دريم كدز نفر سليپ | كِد فورتين

في مقابلة معه لمجلّة موفيمايكر، يقول المخرج الأميركي جيم جارموش: “تذكّروا ما قاله جان لوك غودار: ليس الأهم من أين تأخذ أشياءك، بل إلى أين تأخذها”. في زمن الأرشفة الرقميّة، أصبح من السهل اقتباس الماضي والاحتفاء به. على يوتوب وحده، نستطيع اكتشاف صنف جديد وأخذ فكرة عن تاريخه في ساعات، والتعمّق فيه خلال أسابيع. ماذا نفعل بكلٍ هذا الماضي؟ جزءٌ من الجواب نجده في الأشكال الموسيقيّة القائمة جزئيًّا على العينات Sampling (مثل الهيب هوب) أو بالكامل (ماش اب). نجد الآخر في أشكالٍ احتفائية نوستالجيّة مثل الريفايفل والرترو، أو في تساؤلات فلسفيّة انتولوجيّة على شاكلة أعمال ايريال بِنك. ما يجعل كلّ هذه الأصناف مثيرة هي الـ “إلى أين” التي تذهب إليها هذه الأعمال. بعض الموسيقيّون يجترّون الماضي بأعمال أفضل ما يمكن القول عنها إنّها مسلية، وبعضهم يتجاوز إعادة التدوير من خلال التجريب والاكتشاف. أحد هذه الأعمال هو ألبوم كِد فورتين الأول دريم كدز نفر سليپ Dream Kids Never Sleep.

يبدأ الألبوم مع أغنية ذ دانسر، تهويدة عاطفيّة يتقمص فيها كِد فورتين شخصيّة كرونر Crooner نوع من مغني الجاز الرجال يؤدون أغان حب عاطفية وسنتمنتالية مع إلقاء عذب ومغرٍ فوق إيقاع إلكتروني هادئ. تقدّم لنا الأغنية عدّة مراجع حاضرة في الألبوم، يظهر أوّلها في الأداء الصوتي الذي يشبه كثيرًا الشخصيّة الغنائيّة الأكثر تأثيرًا على كِد فورتين وهي آلان فيغا من فرقة السينث بانك سويسايد، إلّا أنّنا نستذكر أيضًا في طريقة الغناء واستعمال البناء السينثي الداعمة للكرووننغ أسماءً حديثة تتشارك مع كِد فورتين باستحضار أصوات الماضي وإعادة طرحها مثل جون ماوس وألكس كاميرون. تبقى الأغنية على حالها وحال مراجعها حتّى منتصفها حين يدخل ضجيج من الجيتار قاطعاً الإيقاع ما عدا الكك وحاجزاً أسماعنا في تعلّق والتباس. يستخدم كِد فورتين الجيتار والضجيج لكسر الإيقاع ببراعة وكسر توقعاتنا، ثم تعود الأغنية بعد ١٨ باراً إلى حالها السابق دون جيتار فيطغى الإيقاع والغناء مرة أخرى. لكنّ الهدوء هنا لم يعد إغراءً، بل هو ترقّب لخطر محدق. تنتهي الأغنية ببعض النوتات السينثية البسيطة لندرك أنّنا أمام طرحً مقل لما سيأتي لاحقًا في الألبوم: إغراء وجذب نحو عالمٍ ممتع وخطير.

نسمع في الثواني الأولى من الأغنية الثانية، فاست تايم إن ذ بليز لاند، سينثات تشبه أصوات سيّارات تمر مسرعة أمامنا. هي ألفاظ موتوريّة تتقارب من أصوات فناني النيو رترو ويف أمثال لايزر هوكْ وترافور سامسينغ. لكن نداءً غنائيا وجهير جيتار يكسرون هذا الانطباع. تبدأ هنا سردية ليلة ننطلق معها في رحلة مليئة بطاقة نابعة من إيقاع روك وجيتار لا يبتعد أبدًا عن تصاعد progression نوتات البلوز.

بعد المضي في درب الليل، ندخل الملهى مع إتس ا لفلي نايت حيث يقول كِد فورتين متلهفاً “سأُساعدكم على إحياء الليلة” I”ll help you set it up. يذكرنا الغناء مرة أخرى بألان فيغا، لكن بدل السينث بانك العنيف تبع سويسايد، لدينا خط سينث بايس يتمحور حول ثلاث نوتات تعاد وتدوّر بطبقات مختلفة لخلق تطوّر في النغمة يناسب الإيقاع الراقص المتمثّل باستخدام الكلاب والسناير الإلكترونيّة الرقيقة. تأتي الأغنية كرد على سابقتها، أغنية روكمضاد anti‪-‬rock تناسب طبيعة الألبوم الجامعة للسينث والبوب الراقص والتجريب، كما تلعب دورًا محوريًّا في تكوين شخصية كِد فورتين كمخلوق ليلي لعوب. يقول كِد “أرقص مع الشيطان” ليكون هو ذلك الشيطان الذي بوسعه أن يكون سمسار أُمسية رائعة، أو راع لنهايتها الكارثية، ويبدو أنّ كِد يريد أن يكون الاثنين معاً.

في أغنية ويرلويند بلوز، يصاحب الإيقاع السريع أصوات جيتار معالجة ومفلترة تقربها من التشيلو والفيولا حتى تكاد تكون عينة من أحد أعمال آرثر راسل. الغناء فيه نبرةٌ جديدة تحادثية، حيث يخاطب كِد فورتين شخصًا ما ليُعلمه “إنّه على ما يرام الآن” ومتمنّيًا أن يكون الأمر سيّان لذلك الشخص أيضاً. الجمل الغنائيّة مختلفة ومتزامنة، كما لو أن كِد يغنّي ثنائيًّا مع نفسه، فيقول جملة ويردّ عليها بنبرة مختلفة. تزيد هذه التقنيّة من الالتباس بين وجود شخصيّة يتوجّه إليها الغناء وكوننا في حالة هذيان من النوع الذي يصاحب الثمالة. ينتقل الجيتار من صوت يشبه التشيلو إلى صوت يشبه الهرمونيكا، آلة مؤلف/مؤدِّ الأغاني التقليديّة، مما يزيد من الطابع الأوتوبيوغرافي القصصي في الأغنية. يقترب الجيتار من بناء مقام روك خماسي دون الولوج فيه، ثم يغيب وتخفّ وطأة الإيقاع في الجزء الأخير من الأغنية، كأن البلوز قد استنفذت من نفسه (فهذه أغنية بلوز الزوبعة)، لكنّه الهدوء قبل الهول الضاج الآتي على شكل أصوات جيتار تقلّد صوت البراس وتحوِّل الأغنية من ملامة إلى نشيد احتفاءٍ في هجر الآخر.

تلي هذه العاصفة الصوتية أغنية فايند يور لوفر التي ألفها كريم شمس الدين، شريك خضر علّيق في مشاريع سابقة. على عكس خضر علّيق الذي تعلم العزف وحده، يأتي كريم شمس الدين من خلفيّة أكاديميّة إذ درس البيانو لـ ٨ سنوات في المعهد الوطني في بيروت. يبدو ذلك جليًّا في تأليف الأغنية وتوزيعها المتوازن، والذي يصنع أغنية بوب بامتياز، كأنها دعوة وتحد لـ كِد فورتين بإظهار قدرته على حمل أغنية كاملة بصوته. يفعل كِد ذلك دون عناء، بأداء واضح يتواطأ مع الطبقات السينثيّة، مناسب للإيقاع الهادئ والنغمة الميلونخوليّة.

كد فورتين

الليل وكد فورتين

بالرغم من خروجها عن الشكل الراقص أو السينث بانك إلّا إنّ مقطوعة ذ سيتي ويز The City Ways تعيدنا إلى سرديّة الليل. فالألبوم وعنوانه لا يخفيان انشغالاً بمواجهة الليل، واستخدامه إيقاعات معتمة تقترب من التريب هوب، مضافًا إليه كورد سينث أنيق وممتد على طول الإيقاع. بالانتقال إلى كورد آخر ثابت مستمر، يخلق كِد فورتين امتدادًا صوتيًّا يشابه موسيقى كرافتوورك الواصفة لتجربة عبور الطرقات السريعة ليلًا. لكن على عكس مؤلفات كرافتوورك الطارحة الانتماء إلى عالم الحداثة والعزلة في القطار والسيارة وأمام شاشة الكمبيوتر، نرتمي في هذه القطعة بجانب كِد الذي يخرج من الملهى إلى الليل، ماشياً وحده، قاطعاً طريقًا طويلة على ذلك الجانب من الطريق بين الأوتوستراد والشجيرات، حيث يبدأ بتمتمة بعض الكلمات شيئًا فشيئًا وإنشاد أغنيته التالية.

أي جت أراوند أول داي I Get Around All Day هي أول أُغنية كُتِبَت وسُجِّلت للألبوم. يبدو هذا جليًّا في التسجيل والإنتاج منخفض الدقّة الذي يجعلنا نشعر كأنّ الأصوات تبتلع بعضها. هذا الجانب من الألبوم كان صنعة واكتشاف في آن، عندما كان كِد فورتين في بداية مرحلة التفتيش والتجريب. وبالرغم من أنّ التجريب يُعطي هويّةً فريدة للألبوم، إلّا أنّها غير مكتملة في الإنتاج. لكنّ شيئًا من هذا النقص يساعد هذه الأغنية بالذات. إيقاع ثابت وغناء واضح ورقيق فوق خط البايس والسينث الحزيني اللذان يحملان لحن جيتار من تأليف وعزف كريم شمس الدين. أغنية حالمة تقع بين البوست بانك والبوب كما لو أنّنا نستمع إلى أولى تسجيلات ذ كيور، مع إيحاء راقص.

الألبوم مليء بالذكورة دون أن يقع في الذكوريّة، فلا احتفاء بسيطرة المذكّر على محيطه، بل انشغال جسماني بالطاقة المذكّرة كحالة فرديّة محتواة في غناء موسيقى أيروسيين وعنيفين في آن. لذلك لا نستغرب وجود أغنية بعنوان HUMPHREY it‪’‬s a pleasure principle تيمّنًا بهامفري بوغارت الممثّل الأميركي الذي كان معيارًا للذكورة منذ عشرينات القرن الماضي. يبني كِد فورتين تراكاً مناسباً للنواد الليلية من خلال إيقاع تكنو لا يتوقّف عن التطوّر والتقدّم وغناء مذكّر/مؤنّث. يتلاعب بالكلام منشداً: “هامفري ، آم فري” ليعيدنا إلى الملاهي الليلية مطلقًا احتفاليّة ضخمة بمذهب التلذذية Hedonism. يساند الوجود الجسماني في الأغنية إيقاع تكنو راقص يذكّر بموسيقى الإلكترونيك بودي ميوزيك الجامعة بين الإيقاع الروبوتي الراقص والأصوات الصناعيّة والمزيد من جيتارات البوست بانك، وخاصّة تلك المشابهة لجوي ديفيجن. لكن كِد فورتين يعادل كل تلك الأيروسيّة المذكّرة بأداء صوتي ينتقل بين الكروونر الذكر والتلاعب الغنائي المؤنّث على طريقة لاكس انتيريور، مؤدّي ذ كرامبس، شخصيّة غنائيّة أخرى ذات تأثير كبير على كِد فورتين.

بعد الإحتفال بالمتعة والتلاعب بمفاهيم الرجولة، تختتم أغنية آي وندر إف ماي فاذر سرديّة الألبوم، حيث يخرج الـ كِد من الملهى ليدخل عالمه الخاص ويجد هاجساً سكن الكثير منا: صورة الأب. إبطاء الإيقاع يجعل بناء الأغنية والإيحاء الصوتي كزمن متردٍّ نعود به إلى الماضي، إلى البداية. الأغنية نقيضة لسابقتها التي أوحت بالتقدّم والتطوّر في البنية الإيقاعية، إذ نجد هنا انغماساً في صوتيّات مثقّلة في إيقاعها ومغلّفة بطبقة من الغناء والسينث يعلوها صوت أجراس توحي بالرجوع نحو حالٍ يسبق المتعة والرجولة، إلى كِد ما قبل الفورتين. نعود في آخر الليل إلى تساؤلات المراهقة وصورة الذات من خلال صورة الأب. مزيج من الحاجة إلى الأمان ورفض سلطة الأب يجعلنا نرتجف مثل إرتجاف الصباح في ليلة من الأرق.

عادةً ما يكون الريمكس إعادة لإنتاج أغنية ما في إطارٍ أكثر مرونة يساعد على إنتشارها في الحانات والكلابز. لكنّ هذا لا يُغري فرقة شوشو الأميركيّة التي أعادت توليف أغنية ويرلويند بلوز. شوشو من أكثر الفرق نضوجًا وأجملها قدرةً على جمع التجريب والبوب، فألبوماتها تمر عبر البوب التجريبي الناجح تجاريًّا، والفري جاز في ألبوم يسترجع أغاني نينا سيمون، والبوست بانك/نو وايف. حين أخذت شوشو موسيقى كِد فورتين خلقت عملًا جديدًا مغايرً، فيه الكثير من السامبلينغ لإيقاعات وجمل غنائيّة من ويرلويند بلوز تمّ تجميعها كطوبة فوق الأُخرى لبناء خطٍّ ايقاعي يسمح بإسقاط كل أنواع الأصوات والعينات دون فقدان الوزن الإيقاعي. من الصعب التفكير بإطراءٍ من قبل هذه الفرقة لعمل “كِد فورتينأفضل من أخذ أغنية له وجعلها بنية أساس لعمل تجريبي مميّز.

في دريم كدز نيفر سليب، يستخدم كِد فورتين الجيتار كآلة مجردة، تصدر أصوات ضخمة وخطرة أكثر من عزف نغمات واضحة. هناك شيء بدائي في عزفه الجيتار، كأنّه آلة صوتيّة أو سينث قديم يكتشفه هو ويعنفه أمامنا ليرغمه على قول ما هو جديد. رغم تنوّع التأثيرات لا يفقد الألبوم هويّته البوست بانكيّة‪،‬ ذلك أن كِد فورتين هو أحد الفنانين الجدد القادرين على التأرجح بين أصناف موسيقيّة سابقة ليضعها في شكله الخاص الكِد فورتيني. يحمل كِد فورتين على جسده آثار ماضي البانك، ثمّ يضع هذا الجسد المتمثِّل بصوته وجيتاره في إطارٍ إلكتروني، ليرد على جيم جارموش قائلاً: أنا لا آخذ من الماضي بل أنا هو الماضي، أمّا الحاضر فيسيل عرقًا من جسدي الراقص.


صدر الألبوم في ١٠ سبتمبر ٢٠١٦ عن تسجيلات ربتشرد.