي. علقت صورة هذا الموسيقي الضائع في ذهني، كما في أذهان آلاف الناس حول العالم ممن اتصلوا على خدمة الأشخاص المفقودين، ظانين أنهم عرفوه، راغبين بتعريفه للمعنيين، حتى وإن بدا واضحاً أنه أراد تجنب التعريف عنه، أراد الهروب.

فكرة حالة الفوجة حالة فصامية تؤدي لفقدان الشخص إدراكه لهويته هذه أثارت اهتمامي: تحدثتْ عن هجرة الإنسان كهرب ليس فقط من موطنه، بل من هويته أيضاً.

رغم أن صورة المهجَّرين الذين تلقي بهم الأمواج على شواطئ أجنبية لم تصبح بعدُ جزءًا من وعينا العام، جعلتني قصة رجل البيانو أفكر في معنى النزوح، محاولة شخصٍ ما إعادة بناء حياته في مكان جديد وتشكيل هوية جديدة. هربَ جدودي اليهود، من طرف والدي ووالدتي، من أوروبا النازية في ١٩٣٩، في آخر لحظة، ورغم أن عائلتي لم تستخدم كلمة لاجئ على الإطلاق، إلا أن طيف سؤال غير مطروح رافق طفولتي: من كنا لنكون لولا الحرب؟ أردت أن يلقي مجاز رجل البيانو بظله على السرد كتذكير بالخسارات والتحولات التي يؤديها عبور الحدود.

تأتي كلمة فوجة من أصلها اللاتيني fugo، الهروب، بالإضافة إلى fugere، النزوح (التي أتى منها fugitive وrefugee). شكلت الهجرة والهروب ثيمتي روايتِي الرئيسيتين. الشخصية الرئيسية في الرواية، إيثر، تركت زواجها الفاشل وذهبت إلى لندن بعد وفاة ابنها. والدة إيثر المسنة، لونيا، والتي تطوف في حالة شبيهة بفصام الفوجة سببها المورفين، تعود بذكرياتها إلى النزوح عن أوروبا الشرقية في ١٩٣٩. جاڨاد، جار إيثر، عالم أعصاب مطلّق وهارب من إيران زمن الثورة. أمير، ابن جافاد المراهق، يهرب من الحياة اليومية عبر اكتشاف فضاءات المدينة المحظورة. لكنني اكتشفت بسرعة أن فحوى القصة الحقيقي ليس مما تهرب شخصيات روايتي منه، وإنما إلى أين – عن رغبتهم في التواصل.

أثناء صراعي مع مسودات الرواية الأولى، وجدت نفسي مأخوذة  ليس فقط بحالة الفوجة الفصامية، إنما بصنف الفوجة الموسيقي أيضًا. كتبت والسماعات على أذني، مستمعةً لباخ بهوس. يعرِّفُ مريم ويبستر الفوجة على أنها “مؤلّف موسيقي تتكرر فيه ثيمة أو اثنتين أو تحاكيان بعضيهما عبر تتابع التداخلات الصوتية، وتطور تآلفي يستمر مع تناسج الأجزاء الصوتية ببعضها”. تنامى حماسي لفكرة بناء سردي، كالفوجة، يدور حول “تتابع الأصوات المتداخلة”، وطباق الصور والثيمات المتناسجة. في الواقع، مصطلح الفوجة يشير صراحة إلى شكل سردي: الثيمة الرئيسية في الفوجة تسمى موضوعها، والأجزاء الفردية هي الأصوات، شكل بديل من الموضوع يمثل جوابًا، وهكذا. متطورةً من موسيقى غنائية في أصلها، اعتمدت الفوجة المبكرة على الكانزون، نوع من الأغاني أو القصائد الإيطالية الغنائية. تساءلت إذا كان الشعر نوعاً من الموسيقى، هل بإمكان رواية أن تكون فوجة؟

بحث الروائيون الحداثيون وما بعد الحداثيين مطولًا عن بدائل لشكل السرد التقليدي. “إذا كان الكاتب حرًا وليس عبدًا” قالت فيرجينيا وولف برثاء ، “لن يكون هناك حبكة”. أعاب ميلان كونديرا بشدة الاعتماد على “قواعد تقوم بعمل الكاتب له”. ولكنك إذا تخلصت من التقنيات التقليدية، ماذا بعد ذلك؟ ما هي عناصر التأليف التي بإمكانها إعطاء الرواية ما أسماه هنري جيمس “اقتصاد ذي نفس عميق  وبنية حيوية”؟

الموسيقى إحدى الاحتمالات. “كل الفنون تطمح إلى حالة الموسيقى” قال الناقد الفيكتوري وولتر بيتر قوله المشهور هذا مشيرًا إلى الطريقة التي توحد بها الموسيقى شكل ومادة الموضوع. “أفكر دائمًا بكتبي على أنها موسيقى قبل كتابتها” كذلك أفضت فرجينيا وولف في رسالة إلى عازفة الكمان إليزابيث تريفيليان. قال شوستاكوفيتش إنه كان “متأكدًا من أن تشيكوف ألف قصته القصيرة الراهب الأسود على شكل سوناتا”. تشيكوف نفسه وصف إحدى قصصه القصيرة نصيب بـ شبه-سيمفونية، رواية أنطوني بورجيس سيمفونية نابوليون (١٩٧٤) أخذت شكلها من سيمفونية إيرويكا لـ بيتهوفن. كذلك تأخذ رواية ريتشارد باورز تنويعات حشرة الذهب من باخ. بإشارة إلى باختين، يصف كونديرا تعامله مع الكتابة بالـ بوليفونية، نوع من “التعارض الروائي” الذي يعمل “بأسلوب شعري أكثر منه تقني”. هل باستطاعتي أن أكتب رواية عن فقدان الهويات الفصامي بشكل الفوجة؟ a novel about fugues in the form of a fugue كانت الفكرة مشوقة، وبدا لي أني وجدت المفتاح أخيرًا.

لكن كيف سيكون شكل رواية على هيئة فوجة؟ صعوبة ترجمة الفوجة الموسيقية إلى نثر جذبت العديد من الكتاب إلى المشروع، مع أني – وربما لحسن حظي – لم أعرف ذلك حين شرعت بالمحاولة. بينما يقترح مصطلح الفوجة قصة، يؤدي الالتزام بتقنية فوجية صارمة – حيث يتكرر الموضوع تقريبًا بنفس التعبيرات مع دخول كل صوت جديد – إلى طريقة سرد غريبة جداً. بالمثل، يستحيل  إيجاد مقابل في النثر لتزامنية الطباق في التأليف الموسيقي. ناقش الأكاديميون طويلاً فيما إذا كان جويس قد نجح في فصل السيرنيات ربات الغواية والعذاب في الميثيولوجيا الإغريقية في عوليس بإعادة تشكيل “فوجة بكل ما فيها من نوط موسيقية”، مع أن بورجيس ادعى بأنه حتى “جويس عرف طيلة الوقت أنه لم يكن بإمكانه إعادة إنتاج شكل فوجة.”

مع ذلك انجذب دوستويفسكي، جيد، كونديرا، نابوكوف، ووولف من بين غيرهم إلى تحدي الفوجة بطرق متنوعة. لبعضهم، مثل پاوند، كانت الفوجة تثير “لغزاً” أو “دوامة” من الأنساق.  لآخرين، كانت طريقة لخلق التناظر والتباين، إثبات رسمي لغنائية نثرهم. في روايته عام ١٩٢٨، نقطة تعارض نقطة، سعى ألدوس هكسلي لخلق حس هارموني وتضمينه عبر مجاورة شخصيات وأفكار متعددة متعارضة. كما يكتب بطل الرواية فيليب كوارل (والذي قرئ على أنه يمثل هكسلي في الرواية) في مفكرته: “موسقة الخيال… ضع ذلك في رواية. كيف؟ النقلات سهلة. كل ما تحتاجه هو عدد كاف من الشخصيات والحبكات المتوازية الطباقية”. تتبع رواية هكسلي “الطموحة” قواعد الفوجة دون صرامة، لكنها توضح كيف يمكن لشكل مماثل للفوجة أن يساعد على تشكيل معنى سردي مكملًا (وحتى مبدلًا) آليات الحبكة المملة في كثير من الأحيان.

في العقد الأخير من حياة باخ، لم يعد الطباق النغمي مستحبّاً. نبذ النقاد التنويريون التعقيد والرمزية المشفرة المفضلة لدى مؤلفي الباروك، مؤيدين بدلاً من ذلك أسلوبًا أقل تطلبًا من جمهوره وأكثر عاطفية. في أربعينات القرن الثامن عشر كانت فكرة الموسيقى كتداخل أفقي لأصوات فردية تفسح مجالاً لطريقة التأليف العمودية، مركزة على لحن معزز ببنية تآلفية من الكوردات، وهو النهج الذي لا يزال متبعًا اليوم. لكن باخ لم يهتم بالألحان التي ترضي الجمهور. مثَّل الطباق النغمي بالنسبة له أكثر من مجرد تقنية تأليف: أظهر التعبير الأسمى لكلٍ من الاتساق الكوني والألوهة فوق الوصف. كما قال المؤلف والناقد ويلفريد ميلرز مرة بذكاء أن باخ “يعزف للرب ولنفسه في كنيسة فارغة”. فسر الكاتب جيمس ر. جين ذلك بأن باخ “كان يحاول جاهدًا أن يقترب أكثر مما استطاع أحد قلبه إلى الموسيقى السماوية لكون منظم إلهياً، إلى موسيقى الخلق بحد ذاتها”. تظهر أعماله الأخيرة – متضمنة العرض الموسيقي، تنويعات غولدبيرغ، وفن الفوجة – تعارضًا نغميًا متطورًا لم يظهر له مثيل من قبله وحتى الآن. كانونات مرآتية الكانون تقنية تأليفية تقوم على لحن رئيسي يتم محاكاته في لحن تابع أو أكثر، يأتي بعد فاصل زمني ويتداخل مع الأصل يتضمن كانون المرآة عزف اللحن الرئيسي بالتزامن مع انعكاسه، كانونات كراب تتضمن سطرين موسيقيين يعزفان في سياق متناظر، كانونات متزايدة ومتناقصة، كانون عند كل فاصل زمني، فوجة كانونية، فوجة ثنائية، ثلاثية، ورباعية: فن الفوجة يتضمن هذا كله، كل تعارض نغمي، تغير يحصل على جملة دي مينور رئيسية. لعازف البيانو غلين غولد، تستدعي هذه القطعة “مدىً أبدي من الطيف الرمادي… تترك الطابع الاستثنائي لكون يمتد بلا نهاية”. المعنى، عند باخ، ليس منفصلاً عن الشكل.

شبه أعمى وواهن إثر سكتة دماغية، توفي باخ قبل إكماله فن الفوجة، مورثًا لأجيال من الموسيقيين لغزًا بلا حل. تنتهي الفوجة الأخيرة بعد وهلة من تقديم موضوعها الثالث، والتي، ربما بأسلوب دلالي، استهلت بنوطات بي-الخفيضة، آ، سي، وبي-الطبيعية. أحرف اسم باخ (الحرف h هوb  في الألمانية). قال البعض إن العلامات الموسيقية الأربعة كانت أسلوب باخ في وضع توقيعه على أعمال حياته. قال آخرون حتى أنه قد يكون ترك الفوجة بلا نهاية عمداً، كدعوة للآخرين لإنهاء التأليف على طريقتهم الخاصة. أيًا كان قصد باخ، هناك أثر عاطفي قوي في الطريقة التي بني فيها التعارض النغمي لفن الفوجة بتعقيد وعظمة قبل تلاشيه فجأة. وكما قال جولد: “أنا حقًا لا أظن أن أية موسيقى حركتني بعمق كما فعلت الفوجة الأخيرة.”

منحني فن الفوجة لدى باخ بنية – التبديل بين أربع رواة من منظور الشخص الثالث – بالإضافة إلى العنوان المبدئي لكتابي. كذلك حثني على التركيز على أنماط الصورة بدلاً من التركيز على الفكرة أو الثيمة. في البداية، قضيت الكثير من الوقت باحثةً عن نقاط اتصال. وجدت نفسي أعود باستمرار إلى صورٍ معينة: الهروب، المرتفعات، النجوم، الماء، مسحة رمادية، الموسيقى، فضاء سفلي. حتى أنني رسمت خريطةً لهذه الأنساق – كنظيرتها من العناصر اللحنية المتكررة في الفوجة – على جدول يشبه إلى حد ما المدرج الموسيقي. مثلاً، تتآلف ذكريات هرب لونيا من تشيكوسلوفاكيا المحتلة عبر منجم للفحم مع لحظة اكتشاف أمير لنفق مترو مهجور في لندن عشية الهجوم الإرهابي في ٧\٧. جوهر الموضوع أن طباق الصور يشير إلى توازيات واسعة تربط بين الهولوكوست والعنف والخوف السياسي المعاصر.

الروايات التي تأخذ شكلًا موسيقيًا تتطلب الكثير من القارئ، إذ عليه/ا الربط بين خطوط قصصية متعددة، إطارات زمنية غير متتابعة، نقط تحول في وجهة النظر وأصوات السرد، وتعقيد أكبر في التكرار والإيقاع، وأنواع أخرى من الأساليب غير التي توجد في النصوص الخاضعة للحبكة التقليدية. لكن بالنسبة لي، ككاتبة، كان هذا الشكل هو ما احتجته لافتتاح القصة. فهو منحني مجازًا مرنًا عن كيف يمكن أن تتداخل حياتنا مع حيوات أخرى وأن تبقى صعبة على الربط. الهروب، المطاردة، والتخبط في تغير لا نهاية له، أضاءت أصوات الفوجة طرق هجرات شخصياتي في الزمان والمكان.


نُشرت رواية مارغوت سينغر فوجة ما تحت الأرض في نيسان / أبريل. فازت مجموعتها القصصية هزالة الاستقرار بجائزة ذا فلانيري أوكونر للقصة القصيرة، جائزة ريفورم جوديزم للقصة اليهودية، جائزة الغلاسيكو للكتاب الناشئين، ومنحة شرفية من جائزة پِن\همنغواي.