.
“يجب أن تصيبنا الدهشة حين نتبين أن هناك بالفعل أممية أمريكية. موسيقى الجاز الأمريكي، وأفلام هوليوود، واللكنة والماكينات الأمريكية وبضائعنا المبتكرة هي في الحقيقة، الأشياء الوحيدة، التي يستطيع كل مجتمع في العالم، من زنجبار إلى هامبورج، الشعور بالألفة تجاهها بشكل مشترك.”
القرن الأمريكي، هنري لوس
في مقالة القرن الأمريكي للناشر والمحرر الأمريكي الأكثر شهرة في عصره هنري لوس، والمنشورة في عام ١٩٤١ في سياق حملته لحث مواطنيه والإدارة الأمريكية على الدخول في الحرب العالمية الثانية إلي جانب قوات الحلفاء، يقدم لوس صورة تفصيلية مبكرة عن وعي النخب الثقافية الأمريكية في النصف الأول من القرن العشرين بعالمية الثقافة الأمريكية ومحدداتها، مفصلاً تلك الروابط التي تبدو بديهية اليوم، بين المنتج الإبداعي والتقني، والتسويق البضائعي، وبين السياسة بمعناها الأشمل، وبمعناها كهيمنة إيدلوجية وقيمية بشكل أكثر تحديداً. الأمر الجدير بالانتباه في مقالة لوس، غير استشرافه لصعود الولايات المتحدة إلى موقع القوة العالمية الأكثر تأثيراً على الساحة السياسية والعسكرية الدولية، هو ترتيب دلائل أممية الثقافة الأمريكية في نصه، والتي تبدأ من الموسيقى، فالسينما، ويتبعها باللغة والمنتج التقني، وأخيرا البضائع. لا يمكن بالضرورة الجزم بأن ترتيب لوس الذي وضع المنتج الإبداعي، قبل التكنولوجي والتجاري، يعكس تراتبية في أولويات ومدى تأثير تلك المحددات في ذهنه، لكن على الأقل يشى بإدراك، ولو عفوي، يمنح المنتج الفني وخصوصاً الموسيقي، أولوية في عمليات فرض الهيمنة الإيدولوجية في القرن الأمريكي.
نالت أطروحة لوس مصداقية لدي صناع الدبلوماسية الثقافية الأمريكية، وصلت إلى ذروتها مع احتدام الحرب الباردة، واهتماماً بحثياً وأكاديمياً انصب في معظمه حول دور الفنون الأمريكية في الترويج للقيم الديمقراطية–الرأسمالية وطريقة الحياة الأمريكية في دول الكتلة االشرقية ومجتمعات العالم الثالث. ما ظل بعيداً عن اهتمام هؤلاء هي الطرق التي تفاعل بها فنانو المجتمعات التي تتلقى هذا المنتج الأمريكي وتخضع لهيمنته. ظل الأمر كذلك إلى أن بدأ مجال الدراسات الثقافية منذ مطلع التسعينات في إعادة تقييم الوزن المبالغ فيه للدبلوماسية الثقافية، ولاحقاً في استكشاف أساليب المقاومة والموائمة وإعادة الإنتاج التي انخرط فيها فنانو مجتمعات دول الشمال والجنوب في مواجهة الهيمنة الفنية الأمريكية.
متى إذا، وأين بدأ القرن الأمريكي في العالم العربي؟ انتشرت الموسيقى الأمريكية وسينما هوليوود في الدول العربية منذ بداية القرن العشرين، وكان لشعبيتها أن تتسع مع نهاية الحرب العالمية الأولى، لكن لو اعتمدنا أطروحة لوس بربط بداية القرن الأمريكي بالحرب العالمية الثانية، وتوحد الصعود العسكري الأمريكي مع الهيمنة الثقافية، فيمكننا الإدعاء بأن وصول القرن الأمريكي إلى المجتمعات العربية قد بدأ تحديداً في المغرب.
في ديسمبر ١٧٧٧، كانت المملكة المغربية أول دولة تعترف رسمياً باستقلال الولايات المتحدة الأمريكية، وبعد أحد عشر عاما، وقّع السلطان محمد الثالث مع جون آدامز وتوماس جفرسُن معاهدة الصداقة الأمريكية–المغربية، في تصديق رسمي على العلاقات الخاصة والتاريخية بين البلدين، والتي لا يبدو أكثر تدليلاً عليها من رسالة الرئيس الأمريكي الأمريكي الأول جورج واشنطن إلى السلطان محمد الثالث في عام ١٧٨٩، والمعروضة في متحف المفوضية الأمريكية في طنجة، والذي كان أول مبنى تمتلكه حكومة الولايات المتحدة في الخارج. وصلت العلاقات بين المغرب والولايات المتحدة إلى مستوى آخر من الحميمية في الثامن من نوفمبر ١٩٤٢، بإنزال القوات الأمريكية على الأراضي المغربية الخاضعة حينها لاحتلال حكومة فيشي الفرنسية المتحالفة مع دول المحور، ليبدأ القرن الأمريكي عربياً.
في عام ١٩٤٥ سجل حسين السلاوي أغنية العيون الزرقة، والمعروفة أيضا باسم لمريكان، والتي يرجح الكتاب أنه ألفها قبل ذلك التاريخ بعامين على الأقل، إذ أن الأغنية كانت معروفة قبل تسجيلها. تأتي أهمية أغنية السلاوي من كونها إحدى أولى المحاولات الموسيقية العربية المحفوظة للتفاعل مع القرن الأمريكي في بداياته، والتعامل مع توحد استعلانه من استعلن، أعلن عن نفسه العسكري مع هيمنته الثقافية، وهي المحاولة التي تكشف بشكل مدهش عن بعض مسارات ذلك التفاعل وطرائقه المستمرة إلى اليوم.
في كتابه بعد القرن الأمريكي: نهايات الثقافة الأمريكية في الشرق الأوسط، يدرج الباحث الأمريكي براين إدواردز أغنية السلاوي كإحدى نماذج كثيرة لتدوير المنتج الأمريكي الثقافي، وإعادة إنتاجه في قوالب محلية بغرض مناهضة هيمنته في الشرق الأوسط. فالسلاوي مثل غيره من المغاربة حينها، لم يزعجه الإنزال العسكري الأمريكي، الذي نظر إليه كتحرير من المحتل الفرنسي، ووعداً بالاستقلال قطعه روزفلت للملك المغربي بشكل شخصي أثناء مؤتمر قوى الحلفاء في كازبلانكا عام ١٩٤٣. ما يكشفه نص الأغنية هو أن أزمة السلاوي مع أصحاب العيون الزرقة ليست سياسية بالمعني المحدود للكلمة، بل هي التبعات الثقافية والاجتماعية للحضور المادي لتلك القوات الصديقة على الأراضي المغربية.
يعدد السلاوي في تهكم الخيرات التي جلبها أصحاب العيون الزرقة معهم، كالحلوى، والنعناع، والسيجار، والرَم، والبومبون، والدولار، واشيونكم (العلكة)، وأيضا اللغة التي أصبحت الصغيرات “يعقودا اللسان” حين يتلفظن بمفراداتها التي تسمع في كل مكان. لكن الأمر الأكثر إثارة للاهتمام، هو ربط أغنية السلاوي ضمنياً وبشكل فطري بين استهلاك تلك المنتجات، (بوصفه فعلاً ثقافياً) وبين تغير السلوكيات الاجتماعية للمغاربة، بل اهتزاز الهرمية الطبقية والجندرية في المجتمع: “الناس تقاوت (قويت)”، “والنسا علينا جارو (استقووا علينا)”، “يمين وشمال، ما تسوى كلمتي“، “حتى مع الفيلو تاكسي داروا لها الشان أصبح لها شأن“.
يكتفي براين إدواردز في تناوله للأغنية بالاحتفاء بتدوير السلاوي للكلمات الإنجليزية مثل أوكي أوكي، كَمون come on، باي باي، وصور المنتجات المرتبطة بتصوراته عن طريقة الحياة الأمريكية كالعلكة والسيجار وحلوى النعناع والرَم، وتوظيفها للتهكم من الجنود الأمريكيين، ومقاومة التغيرات الاجتماعية المرتبطة بوجودهم، ليدلل على أن فناني المنطقة، مثل غيرهم، انخرطوا في عمليات استيعاب المنتج الثقافي الأمريكي وتدويره ثم وضعه في قوالب محلية، وأحياناً كثيرة أعادوا إنتاجه لمقاومة هيمنة ذلك المنتج. لكن ما يغفل عنه إدوارز هو أن نص لمريكان يبدو معنياً بالأساس بإلصاق العار بالنساء المغربيات، وربما التحريض عليهن ضمنياً. فبالإضافة إلى إشاراته لاستقوائهن على الرجال ودخولهن في علاقات مع الجنود الأجانب، يشير السلاوي إلى أن حتى العجائز منهن والجدات يشربن الرَم، والصغيرات منهم أصابتهن عجمة اللسان أيضاً. لذلك، ما لم يتنبه له إدواردز هو مسار آخر اتخذه فنانو المنطقة ومجتمعاتها في مواجهة القيم الأمريكية وهيمنتها، لم يقتصر على المقاومة، بل وبإنتاج خطاب قمعي ضد الحلقات الأكثر ضعفا في المجتمع، والتمترس داخل الهوية المحلية وبنيتها الاجتماعية التقليدية، مرتكزة إلى القيم الأكثر محافظة ورجعية في الثقافة المحلية. هكذا لا يحوي خطاب لمريكان أي إمكانية تحريرية أو نقدية–ذاتية، مكتفية بالتهكم، وإدانة النساء المغاربة من أول الأغنية إلى آخرها.
في النهاية، تقدم أغنية السلاوي نموذجاً استثنائياً عن استقبال المجتمعات العربية للقرن الأمريكي، وطرق تفاعل فناني المنطقة ومجتمعاتها مع قدومه، كاشفة أن معضلة الهيمنة الثقافية الأمريكية لم تكمن في قدرتها على فرض تماهي مع قيمها وجمالياتها على مجتمعات المنطقة، بل في فرضها ضغطاً ثقيلاً يُعري الضعف المستشري لدى الطبقات المحلية التي استبدت لسنوات طويلة، دافعاً تلك الأخيرة إلى محاولات فزعة لإعادة فرض هرميتها.
كلمات الأغنية:
دخلت الماريكان الناس تقوات والنسا علينا جارو
المجوجات دارو السباب على رجالاتهم غابو
أشحال من هي معشوقة دارو ليها الشان
الأمريكان
تسمع غير أوكي أوكي هذا ما كان
________________________
الزين والعــين الزرقــــة/ جاءنا بكل خـــــير
اليوم يمشــــوا بالفرقــة/ بناتنا في خـــــــير
أشحال من هي معشوقـــة/ داروا لها الشــــــان
الامريكـــــان
تسمع غير أوكي، أوكـــي / هذا ما كـــــــان
________________________
في الكوتشي مع الطوبيــس/ ما لقيت نوبتـــــــي
يميــن وشـــــمال/ ما تسواشي كلمــتـــي
حتى من الفيلو– طاكسـي/ داروا لها الشـــــــان
الامريكـــــان
تسمع غـير أوكي، أوكي / هذا ما كــــــــان
________________________
الزين والعــين الزرقــــة/ جاءنا بكل خـــــير
اليوم يمشــــوا بالفرقــة/ بناتنا في خـــــــير
أشحال من هي معشوقـــة/ داروا لها الشــــــان
الامريكـــــان
تسمع غير أوكي، أوكـــي / هذا ما كـــــــان
________________________
فرقوا الفنيد والسيــجار/ زادوا الــــــدولار
حتى مـن العجايـــز/ اشراوا الفــــــولار
حتى من هم صغــيرات/ يعقدوا اللســــان
الامريكـــــان
تسمع غــير أوكي، أوكي / كامـون ، باي باي!
________________________
الزين والعــين الزرقــــة/ جاءنا بكل خـــــير
اليوم يمشــــوا بالفرقــة/ بناتنا في خـــــــير
أشحال من هي معشوقـــة/ داروا لها الشــــــان
الامريكـــــان
تسمع غير أوكي، أوكـــي / هذا ما كـــــــان
________________________
فرقوا الفنيد، افليــــو/ زادوا اشوينكـــــوم
حتى الغبرة والحمــــير/ زادوا البومــــــبوم
حتى من العزيزات اليــوم/ يشربوا الــــــروم
الامريكـــــان
تسمع غير أوكي، أوكي / كامـــون ، باي باي!
________________________
الزين والعــين الزرقــــة/ جاءنا بكل خـــــير
اليوم يمشــــوا بالفرقــة/ بناتنا في خـــــــير
أشحال من هي معشوقـــة/ داروا لها الشــــــان
الامريكـــــان
تسمع غير أوكي، أوكـــي / هذا ما كـــــــان
________________________
قوى علينـا الكبنـــدي/ من الناس فارحيـــن
سعد الزكا معهــــــم/ النساء رابحيـــــن
اشحال من هي معـــشوقة/ ولات بالسيكان واللـثام
مع الامريكـــــان
تسمع غير: أوكي، أوكي / كيف مي الــدولار!
________________________
الزين والعــين الزرقــــة/ جاءنا بكل خـــــير
اليوم يمشــــوا بالفرقــة/ بناتنا في خـــــــير
أشحال من هي معشوقـــة/ داروا لها الشــــــان
الامريكـــــان
________________________
تفسير لمرادفات الأغنية
دخلت الأمريكان الناس زادت قوتها والنساء استقووا علينا
المتزوجات لقوا السبب حتى يغيبوا عن أزواجهم
كم من معشوقة بالغوا في الاعلاء من شأنها
الأمريكان
تسمع غير أوكي أوكي هذا كل ما في الامر
________________________
الجمال والعــين الزرقــــاء جاءنا بكل خـــــير
اليوم يمشــــوا بالفرقــة بناتنا في خــــير
كم من معشوقة بالغوا في الاعلاء من شأنها
الامريكـــــان
تسمع غير أوكي، أوكـــي هذا كل ما في الامر
________________________
في الكوتشي مع الاطوبيس لم أجد مكانا لي
يميــن وشـــــمال ليس لها أي قيمة كلمــتـــي
حتى من الفيلو– طاكسـي بالغوا في الاعلاء من شانها
الامريكـــــان
تسمع غـير أوكي، أوكي هذا كل ما في الامر
________________________
الجمال والعــين الزرقــــاء جاءنا بكل خـــــير
اليوم يمشــــوا بالفرقــة بناتنا في خـــــــير
كم من معشوقـــة بالغوا في الاعلاء من شانها
الامريكـــــان
تسمع غير أوكي، أوكـــي هذا كل ما في الامر
________________________
وزعوا الحلوى والسيــجار، ضافوا الــــــدولار
حتى مـن العجايـــز اشتروا الفــــــولار
حتى من هم صغــيرات يعقدوا اللســــان
الامريكـــــان
تسمع غــير أوكي، أوكي كامـون ، باي باي!
________________________
الجمال والعــين الزرقــــاء جاءنا بكل خـــــير
اليوم يمشــــوا بالفرقــة بناتنا في خـــــــير
كم من معشوقـــة بالغوا في الاعلاء من شانها
الامريكـــــان
تسمع غير أوكي، أوكـــي هذا كل ما في الامر
________________________
وزعوا حلوى النعناع وضافوا العلكة
حتى الغبار والحمــــير، ضافوا البومــــــبون
حتى من الجدات اليــوم يشربوا الــــــروم
الامريكـــــان
تسمع غير أوكي، أوكي كامـــون ، باي باي!
________________________
الجمال والعــين الزرقــــاء جاءنا بكل خـــــير
اليوم يمشــــوا بالفرقــة بناتنا في خـــــــير
كم من معشوقـــة بالغوا في الاعلاء من شانها
الامريكـــــان
تسمع غير أوكي، أوكـــي هذا كل ما في الامر
________________________
قوى علينـا الكبنـــدي، من الناس فرحين
حظ الزكاة معهــــــم، النساء رابحيـــــن
كم من معـــشوقة، صارت بالساق واللـثام
مع الامريكـــــان
تسمع غير: أوكي، أوكي كيف ماما الــدولار!
________________________
الجمال والعــين الزرقــــاء جاءنا بكل خـــــير
اليوم يمشــــوا بالفرقــة بناتنا في خـــــــير
كم من معشوقـــة بالغوا في الاعلاء من شانها
الأمريكـــــان