لمشاهب | المنسيون في الموسيقى المغربية

في إحدى المقابلات التلفزيونية، يقول العربي بطمة أحد مؤسسي ناس الغيوان: “المغرب كانت مقسمة إلى ثلاثة أقسام: ناس الغيوان، لمشاهب، وجيل جلالة.” لم تكن هذه مبالغة. احتلت فرقة لمشاهب مساحة مهمة في المغرب وغيرت من خريطتها الغنائية، كما أسست لمشهد مغاير انفتح على العالم من ساحات الصويرة وثنايا الحي المحمدي، وتشبع بإيقاعات الغناوة والعيطة وموسيقات شعوب مرحّلة.

ولدت لمشاهب في مغرب الحراز ومسرح الطيب الصديقي والحياة البسيطة في الكاريان سنترال للحي المحمدي معقل ناس الغيوان. لم تكتف لمشاهب بإطارها المغربي في تلك الفترة التي سميت بسنوات الجمر أو سنوات الرصاص، يشار بها إلى فترة دأب فيها النظام المغربي على انتهاكات عديدة تجاه معارضيه، بل أنصتت لرياح التغيير القادمة من الغرب، فتشبعت بثقافة الهيبيز وأطلّت بعين متوثبة على حركات التحرر في العالم والمد الاشتراكي في ذلك الوقت.

في انطلاقتها الأولى سنة ١٩٧٢، جمعت لمشاهب أسس الشريف لمراني فرقته الأولى Sounds of Today متأثرًا بالموسيقى الغربية وصعود الـ Beatles. اقترح عليه المحيطون به اختيار تسمية دارجة أو عربية للفرقة، فأومأ إليه صديقه بولمان بتسمية الشهب، في إشارة إلى قصص الإسلام عن رجم الملائكة للشياطين التي تسترق السمع، و كان في اقتراحه تلميح إلى المضمون الملتزم لأغاني الفرقة ومعاني نصوصها الرمزية. إلا أن الشريف أراد الاقتراب أكثر من اللهجة المغربية المتداولة، فاستقرّت التسمية أخيرًا على لمشاهب التي تشير أيضًا إلى تلك المشاعل التي تحمل في الظلام. الشريف لمراني والأخوين أحمد ومحمد الباهيري وسعيدة بيروك، مع دفع قوي من المحامي بولمان صديق لمراني ومحمد البختي الذي ساهم في تأسيس أهم الفرق الموسيقية المغربية والذي كان مدير أعمال لمشاهب منذ سنوات التأسيس الأولى. استقدم البختي الأخوين باهيري، وسعيدة بيروك من فرقة طيور الغربة التي أصبح اسمها فيما بعد لجواد. اشتغلت هذه التشكيلة لبعض الوقت وسجلت أغنية الخيالة المعروفة أيضا باسم السايق تالف والراكب خايف.

لم تكن أصوات الرباعي قوية بما فيه الكفاية، الأمر الذي دفع بالشريف لمراني للبحث عن صوت فخم. بعد توجيه من البختي مرة أخرى، وجد لمراني ضالته في محمد بطمة القادم من مجموعة تكادة بعد أن كاد ينضم إلى جيل جلالة. معه عرفت لمشاهب انطلاقة جديدة على مستوى الكتابة الزجلية والأداء الغنائي. اعتمد بطمة لغة بسيطة من وحي البادية التي نشأت فيها عائلته، كما تشبع بثقافة الحي المحمدي الشوارعية والكاريان سنترال. من الأغاني التي كان تأثير البطمة فيها واضحًا أغنية أمانة.

انسحب الأخوان الباهيري ليؤسسا لجواد بدعم من الراحل بوجميع أسطورة ناس الغيوان، وانضم كل من محمد السوسدي والشاذلي من مجموعة الدقة بعد مرورهما بفرقة أهل الجودة. تزوج محمد بطمة من سعيدة بيرك وحملت بطفلها الأول، مما اضطرها لأن تغادر الفرقة، متيحة الفرصة لمحمد لحمادي القادم من فرقة نواس الحمراء. من الأغاني التي كانت وليدة تلك الفترة المتخمة بالتغييرات أغنية حب الرمان التي ألفها مبارك الشاذلي سنة ١٩٧٤ واعتبرت لاحقًا بمثابة الانطلاقة الفعلية للمجموعة.

البحث عن هوية لمشاهب في ظل ناس الغيوان

زامن ميلاد الفرقة النجاح الهائل الذي حقتته ناس الغيوان بأغان على ألحان التراث الزجلي المغربي تمردت على نمط الغناء التقليدي الذي يعتمد على المغني الواحد. زاد ذلك من إصرار لمراني على خلق موسيقى مختلفة عن تلك الذي أسست له ناس الغيوان، الأمر الذي ساهمت فيه نشأة مولاي الشريف المراني الجزائرية، إذ غذّى الفرقة بطابع لحني مختلف، فهو أصيل ابن وهران، حيث عمل والده في جوقة وأشبعه موسيقات لم توجد في البيئة المغربية مثل الغرناطي الجزائري، وعرفه على آلات مثل المندولين الجزائرية بشكلها الكلاسيكي.

المندولين بعد أن طورها لمراني

المندولين بعد أن طورها لمراني

لم تكن المندولين معروفة في ذلك الوقت، وكان استخدامها في لمشاهب بمثابة ثورة على التقاليد المغربية، خاصة وأن ناس الغيوان استعملت آلات موسيقية من وحي التراث مثل السنتير والبندير. لم يكتف الشريف لمراني بذلك فقط بل طور المندولين وأضاف إليها وترًا تاسعًا وغيّر من شكلها المعتاد لكي تتوافق مع الصوت الذي يبحث عنه. بذلك، أسس لمراني لمدرسة جديدة للآلة، تعلمها الكثيرون من بعده واستلهموا منها.

تمتد إضافة لمشاهب إلى المشهد الموسيقي المغربي أيضًا عبر الحضور النسوي، المتمثل في ضمها لسعيدة بيروك القادمة من فرقة طيور الغربة فعلت مثلها فرقة لجواد إثر ضمها لسكينة الصفدي التي انتقلت فيما بعد إلى جيل جلالة، لتخلّص الأغنية المغربية من التخمة الذكورية التي طغت على مشهدها خلال تلك الفترة. يعود الفضل ههنا إلى الأخوان باهيري اللذان غادرا الفرقة مبكرا، إذ كان لهما اكتشاف صوت سعيدة بيروك، وضمت فرقتهم لجواد فيما بعد صوتًا نسائيًا آخر هو حليمة الملاخ القادمة من فرقة أهل الجودة، وسكينة صفدي أيضًا، كما أسسا سنة ١٩٨٦ فرقة نسائية أطلقا عليها اسم بنات الغيوان.

على مستوى الكتابة، ألّفت أزجالها وأغانيها دون الاعتماد المباشر على التراث كما فعل ناس الغيوان وجيل جلالة. في هذا الصدد، يقول الشريف لمراني: “لن أبالغ إذا قلت إننا نحن، لمشاهب، الوحيدون من دون جميع المجموعات الذين اعتمدنا على مجهودنا الذاتي و لم نلجأ إلى التراث سواء من ناحية الكلام أو على مستوى الألحان.”

لحن مختلف

لم يكن غريبًا أن تتأثر لمشاهب بالهيبيز وأصوات موسيقى العالم وأن تسعى لخلق موسيقى جديدة ومختلفة، فتلك الفترة عرفت أيضًا تجارب جريئة في تأثرها بالمنجز اللحني الغربي، مثل جيمس براون المغرب أو فضول الذي بقي منسيًا ولم ينل حصته من النجاح. عبده العماري أيضًا كان من العلامات الشاهدة على مغرب منفتح على أصوات موسيقى العالم، فقدم شيئًا مختلفًا عن السائد ذلك الوقت عبر مزج ألوان من الجاز والموسيقى الإلكترونية مع لون شرقي واضح. خلافًا لفضول وعبده العماري، تفردت لمشاهب في أنها عرفت كيف تكون بين التراث الغنائي المغربي والموسيقى الغربية، فلم تسقط في فخ الانسلاخ والتقليد الأعمى ولم تكرر نفسها من خلال التعامل مع التراث دون نفس تجديدي، بل نجحت في خلق موسيقى عصرية، وتقاسمت نفس الهموم مع ناس الغيوان في الإشارة إلى مغرب مضطرب وعالم ممزق بالحروب.

غنت لمشاهب لانتمائها الإفريقي مثلما فعلت ناس الغيوان في إفريقيا الدم السايل. كانت القارة تعيش في ذلك الوقت على وقع صرخات التمرد التي أعلنها توماس سنكارا ثوري إفريقي، يلقب بـ تشي جيفارا افريقيا. استولى على السلطة في انقلاب لقي تأييدًا شعبيًا ضد القوة الفرنسية المستعمرة. كرئيس، عمل على تحقيق برامج اقتصادية طموحة والاعتماد على الذات. أعاد تسمية البلاد من فولتا العليا الى بوركينا فاسو التي تعني أرض الرجال النزهاء. قتل وعمره ٣٧ عامًا ضد الاستعمار الذي أغرق إفريقيا في نزاعات دموية طويلة.

كما غنت لمشاهب للقضية الفلسطينية وأكدت على بعدها القومي. كتب أغنية فلسطين ولحنها محمد بطمة واستغرق العمل عليها أكثر من سنة لتؤديها الفرقة سنة ١٩٧٨ خلال مؤتمر الأممية الإشتراكية في موسكو. كتب بطمة أيضًا أغنية صبرا وشاتيلا التي أدتها ناس الغيوان، وكان ذلك اعترافًا بفن البطمة، خاصة وأن ناس الغيوان وجدت في العربي شقيق محمد زجالها الأول بعد رحيل المعلم بوجميع الذي كتب أفضل كلماتها. “أشهد على أن أخي محمد أزجل مني” قال العربي عن البطمة، الذي استطاع أن يستخدم التراث الزجلي المغربي ببصمة شعرية خاصة به، ألفها من لغة شعبية بسيطة وتحديث للمواضيع. لُقّب بوحش الشعراء خلال زيارة له إلى الاتحاد السوفياتي عندما ارتجل قصيدة قوية أمام جمع من السوفيات والمغاربة.

البطمة

تضرب شجرة آل البطمة عميقًا بجذورها، من منشئها في إحدى هضبات وادي زور على مشارف دوار الشكة حيث استقرت العائلة قبل رحيلها إلى الحي المحمدي في الدار البيضاء. من تلك الشجرة، اختارت العائلة تسمية بطمة، التي تعني الشجرة الكبيرة، والتي تحيل أيضًا إلى شجرة الحبة الخضراء التي تنبت في المناطق الجبلية. في أغنية الشجرة الدمعة في تسمية أخرى يشير محمد البطمة إلى تلك الشجرة التي انتزعت من جذورها وترحلت في أرض المغرب جغرافيًا ولحنيًا، فالعربي كان من مؤسسي ناس الغيوان، وانضم محمد إلى لمشاهب قادمًا من تكادة، فيما كان رشيد في مسناوة.

تغريبة البطمة كانت دائمة الحضور في نصوص محمد، وخاصة في أغنية يا شراع التي يقول فيها: “هلا صبرتي يا شراع، يكمل الزراع يا شراع، نوصلو للبيت الدافي ونحصدوه عرقنا ونطحنوه خبز لحلال” في الإشارة إلى التمزق والظروف القاسية التي عاشتها العائلة بين البادية والمدينة.

مثلما كان لتغريبة البطمة حضور في نصوص الأغاني للمشاهب، فرض الموت وجوده أيضًا. في أغنية يا خو صاحبي التي ترثي فيها لمشاهب رحيل العربي بطمة سنة ١٩٩٧، أخ محمد بطمة، النص من نظم محمد السوسدي الذي قال في مقابلة تلفزيونية “عليك رحمة الله كنت مشاهبي وإنت غيواني غزا حبابك عزويا”. غنى محمد بطمة الموال المتخم بالوجع مع صاحبه السوسدي.

قبل هذه المرثية التي نظمت للعربي بطمة، كان لفرقة لمشاهب أن ترثي أيضًا بوجميع الذي توفي في ظروف مشبوهة سنة ١٩٧٤ وهو في أوج ألقه مع ناس الغيوان. كتب الشاذلي أغنية هذا الشي مكتوب ليقول فيها: “رفيق الشبان مات على صفحاتنا خلانا ومشى والقلب يخمم”. بوجميع كان مُلهمًا للكثيرين، فهو الذي ساعد الأخوان باهيري على تأسيس فرقة لجواد بعد مغادرتهما للمشاهب.

خليلي

تكلمت لمشاهب عن نفس الهموم، و لكنها عبرت عنها بشكل مختلف عن نظيراتها ناس الغيوان وجيل جلالة. فمثلما كان لناس الغيوان أغنية الصينية، ولجيل جلالة أغنية الكلام المرصع، فإن أغنية خليلي تعد قمة نضج لمشاهب، لحنًا وزجلًا وأداء.

يمكن تقسيم الأغنية إلى مقطعين. في المقطع الأول، يتكلم محمد بطمة عن خليلته سعيدة بيروك التي أحبها وصارت زوجته فيما بعد. يحكي أوجاعه من هجرها له: “خليلي، علاش تعاديني، تهجرني وتخليلي رسامي خالية”، مشيرًا إلى تلك الرسمات التي خطتها صحبتها وصارت خالية من معناها بعد أن هجرته. الشكل اللحني لهذا المقطع يؤصل لهوية لمشاهب الموسيقية من خلال تفرد لمسة الشريف لمراني الذي يتخم الجملة اللحنية بالعزف على المندولين ولا يسمح بترك مساحات صوتية خالية. عند المرور إلى المقطع الثاني، يرتفع الإيقاع وتشتد وتيرته لخلق انتقال لحني يعكس تقسيم النص المكتوب.

المقطع الثاني مختلف تمامًا، إذ يقول في مطلعه: “فكرك جبال عالية تعليماتك راسخة” ليفتح باب التأويل على مصراعيه. ههنا، تختلف المصادر في تحديد هوية المغنى به والمقصود، ولكنها تتفق أغلبها على أن محور الكلمات هو ماوتسي تونج. فالنص كتب زمن التوهج الأيديولوجي والرايات الحمراء التي علتها المطرقة والمنجل، كما أن الطلاب كانوا يهتفون باسم ماوتسي تونج كلما أدت لمشاهب لهذه الأغنية. يتكلم طارق بطمة عن أبيه فيقول: “كنت أشعر بأنه كان ثوريًا في أفكاره، كما كان مؤمنًا بالأفكار الماركسية إلى درجة كبيرة، بحكم ميله الكبير إلى قراءة الكتب الماركسية، إلى جانب اهتمامه بمختلف الكتابات، كما أنه كان مهووسًا بالفكر القومي، إلا أن العديد من الرموز خدعوه، كما خدعوا الملايين من العرب.”

لربما كتب محمد بطمة عن خليلته سعيدة بيروك يعاتبها لهجرها له و”خليله الفكري” ماوتسي تونج الذي أثر على وعيه السياسي، استلهامًا من التقليد الشعري العربي الذي دأب على استحضار “الخليلين” عند الاستهلال، مثلما تفعل الخنساء في قصائدها وكما فعل امرؤ القيس في مطلعه الشهير “قفا نبكِ …”. هنا قد نعمد إلى إضافة هالة أسطورية حول الموضوع حين نعرف أن ابنة محمد بطمة اسمها خنساء.

غنت لمشاهب لتراث الصحراء والبيظان عندما أدت أغنية إقبيل الدحميس بنتي “قد أقبل الغروب يا بنيتي”. الدحميس هو الغروب في اللهجة الحسانية، والأم ههنا تتكلم إلى ابنتها و تأمرها بالعودة إلى المنزل خوفًا من حلول الظلام، وهي أغنية باللهجة الحسانية من التراث الصحراوي في موريتانيا، عرفت لأول مرة من خلال أداء حورية منت النانة وأخواتها مع والدتهم الفنانة الراحلة الدبية منت أسويده بوه، وهي فرقة موريتانية ظهرت خلال السبعينيات. الأغنية وليدة منطقة البيظان التي تمتد على مناطق من الصحراء الغربية وموريتانيا ومالي، وتشير إلى المتكلمين بالحسانية. اختيار لمشاهب لهذه الأغنية يعد ثوريًا في طريقة تعامله مع التراث وخاصة الصحراوي منه، نظرًا للإشكاليات التاريخية التي علقت في الذاكرة الصحراوية، مغنى وقافية، هوية وانتماء.

يمكن للمستمعين أن يحللوا كما يشاؤون وأن يعبثوا برمزيات الأغاني وأن يعيدوا تشكيلها كعرائس الطين. حصل ذلك مع أغنية داويني سنة ١٩٤٧، حيث التبس الأمر على الجميع حول ما إذا كانت لمشاهب قد غنت النص مع كلمة “وا حيدوه أزيلوه“، أم “أحيدوس فلكلور مغربي راقص، عرف كفن استعراضي أمازيغي“. قال محمد البختي إن “أغاني لمشاهب كلها كانت ذات مضمون سياسي محض. فنحن لم نقتبس لا من تراث ولا من عبد الرحمان المجذوب ولا يْديك لا يْخَليك” في حوار أقيم مع البختي نشر في جريدة تسمى الجريدة الأخرى، تكلم البختي عن الإشكالية التي رافقت الكلمتين في أغنية لمشاهب، كما يشير إلى أن لمشاهب سجلت الأغنية في فرنسا بتضمين واضح لكلمة “وا حيدوه” واضطرت فيما بعد إلى استبدالها. لكن مبارك الشاذلي رد في وقت لاحق على البختي – وفعل مثله كسرى صلاح الدين مدير المجموعة – في مقال نشر في جريدة المساء سنة ٢٠٠٩: “يجب أن نعلم أن الفترة التاريخية التي أطلقت فيها الأغنية كانت مشحونة بالاضطرابات، وهل من المعقول – في نظرك – أن تقول المجموعة: “أحيدوه”؟ هذا غير مقبول، وهنا وجب توضيح نقطة أساسية هي أن مجموعة لمشاهب لم يتم اعتقالها على هذه الأغنية أو على أي أغنية أخرى كما يردد البعض، باستثناء ضغوطات واستنطاقات من قبل السلطات في بعض الأوقات.”

في أغنية داويني ينفجر الخطاب السياسي لفرقة لمشاهب مباشرًا ودون أقنعة: “ولعفو يا بابا وش الحق يزول، القلوب الكذابة نسونا في المعقول”. سواء كانت “واحيدوه” أم “أحيدوس”، فإن الجماهير التي التبس عليها الأمر تلمست الحاجة للبوح بما لم تقدر عليه ربما في ذلك الوقت، لهذا وطّنت كلمة “واحيدوه” نص الأغنية من رغم من دفاع بعض أعضاء لمشاهب والمحيطين بها بأن الأصل هو “أحيدوس”، وهتفت بالأغنية كما تملكتها سواء في الحفلات الطلابية التي كانت تؤثثها لمشاهب أو في محافل أخرى.

أُهمل الحديث عن موسيقى داويني لصالح الضجة التي أحدثتها ووقعها السياسي، فاختزل شكل الأغنية تقريبًا كل الألوان الموسيقية التي تشبعت بها لمشاهب، إذ كان هنالك انتقال من استهلال طويل تظهر فيها تأثيرات البلوز الصحراوي والموسيقى الهندية التي صاحبت الموال لكي تتخلص منه إلى جملة موسيقية مشاهبية بامتياز تظهر فيها تأثيرات المندولين الذي طوره لمراني. يتداول أعضاء الفرقة فيما بعد على الغناء، وتترجم الموسيقى النص المشحون سياسيًا عبر المرور إلى إيقاعات إفريقية سريعة تحاكي عزف لمراني الذي يرفع اللحن إلى وتيرة أعلى عند مستوى “وأحيدوس وأحيدوس” في شكل يذكرنا بحلقات التجلي الصوفية عند فن العيطة المغربية. التأثر بالموسيقى الهندية جاء من صاحب الكلمات، محمد السوسدي، أو “إبن الهندية” كما كان يلقب، الذي كان دومًا يردد الأغاني الهندية في صغره يجدر بالذكر أن السوسدي حصل على جائزة أحسن صوت سنة ١٩٦٩ خلال ادائه لأغنية دوستي الهندية في برنامج مسابقات تلفزيوني، ليلتحق فيما بعد بمسرح الطيب الصديقي، الحاضنة الفنية لأغلب المؤثرين في المشهد الموسيقي في المغرب في السبعينات..

لمشاهب

كان من الصعب أن لا يكتفي مشروع موسيقي ما بما وفرته له السبعينيات من أصوات وإمكانات متاحة للنهل من تراث غني وتطويره، حتى يذهب بعيدًا ويبحث عن مساحات استشراف مستقبلية تتجاوز أصوات تلك الحقبة بكل إغراءاتها. مثلت لمشاهب حالة قلق موسيقي واجهت عصرًا ملغومًا بالتغييرات وثري بالأصوات، وحفزت ذهن المستمع المغربي بمغامراتها المستمرة بالألحان التي أسس لها الشريف لمراني، زرياب التحديث الموسيقي الذي عاشه المغرب. الحفر في طيات الثقافة الشعبية وقلق التحديث والبحث عن الاختلاف، من تلك العجينة ولدت موسيقى لمشاهب التي كتبت بيوجرافيا الجوع وانتصرت للقضية الجمالية: لحن مستقبلي يتكلم بأصوات التراث و تنتقل مواضيعه من الخبز الحافي وهواجس الحي الفقير في الكاريان سنترال في الحي المحمدي، إلى الحالات الوجودية التي تكلمت عن التغريب والعزلة والغياب.

إنها لمشاهب، الباحثة عن الصوت المفقود ورمان البدايات الذي نضج قبل أوانه في الجمر المغربي. لمشاهب التي لم تعبر من الطريق المفتوح تحت الضوء، بل فتحت مسلكًا في غابات الصوت المغربي ورسمت الطريق لأصوات قادمة لم تظهر بعد: “بين الكديات كان الميعاد يستنى الليل.”