نازك | مأساة الظل

يدهشك هذا الصوت الذي يبدو أنّه يخرج من بين الحنجرة والصدر. من الصعب أن تستمع الى دخولها في أغنية أحن قلبلمحمد فوزي من دون أن تتملكك القشعريرة من أثر هذا الصوت الذي يسحبك إلى حيث المتعة والألم.

عن نازك أتّحدث، وعن زمانها. لا أعرف بالضبط لماذا أهيم بصوتها الى هذا الحد. صوتها الباكي الحنون الذي قهرته شمس أسمهان الفاتنة. نازك: تلك المطربة النحيلة التي لاحقها طيف أسمهان، وجمالها، وعبثها الذي ما كانت لتقوى عليه هذه السيدة الخجولة حد التواري، المتديّنة حد الخرافات، وهو عامل إضافي ساعد على انحسار الأضواء عنها ونفور الشهرة منها فانطوت صفحتها في الذاكرة، وماتت هي وعاشت أسمهان.
ننساق إلى هذه المقارنة التي فرضها النقاد علينا لرفع الظلم عن صوت كبير لم ينل حظّه من التكريم حين ظن أن بإمكانه أن يكون الشبيه أو الرديف لأسمهان، والتي حوّلها موتها في عمر الزهور الى أسطورة، بإغفال الحديث عن أوجه الاختلاف التي بها نهتدي الى البصمة والفرادة والتميّز، فساهموا في إخماد شعلة نازك الفتية المتقدة بدلاً من إذكاء نورها. لتبدو نازك حكاية صغيرة جميلة عابرة في عمر الموسيقى العربيّة التي طغت عليها أسطورة أسمهان بروعتها وموهبتها الخارقة التي تحولت الى حضور مكثّف بفعل الغياب.

فضاءات الصوت وغاباته

الصوت الشجي هو أقرب الأوصاف الى طبيعة صوتها، لكنّه لا يكفي ليغطّي هذه القماشة الصوتيّة ذات المستويات التعبيريّة المتعدّدة. قد لا تكون مساحة صوتها واسعة كصوت ملهمتها أسمهان، الذي يمتد الى أكثر من ديوانين مع غناء الرأس وفق ما جاء في كتاب السبعة الكبار للأستاذ فيكتور سحاب، لكن نازك تتمتع بخامة صوتيّة ذات أبعاد وتنويعات تعبيريّة واسعة.
حين تستمع إليها مثلا في “أحن قلب” لمحمد فوزي تصغي إلى ينابيع الحنان التي تتفجّر من هذه الحنجرة. حتى إذا أنصتّ إلى غنائها في مغنّاة “القاهرة والنيل”، تلحظ بُعداً آخر تمنحه نازك لأدائها الذي يبدو في هذا العمل ذا خصائص أوبرالية، يعتمد على المد بشكل أساسي، ويقتصد في العُرَب التي لا تظهر إلا في نهايات المد، وبشكل متقطع تستخدم فيه نازك الصوت المستعار بذوق وعذوبة أقرب الى الصلاة. صوت ينبعث الخيال من داخله بطبيعته وليس من اللحن فقط، إذ يشبه الأداء الذي يميّز أسلوب الكورال في الأوراتوريو. وفي قصيدة “ليته يعرف الملل” للسنباطي، تجد خامة أخرى عريضة أقرب الى الصوت الجهير.

القاهرة والنيل

تتراوح تلاوين صوت نازك بين الشجيّ والجهير والرطب: ما صنعت منه هذه الخامة المؤثرة التي سحرت الملحنين والمؤلفين. إذ وتروي السيرة أن الموسيقار محمد فوزي لم يجد غضاضة في الوقوف خلفها لينشد مع الكورال في أحد ألحانه لها.
على الرغم من ذلك، أنصفتها القاهرة عبر كوكبة من الأعمال لأساطين التلحين في ذلك الوقت. فشاركت في الحفلات، وقدمت للسينما فيلماً واحداً مع محمد فوزي الذي حمل اسم أغنيتها الشهيرة البديعة له “كل دقة في قلبي”. وقد عُرض عليها المشاركة في عدة أفلام لكن السينما لم تكن ملعباً مناسباً لخجلها وتديّنها الذي اضطرها الى إعادة أحد المشاهد عدة مرات حتى تستطيع التلفظ بكلمة “أحبك”، فكانت الاذاعة ملعبها الحقيقي ومسرحها الأثير. أُعجب بموهبتها الأستاذ محمد حسن الشجاعي، رئيس لجنة الاستماع في الاذاعة المصرية وصاحب السطوة الذي عرف عنه دقته وصرامته في اختيار الأصوات والألحان، وفي عهده خرّجت الإذاعة المصريّة جيلًا من المبدعين صنعوا للأغنية العربية مجدها وتواصلها التاريخي مع إرث الرواد. أدهشه إذاً صوت نازك فتبنّاه وفتح لها أبواب الاذاعة على مصراعيها. ارتاحت نازك الى المسموع حيث الحكم الموضوعي بعيدا عن خداع الصورة التي تشارك في صنع القرار وفي حرف الأحكام عن سبيلها أحياناً. لكن كان خجلها يكبر في داخلها شيئاً فشيئاً، حتى راح يتسلّل إلى روحها على شكل اضطراب بدا واضحا في أحد تسجيلاتها المصورة للتلفزيون السوري تغني فيه بروعة بالغة “كل دقة في قلبي”.

كل دقة في قلبي

أنصفتها القاهرة وعثرت في صوتها على غابات عذراء لم تكن قد تكشّفت تماماً في الحقبة اللبنانيّة. واذا استثنينا وديع الصافي وفيروز، يمكننا القول إن غالبيّة الاصوات الكبيرة القادرة كنور الهدى، وسعاد محمد، ونجاح سلام، ونازك مدينة للمدرسة التلحينيّة المصريّة التي في ظلها تكشفت هذه الأصوات عن قدرات مذهلة وإمكانيّات هائلة ما كانت لتتبلور في فضاء الأغنية اللبنانية الخفيفة.

ففي مصر، تعاونت نازك مع مجموعة كبيرة من كبار الملحنين في مقدمتهم القصبجي، مثل: “هات لي النور”، “يا قلب ليتك”، “ولسا يا قلبي“. والسنباطي: “أسامعي أنت يا حبيبي“، “خفقات قلب“، “جمال الروح“. وزكريا أحمد: “أنا الربيع يا جميلة”، وأحمد صدقي: “عيد الربيع”، “أنا والنجوم صاحيين“، “مش حقولك“، “مناجاة”. ومحمود الشريف “رسالة حبيبي”، وفريد الأطرش “ما تقولش كنا وكان“، ومحمد الموجي “العش المهجور“، وعبد العظيم محمد “الأم”، “دوامة“، “ثلاث نجمات”، وفريد غصن “سكن الليل” وآخرون. واشتهر لها لحنان لمحمد فوزي “كل دقة في قلبي” و”أحن قلب“. واستعان بها الملحنون في أداء العديد من الصور الغنائية والمغناة والأوبريتات التي كانت الإذاعة المصرية تنتجها، والتي تستلهم الأسلوب الغربي في التوزيع والحوارات الغنائيّة نظراً لطبيعة صوتها ذي الحساسيّة المرهفة والقماشة الصوتية التي تتسع للأسلوبين الشرقي والغربي في الغناء، كما في البرنامج الغنائي “حلم شاعر” للملحن أحمد عبد القادر، وتوزيع عطية شرارة، كلمات إمام الصفطاوي، وغنائها مع اسماعيل شبانة، وناديا فهمي، وابراهيم حمودة.

كذلك “أوبريت فيلسوف” ليوسف شوقي، المأخوذة عن قصة فاوست لغوته مع كارم محمود ذلك الصوت العملاق الذي اختزل في الأغاني الجميلة الخفيفة التي اشتهرت له، فيما هو أحد أكبر الأصوات الغنائية مساحة بين المطربين بعد وديع الصافي.
هكذا كانت الاذاعة المصرية تقوم بدور تثقيفي من خلال البرامج الغنائيّة التي كانت تستلهم مسرحيات ذات طابع فلسفي من الأدب العربي والعالمي والقصص والأساطير الشعبيّة كألف ليلة والأعمال المسرحيّة الشعريّة لكبار الشعراء، والتي كانت وسيلة الارتقاء الأولى بالذائقة الفنية، لتشكّل بذلك رافداً ثقافيّاً هامّاً إلى جانب المسرح والسينما.

بين أسمهان ونازك

“توأم أسمهان”، ذلك هو اللقب الذي أطلقه الناقد الموسيقي كمال النجمي على نازك، وأرخى بظلاله على مسيرتها الفنيّة، مما اضطرنا إلى ركوب ذلك المركب الصعب الذي يخوض في المقارنات غير الجائزة في الفن، والتي وضعت نازك بين قوسي المشبه والمشبه به، ما حال دون انعتاقها إلى آفاق التميز البليغ. لتتحوّل إلى مأساة الشبيه، دوبلير غنائي لم يساعده أداؤه الفذ على الخروج إلى النجوميّة الممتدة في الذاكرة، فكان نجاحه مؤقتاً وعابراً. هكذا نجحت نازك في بضع سنين، ثم ما لبثت شمعتها أن انطفات. لكننا نجافي الحقيقة إذا اعتبرنا أن هذه المسألة وحدها مسؤولة عن هذا الإجحاف. فثمة أسباب ذاتية تحدثنا عنها سالفاً ساهمت في طَي هذه الصفحة الجميلة والحزينة في تاريخ الأصوات الغنائيّة العربيّة. فما المشترك إذاً بينها وبين ملهمتها أسمهان، التي هام النقاد بها عشقاً حتى طغت حتى على شقيقها فريد الأطرش في تصنيفاتهم وتوصيفاتهم النقديّة؟


لا شك أن صوت نازك شديد الشبه بصوت أسمهان من حيث الجرس ووقع الصوت في الأذن. هذا الالتباس يعززه الاحساس بالشموخ والكبرياء الذي يغلف صوتيهما كأنهما تغنيان للسماء. حتى إذا تعمقنا في أغوار الصوتين تكشفت لنا الفروقات التي تتجلى أمامنا حناناً متدفقاً في صوت نازك، وعنفواناً عالياً في صوت أسمهان الرنّان، العملاق، الحاد النغم، بحلاوة وجهارة يسميها العرب في تصنيفاتهم الصوت المخلخل نسبة الى رنين الخلخال.
معدني الرنين هو إذاً صوت أسمهان لامع كبريق البلاتين، مع الاعتذار للملحن الكبير محمود الشريف الذي اعتبرها ذهبية الصوت حسب ما جاء في كتاب السبعة الكبار لسحاب. ففي الذهب دفء نستشعره أكثر في صوت نازك الآتي من الجوارح، بينما في صوت أسمهان الرأسي المنطلق في أحيان كثيرة صليل السيوف. صوت نازك رقراق كالماء الجاري بلا كلفة. صوت مهموم، مجروح، يعيش الغناء ولا يمثله، يبكي ويبكيك. أسمهان صوت مترفّع، بعيد، أنيق، متمكن من تلوين أدائه التمثيلي باقتدار، جمال خلّاب يرتحل في آفاق السلالم الموسيقية والمساحات الكبيرة بين ارتفاع وانخفاض أو بين أساليب الغناء الغربي والشرقي بقدرة كبيرة، لكنه من وجهة نظري كالجمال الساحر المرسوم في اللوحات، بديع الصنع يبهرك ويحرك خيالك، لكن لا ينفطر له قلبك.

في أداء أسمهان تظهر المدرسة الشاميّة القويّة بقوّة حيث الأداء والأسلوب، وهو غير ملحوظ في أداء نازك المصري الروح والسلاسة والانسيابيّة والدفء. لكن هذه القوة الخارقة في صوت أسمهان والتي تشكل السمة الرئيسية لملامح صوتها لم تمنعها من اثارة أحاسيسنا في اكثر من عمل بلغت فيه أسمهان قمة أدائها وروعة إحساسها وقدرتها التعبيرية التمثيلية، أهمها في أوبريت مجنون ليلىلمحمد عبد الوهاب، وبشكل خاص في قصيدة أيها النائمللسنباطي. كذلك بلغت نازك قمة أدائها في أنا والنجوم صاحيينلأحمد صدقي والعمل المذكور أعلاه خفقات قلبالشهير بـليته يعرف المللوهو أيضا للسنباطي، وليس من قبيل المصادفة أن يحدث هذا التألق في الأداء في عملين لعملاق القصيدة العربية رياض السنباطي.
ذلك أن المطرب بالنسبة للمدرسة السنباطية هو محطّ اهتمامه ومحل الصدارة. رياض السنباطي يفتح للمطرب آفاق الابداع الى أبعد مدى، تشعر أنه يتوارى خلف المطرب رغم عظمة الموسيقى التي يبدعها. إذ يغوص السنباطي في أعماق الصوت، سالكاً سبيل المدرسة التقليدية التي كانت مسرحاً لإبراز القدرات الصوتية والملكات الأدائية من خلال الوصلة، والأداء الحر الفالت، والليالي، والمواويل، والطرب. لكنّه، وعلى الرغم من ألحانه الكلاسيكية الحديثة التي دخلت اليها الأوركسترا بكامل عدتها، وتضمنت مقدمات موسيقية شامخة، ولوازم تعبيرية رائعة، استطاع أن يحافظ على تصدر المطرب للمشهد بشكل فذ. كما أنه ساهم في الارتقاء بالأداء من مجرد أداء تطريبي إلى أداء يجمع الى التطريب التعبير والسمو. هكذا، ترك السنباطي في قصيدتي أيها النائم، وخفقات قلبلهذين الصوتين الرائعين أسمهان ونازك، أن يعرُجا الى سماء الأداء التعبيري الخلّاب بحرية مطلقة وبكل ما أوتيا من قدرات.

خفقات قلب

كتب قصيدة خفقات قلب الشاعر عبد الله الفيصل. يدخل السنباطي إلى العمل عبر مقدمة قصيرة يليها مذهب تغنيه نازك من مقام كورد الحسيني (اللا) على إيقاع المارش الرتيب والمناسب تماماً لمضمون المذهب في محاكاة جميلة لإيقاع القلب الذي لا يتعب من تكرار نفسهوالكورد الذي صاغ منه السنباطي هذا المذهب الجميل يوحي بنوع من الاستقرار القدري الدرامي يزيد من تكثيفه واشباعه اللوازم التي تتخلله وتغلفه مما يخلق مناخاً ينغلق عليك، يجعل الموسيقى تفصلك عن عالمك وتدخلك في عالمها.

تؤدي نازك المذهب بوقار وجلال وبساطة واقتضاب يناسب المعنى والوزن الشعري المجتزأ الذي لا يحتمل الفذلكة أو الاستعراض. فالقصيدة كلها مجزوء البحر الخفيف، كما أن التسكين في القافية الذي عادة يقيد الأداء الحر استعاض عنه السنباطي باللوازم التي تبدو امتداداً موسيقياً للنص وبجُمل لحنية تُحلّق فيها نازك في أداء حر أتاحته الألفاظ الممدودة في المتن. ثم تسحبك اللوازم التالية برفق من المناخ الكوردي المسيطر لتدخلك في مقام البياتي في الكوبليه الاول في انتقال ايقاعي سلس وجميل جداً الى الواحدة الكبيرة الأكثر هدوءً، وكأنها استراحة بعد هذا الترداد الرتيب المتواصل.

جاء اختيار إيقاع الواحدة الكبيرة شديد الرهافة والذوق، مانحاً النص الشعري بعداً جديداً تبوح به الموسيقى ويُعبر عن السرد التذكيري بالوقائع والوعود الذي يستدعي حالة من الاسترخاء. وهذا شأن رياض السنباطي في القصيدة الغنائيّة العربيّة دائماً، إذ يمتلك نصه الخاص الذي يفصح موسيقيّاً عن المسكوت عنه شعريّاً. وقبل العودة الى المذهب ينتقل اللحن الى مقام النهاوند ليضيف قيمة تعبيريّة جديدة تترجم موسيقيّا المعاني الشعرية التي تضمنتها الأبيات بدءاً من حرف العطف أمالذي عنده ترتفع وتيرة النص والحالة الشعورية من مرحلة التذكير الى مرحلة العتاب الرقيق الشجي. وفي الكوبليه الثاني، ينتقل النص الشعري من الحديث عن النسيان الجارح المستوى الأول – إلى تعمّد التجاهل المستوى الثاني الأشد إيلاماً، يصحبه انتقال مقامي الى مقام الحجاز وهو مقام حرّاق جدير بالتعبير عمّا يسببه التغاضي المقصود من حرقة ووجع.

أنا والنجوم صاحيين

من العلامات البارزة جداً في مسيرتها، لحن الموسيقار أحمد صدقي الذي اهتم أكثر من غيره في مواصلة تقديم القوالب الغنائية القديمة كالموشح إلى جانب الطقطوقة بطعم قديم وبعض المقامات المهجورة نسبياً كالزنجران على سبيل المثال، والاهتمام بالإيقاعات المشرقيّة، ورفض أشكال الاستعارة من موسيقى الغرب، نابذاً بشكل خاص مبدأ التوزيع الموسيقي الذي يراه إحساساً دخيلاً يُفسد روح العمل من وجهة نظره، فيما اعتُبر من خصائص أسلوبه التلحيني الذي يرتكز بشكل أساسي على عُنصرَي الميلودي والإيقاع.

“أنا والنجوم صاحيين” عمل كلاسيكي رفيع المستوى من مقام رست، على إيقاع الواحدة الكبيرة. يتضمن 3 كوبليه يلي كلا منها مرجّع، أي عودة الى الجزء الأخير من المذهب القصير نسبيّاً في هذا العمل. الكوبليه الأول رست والثاني نهاوند والثالث من مقام هزام. تعتمد هذه الطقطوقة بشكل كامل على صوت نازك وهو خالٍ تماماً من الكورال والتوزيع. وهي تؤدّيه بأسلوب مشايخي إذا جاز التعبير: إذ تستخدم التجويف والتفخيم، وتختلف مخارج ألفاظها عنها في الأغنيات الخفيفة. فكلمات مثل “قدرة”، و”اقرا”، و”سهارى”، و”حيارى” في الكوبليه الأول من مقام رست تخرج مفخمة بشكل جميل جداً. تتفن نازك في هذا العمل بإظهار ملكاتها الفنيّة والصوتيّة وتمكنها الكبير من أداء هذا اللون الطربي، مستعرضةً قدراتها الصوتيّة في التنقّل بين المقامات بشكل سليم. فهذا الصوت الحنون الباكي نراه في هذا اللحن صوتاً جريئاً، يُثبت أنه قادر على أداء جميع الالوان الغنائية باقتدار، ومستوعباً طرق الغناء الشرقي، وقادراً على التحكم فيها بحرفيّة وجمال. وقد أتاح لها فرصة للخروج من إطار الألوان الخفيفة التي تُخفي حقيقة صوتها وأعماقه وأبعاده.

يستوقفنا بشكل خاص أداؤها في الكوبليه الثاني من مقام نهاوند، وهو من المقامات التي نسج منها أحمد صدقي أبرز ألحانه التي برز معظمها في تاريخ الموسيقى العربية في الخمسينيّات والستينيّات، منها أغنية “فكراك ومش حانساك” لنجاة علي، و“بحب اتنين سوا” لليلى مراد، و”ياعيني فين قلبي” لنجاح سلام. تتقدّم الكوبليه لوازم تعزفها الوتريّات على أرضيّة إيقاعيّة خافتة، ما ضاعف من جمال تأثيرها. تؤدي نازك بأسلوب تعبيري حساس مرهف من دون التخلي عن الأسلوب التطريبي الذي تستدعيه طبيعة هذا اللحن الجميل. استطاعت نازك في هذا المقطع أن تجمع بين الأسلوبين، فلم تسرف في الزخارف ولم تقتصد، بل وظفتها في مكانها تماماً، وليس ذلك بالأمر السهل، فالتعبير يتطلب أداء تمثيليّاً يميل إلى البساطة والاقتصاد في الزخارف والعُرَب والنمنمات، خلافاً للأداء التطريبي الذي يستعرض فيه المطرب كل طاقاته الصوتيّة من عُرَب وتوشيح ونمنمات وغيرها على حساب المعنى أحيانا. وقد بدا ذلك التطابق والتناغم اللحني الأدائي في طريقة غنائها البديع والعميق لكلمات مثل “نغم”، و”مين دامتله دموعه”، وفي سلامة وسلاسة انتقالها الخاطف الى مقام العجم والعودة الى الرست. كما تألق مقام الهزام المسيطر على الكوبليه الثالث في صوتها بشكل بالغ الجمال والسلطنة.
“أنا والنجوم صاحيين” طقطوقة لم يختر لها أحمد صدقي مقام الرست عبثاً. ربما استلهم المقولة الشهيرة “إذا جن الليل فارست” (فاعزف على مقام الرست).

أحن قلب

أغنية شديدة العذوبة والحنان، صاغها عبقري البساطة في الموسيقى العربية محمد فوزي من مقام الكورد على إيقاع الفالس المتدحرج بدوران متواصل في انسيابيّة خالية من أي تعقيد. وقد بدا المقام والإيقاع شديدي التعبير عن مضمون هذه الأغنية المهداة إلى الأم التي تغدق العاطفة بتلقائية الفطرة وسخاء الروح. يعبّر محمد فوزي عن بساطة المضمون ببساطة مماثلة في لحنٍ متطور شبه خال من التوزيع الموسيقي بمفهومه الحديث (الذي وسع من وظيفته التي كانت تقتصر على توظيف الآلات الموسيقيّة بما يتناسب مع الجمل اللحنيّة وتحديد السرعة وخلق مناخ عام للعمل، إلى خلق لحن موازٍ للميلودي الأساسي يساعد على منحه أبعاداً تعبيريّة تساعد الميلودي على ارتياد آفاق جديدة أوسع مدى)، لتغني الوتريات الجمل الموسيقية مع المطرب في عزف يضفي على الأداء الكثير من العمق.

في هذا الدويتو الغنائي، يتبادل محمد فوزي ونازك الغناء في أداء حساس وبسيط لمحمد فوزي، وجمال يهطل من حنجرة نازك وصوتها الذي يعبّر عن المعنى برهافة الإحساس ورقة العُرَب الصوتية التي تنساب بتلقائية وصدق. استمعوا اليها كيف تؤدي كلمة “انتِ” ثم كلمة “أخويا” الجارحة الخارجة من أعماق القلب والموشّاة بعربة خاطفة تترك أثراً عميقاً.

تأخذنا هذه العُرب التي وظفتها نازك ببراعة إلى حديث ذي شجون عن تلك النمنمات، والحلى، والزخارف التي يضفيها المغني على أدائه، والتي لا نظنها أمراً هيناً أو عابراً في مسار الأغنية العربيّة. فهي التي تجعل الصوت رطباً وتمنحه أبعاداً لها معنى، خلافا للصوت الجاف الصارم المشدود كالقوس الذي لا يقصي الخامة الصوتيّة بالضرورة عن الجمال إنما يجعل أثره مختلفاً.

غير أن هذا التصنيف الاستقطابي ليس قاعدة، فثمّة أصوات تخلو من العُرب لكنها لا تخلو من الدفء والطلاوة كصوت محمد قنديل البديع الذي تتجلى فيه هذه المعادلة العجيبة. لكن للعُرب الصوتية أثرا سلبياً إذا ما تركت في تدفقها، كالعسل الذي يصعب عليك الاستزادة منه، تكفيك منه رشفة لتشعر بالإشباع. جمالها يكمن في وضعها في مكانها، وإلا انقلب الأثر الجميل الى الاحساس بالصنعة والاستعراض. في عالمنا الغنائي أصوات جميلة تميل الى هذا اللون من الأداء الفظ المفرط في الاستعراض، لكأنه يختال على مستمعيه بدلا من امتاعهم، ولعل “أصالة” تصلح نموذجا صارخا للاستدلال على هذه النرجسية في الأداء. لأصالة صوت كبير، لا شك في ذلك، وجميل أكيد، لكنه أسير إحساسه الفائق بقدراته مما يدفعه الى المبالغة في استعراض عضلاته بدلا من أحاسيسه مما يفقده التأثير المطلوب، فلا يشجيك ولا يدنيك بل يبعدك عن رغبتك في الإصغاء الا حين تتوارى “أناها” أحيانا خلف غنائها.
جمال الصوت اذاً ليس الا خامة تحتاج الى تشكيل وتطويع بما يخدم العمل الفني وآفاقه التعبيرية. وهذا تحديداً ما يميز نازك التي تتفنّن في توظيف عُربها النابعة من نسيج صوتها بعذوبة وأحيانا بندرة تبدو كوميض يخطف قلبك ثم لا يلبث أن يتركك تكابد الشوق الى المزيد.
وليست نازك وحدها بل لعله جيل بكامله، يتصدره في هذا المقام الرقيقة ليلى مراد، صاحبة أندى الأصوات الغنائية وأستاذة الأداء البسيط المعجز، والتي تعتبر مدرسة في فن زخرفة الغناء. وهذا يتطلب رهافة في الحس، وصدقاً في الأداء، وتخلياً عن أنانية المؤدي، والمعايشة النبيلة والحقيقية للعمل الفني. هو بالضبط ذلك الخيط الرفيع بين الفطرة والصنعة، بين التلقائية والافتعال. شفق نحيل يتلألأ في جناح فراشة ويحتجب خلف أجنحة النسور.

الحقبة اللبنانيّة

ونعني بها تعاون نازك مع مجموعة الملحنين في بلاد الشام، وليس تحديداً الأغنية الناطقة باللهجة اللبنانيّة. إذ لم تخرج هذه المرحلة الفنيّة من عمرها عن الإطار التقليدي المعروف للأغنية اللبنانيّة السائدة في تلك الآونة، والتي كانت تشهد طغيان قالب الطقطوقة الخفيفة على أشكال الغناء والتلحين في سوريا ولبنان.

تعاونت نازك مع غالبية الملحنين الكبار الذين أثروا الموسيقى بأعمالهم التي لم تخلو من جديد ومدهش، لكن في طابع محلي الروح نسبيّاً، إذا استثنينا المدرسة الرحبانيّة التي تراوح إنتاجها بين المحلي اللبناني والعربي والعالمي. أبرز الملحنين الذين لحنوا لنازك هم عفيف رضوان، ومحمد محسن الذي لحّن لها ياحلو تحت التوتةوولو يا أسمر“. وتوفيق الباشا، الذي قدم لنازك مجموعة من القصائد والصور الغنائية والابتهالات الدينيّة مثل شمس في الليل، وفضل ونور، ويا من بنور الحق يهدينا، وأقول عند المساء“. بالإضافة إلى حليم الرومي، مثل: “لماذا، أهواك يا لبنان، أهلا بالهوى، مع الذكريات“. وشفيق أبو شقرا: “بعدني على الموعد، أرض بلادي“. وعفيف رضوان أنا والليل والنجوم، فتاة الروابي، طلة جبينك“. وخالد أبو النصر: “الطيف الزائر، من هوانا، وعود“. وحسن غندور: “يا حلو يا لبنان، لبس الجلابية، عيناه“. إضافة إلى عبد الغني شعبان، ورياض البندك، وزكي ناصيف، والاخوين رحباني، وآخرين. لكن هذه المرحلة لم تقدم لنازك نقلة نوعية في مسارها الفني، وإن شهدت نجاحات عديدة حققت لها شهرة لا بأس بها.
ويروي حليم الرومي في مذكراته انه هو الذي اكتشف نازك وادخلها الى الإذاعة اللبنانية، وتتحدث المذكرات بفخر واعتزاز وإعجاب اقترب من النرجسية عن أوبريت مجنون ليلىالتي لحنها وشارك فيها في دور قيسمع نازك وحسن عبد النيي في دور ورد“. يقول في مذكراته : “نظم أمير الشعراء قمة أعمالي الموسيقية، فخر أعمالي وخبرتي الفنية لمدة خمسين سنة وأضخم وأكمل عمل من نوعه“.
من يستمع إلى الأوبريت يستمع في الحقيقة إلى أحد الملحنين الدارسين الأكاديميين العارفين بالموسيقى. يمتاز هذا العمل الفني بالصنعة، أي أن صاحبه يلحن بشكل مربع، يفتقد إلى انسيابة الدائرة التي يتحلى بها الإبداع الفطري الذي يرتكز إلى إحساس مرهف وموهبة حقيقيّة، تشعر أن الخيال مستحضر من العقل، وليس مولوداً من وحي الالهام. ذلك الوحي الذي تحدث عنه بيتهوفن في نص شديد التعبير والدلالة في إحدى رسائله الى الكونت برونشفيك عام 1814: “إن عالمي في الهواء، فكما تدوم الريح كذلك تدوم الأصوات في نفسي. الأفكار تلتقط في الأثير، وتلتقط في الغابات“. ويقول أيضاً: “عندما أتأمّل قبب السماء تتألق فى الليل بنجومها، تحلق روحي إلى ما وراء الأفلاك، إلى النبع الذى تتدفق منه الخليقه، كلُ واصل الى القلب يجىء من هناك، وما لا يجىء من هناك لغو لا روح فيه ولا حياة“.
ولا يبدو أن هذا العمل لحليم الرومي قد جاء من ذاك الـهناك، لذا بدا التعبير الموسيقي في مجنون ليلاهمغترباً عن النص الشعري، المكِّون الأساسي الأول للفن الموسيقي العربي. وقد يمر هذا الاغتراب أحياناً في الأغنية الفرديّة من دون خسائر إذا كان اللحن جميلًا، لكن ذلك غير مستساغ في العمل المسرحي التاريخي تحديداً حيث القيمة التعبيرية التصويرية تتقدم في التقييم والحكم على مدى حساسية الإبداع وعمق التأثير.

لعلها مشكلة لا ينفرد بها حليم الرومي وحده، بل غالبية الملحنين الأكاديميين المتعمقين في الدراسات الموسيقيّة. إذ لطالما قدموا أعمالاً يطغى فيها الجانب الأكاديمي الحرفي العقلاني على إبداعهم. غير أن ذلك لم يحل دون أن يقدم هؤلاء للموسيقى العربية خدمات جليلة من خلال توثيق التراث وتقديمه عبر الفرق الموسيقيّة والكورال التي ساهمت في إحيائه وحفظه، كما ساهموا في انفتاح العقل العربي المشرقي على الثقافات الموسيقية للشعوب الاخرى الغربية وغيرها، وذلك عبر تقديم أعمال موسيقية غرفت من الكلاسيكيات الغربية وموسيقى الشعوب من دون أن تفقد هويتها العربية المشرقية. كما ساعدوا الموسيقى العربية على ارتياد آفاق جديدة وانعتاقها من أسر القوالب التقليدية. ولو استعرضنا كبار الملحنين العرب لوجدناهم أصحاب موهبة فذة لم تخرج من معاهد الموسيقى، انما من ينابيع الإبداع الفطري، والتأمل العميق الذي يخترق الحجب .من هنا يمكننا أن نفهم لماذا كان الاستاذ رياض السنباطي يشترط على الفرقة الموسيقية ان تنحّي النوتة جانبا اثناء التسجيل وذلك حتى لا ينشغل العازف بالقراءة العلمية المحدَّدَة والمحدِّدة عن الإحساس الرحب الذي يبلغ ما لا يبلغه العلم من أسرار.

حين تطالع كتب النقد والتأريخ الموسيقي، تجدها قد انشغلت كثيرا بالرواد والمؤسسين الكبار، فلا تكاد تعثر على نازك وأخرين غيرها إلا عَرَضاً ومن خلال بعض الكتابات الإعلامية التي تتيح الشهرة والترويج، لكنها غير متخصصة بطبيعة الحال. أنصفتها القاهرة اذاً، وخذلتها مدينتها بيروت حيث اختارت الإقامة في المرحلة الثانية والأخيرة من عمرها الفني، مما فاقم من آلام روحها الحساسة الآخذة في التواري خلف سقمها، وانتهت في مصحة نفسية لتخرج منها الى الاعتكاف حتى رحلت عام 1983 كريشة هوت من جناح عصفور: لا صوت ولا صدى.
إنّها هِبة مدقّة الحسيني الشهيرة بنازك، ابنة الظل الذي سقط سهواً من ذاكرة النقد المبهور بالنور، الظل الذي سقط سهوا من كتاب الإنصاف.