الجميلات | ياسمين حمدان

يبدأ فيلم وحدهم العشاق على قيد الحياة لمخرجه جيم جرموش بمشهد لآدم، الموسيقي / مصاص الدماء الذي أكسبته حياة امتدت لقرون ضجرًا ثقيلًا، والأكثر من ذلك ذوقًا موسيقيًا شديد التطلب بات يستدعي بحثه عن آلات نادرة أو مصنوعة خصيصًا للعثور على الأصوات المحروفة التي قد تسكِّن من ضجره. عند ظهوره في ٢٠١٣، ساهم الفيلم بتقديم موسيقى ياسمين إلى جماهير أوسع، خاصةً مع ترشح أغنيتها حل للقائمة الطويلة لجائزة الأوسكار لأفضل أغنية أصلية. لكن مع صدور ألبومها الجديد الجميلات مطلع العام الجاري، نرى علاقةً جديدة تجمع موسيقى ياسمين بالفيلم، أو بالأحرى بآدم، الذي تصبح أكثر شبهًا به في بحثٍ هوسي عن أي أصوات جديدة يمكن خلق الموسيقى بها.

انطلقت ياسمين في الألبوم من بحث موسع يتكل بشكل رئيسي على الموسيقات الإثنية، موسيقات من السهل أن يساء فهمها أو تضيع خلال الترجمة في الاستوديو، وتنتهي بسهولة إلى مصير كارثي هو موسيقات المزج / العالم / الإكزوتيكية. مدركةً لهذا الخطر، جلست ياسمين في الجميلات خلف لوح المزج منخرطةً في التسجيل والمزج والتعديل، على خلاف يا ناس الذي لم تتدخل فيه إنتاجيًا، وبالتالي مكَّنت سلطتها في الاستوديو لتخرج بأفضل النتائج الممكنة من عملها مع موسيقيين كشازاد إسماعيلي (عمل مع لو ريد ولوري آندرسن وتوم وايتس) وستيڨ شِلي (من سونِك يوث).

بعد تمكنها من الاستوديو بشكلٍ مماثل، بدأت ياسمين بتسجيل وإتقان مسوداتها التجريبية، متخليةً عن الاتساق الداخلي في يا ناس، والذي أتت أغانيه متشابهةً في الخصائص العامة كالتقليلية الإيقاعية والجودة المصقولة وصدارة صوت ياسمين لباقي الآلات عبر المزج، دون أن يعتبر أي من ذلك انتقادًا سلبيًا للألبوم الذي صدف أن شابه بهذه الخصائص العامة ألبوم لورد الأول پيور هِروين، والصادر بعده بعدة أشهر. على العكس أخذت أغاني الجميلات توجهاتٍ مختلفة لا يجمعها سوى سياق شفَّاف من الميل النسوي، ففي دوس نجد أغنية توازن بين الهوائي والإلكتروني، وتحمل كلماتٍ احتجاجية / عاطفية مكتوبة على الطريقة الديلانية بتصرف. بشكلٍ مشابه أتت أغانٍ كـ الجميلات وإذا، مع اعتماد على الهوائيات بشكل أكبر في الأولى وعلى الإلكترونيات في الثانية.

يتبعثر هذا السياق كليًاً مع أغانٍ كـ كافيه بجودتها التسجيلية المخفضة، والتي تخلق مزاج الأغنية النوستالجي في البداية، قبل عبوره نفقًا هلوسيًا نحو إيقاعية ثقيلة منتشية. فيما تغوص تعالَ في تجريبٍ إيقاعيٍ عنيف غير منتظم، يوازي تجريب ياسمين في صوتها الذي تخرجه من أسلوبه المائع المعتاد، وتستخدمه كأداة بناء مزاج بعد تمريره عبر عدة فلاتر ومؤثرات. أما كاي تو فتأخذ طابعًا محيطيًا يلتف فيه صوت ياسمين حول المستمع كضباب متماوج الكثافة، قبل أن تنتهي الأغنية إلى أصوات إلكترونية تبدو كفيديو بدقة منخفضة، كل پكسل فيه بحجم الكف.

مقابل هذا الغنى التجريبي الذي امتاز به الألبوم ككل، واجهت الأغاني، كلٌ على حدى، فقرًا لحنيًا، فقر ظُلِّل بلونٍ أصفر حين تم الإفراط بإنتاج الألبوم وفُرضت عليه كثافة توزيعية أرهقت ألحان معظم الأغاني. أدى ذلك إلى تحول التجريبية المتحمسة إلى سيف ذو حدين، نراه في أيدي أغانٍ أقوى لحنيًا وأكثر اقتصادًا إنتاجيًا كـ كافيه وإذا وتعالَ، وعلى أعناق أغانٍ هزيلة لحنيًا مفرطة الإنتاج كـ لا شي وشوبي.

يكشف الجميلات عن ملامح مرحلة ثانية من مشروع ياسمين حمدان الفردي، المشروع الذي بات اليوم أكثر من أي وقتٍ مضى يدافع عن حقه بالمتابعه والإنصات عن قرب، خصوصًا حين شمله بسياق حركة إحياء البوب العربي. وفي الوقت الذي لم يخلُ به الألبوم من عيوب عادةً ما تصيب الأعمال الانتقالية، إلا أن انتصاراته تفوق عثراته. إن كان وحدهم العشاق (من سيبقوا) على قيد الحياة، فبإمكاننا التنبؤ بعمر طويل لياسمين.