ابن الليل | مشروع ليلى

في مشهد يتكرر كثيراً في الأفلام المبتذلة، تظهر فتاة على وشك الخروج في موعد تحمل في يدٍ ثوباً فاضحاً وبالأخرى ثوباًفاضحاً أيضاً، لكن أقل. “المحافظ أم اللعوب؟نسمعها تسأل صديقتها. عند السماع الأول لـ ابن الليل سيبدو أن الفرقة اختارت المضي مع المظهر اللعوب، لكن بعد الدخول في جو الألبوم، وسماعه عشر مرات أولى ثم عشرة ثانية وثالثة، يتضح أن الأمر أكثر دسامة وتعقيداً.

في ابن الليل، يستدرج أعضاء مشروع ليلى أنفسهم خارج منطقة الراحة. يغادرون الروك الشرقي والبديل إلى الموسيقى الراقصة الإلكترونية EDM فيزداد الاعتماد على الإيقاع والصوت الإلكتروني وعلى غناء سنو وكلماته. في نفس الوقت، تتراجع مقاطع العزف المنفرد لصالح افتتاحيات وقفلات آلاتية مطولة وأكثر إيقاعيةً، وينحسر كمان بابازيان لأدوار أكثر ثانويةً وإيقاعيةً، مع الحفاظ على كونه عنصراً رئيسياً في تشكيل صوت الفرقة.

ضمن هذا الطابع العام يمكننا ملاحظة توجهان رئيسيان يسيطران على الألبوم. الأول يُضفي طابعاً شرقياً على لون موسيقي عالمي (الموسيقى الراقصة الإلكترونية)، في استمرارية لمحاولات سابقة مثل إم بم بللاح ولتلت. الثاني يشهد محاولة جريئة لتجاوز المشهد المحلي والمساهمة في تشكيل الموسيقى الراقصة الإلكترونية على مستوى عالمي. في الأغانِ التي تمثل هذا التوجه نجد اعتماداً متزايداً على الصوت السيمفوني تؤديه أوركسترا إذاعة مقدونيا. من الملاحظ أن ارتفاع الصوت السيمفوني في بعض الأغاني أدى لإقصاء شبه كامل للصوت الشرقي، وهذا ليس مأخذاً.

على صعيد بنية الأغنية تبدأ الفرقة بالاستسلام بشكل أكبر لاستخدام اللازمة ضمن بنية شبه تقليدية في ثلثي أغاني الألبوم. ما يميز هذه الأغاني هو التعامل مع ثنائية متناقضة هي الهروب والاحتفال، إذ ضمت معظم الأغاني في آنٍ واحد جانباً جدياً انفعالياً محتداً قد يتمثل بصوت سيمفوني أو كلمات جدية أو أداء صارم على جوقة كمان، وجانباً آخر أكثر عبثاً وانطلاقاً Upbeat تمثله الآلات الإيقاعية بشكل أساسي. تجمع بعض الأغان بين هذين القطبين في آن فتمنح المستمع فرحاً متوجساً، وفي بعضها الآخر يأتي هذان الجانبان بالتتالي، فتبدأ بإيقاعات إلكترونية راقصة مرحة وتنتهي بأداء صوتي توسلي عالي الطبقة مصحوب بكمان يعزف نوطات بطيئة سوداوية، أو تبدأ بمقدمة سيمفونية صارمة وكلمات جدية وتنتهي بإيقاع راقص.

موسيقى راقصة إلكترونية بنبرة شرقية

يمكن تصنيف ما قد تكون الأغنية الأفضل في الألبوم، الجن، ضمن محاولات الفرقة للعثور على موسيقى راقصة إلكترونية بصوت شرقي خاص ومستقل. تتمثل الأغنية لاسمها بشكلٍ ممتاز وتدخل المستمع في جو شعائري غامض وجامح، حيث يغني الكورال الذكوري في الخلفية مبدلاً بين الطبقات الرخيمة والحادة، مؤكداً الطابع الضبابي ومعززاً أداء سنو الشيطاني اللعوب، بينما يظهر ابراهيم بدر بأداء ممتاز على البايس خصوصاً خلال وصله بين اللازمات والمقاطع. أما الكمان فيفسح لنفسه مجالاً في النصف الثاني من الأغنية، ليتصدر بدورٍ رئيسي يبطئ إيقاع الأغنية دون أن يفسد جوها. تتوج كلمات سنو البارعة احتفالية تفيض بالطابع الشرقي الإيروتيكي وكأنها منبثقة من ألف ليلة وليلة: “بالغابة منسهر بالليل / منشرب من قلب الغزال / مننخر الأرض بعصيان / ليطوف الخمر من العين، قبل أن تطوع أغنية ليلى نظمي ما اشربش الشاي في اللازمة وتساعد سنو ليتفوق على الكثيرين ياسمين حمدان مثلاً في استعادة تراث موسيقي شرقي لعوب لا يزال حياً نشيطاً.

قد لا تعد ٣ دقائق شرقيةً لولا تطويع سنو للغة العربية، ومساعدتها على التكيف مع المحيط الصوتي الإلكتروني الغريب. تحافظ الأغنية بشكلٍ كبير على صوت مشروع ليلى، وتنقله من الروك الشرقي للموسيقى الراقصة الإلكترونية. تمتاز الأغنية باندماج الكمان بصوتيه: السريع الاحتفالي الذي يُعزف بشكل رئيسي على إيقاع من الطبول والبايس، والبطيء العاطفي الذي يظهر لاحقاً ويُعزف خفيضاً ثانوياً. يندمج الصوتان بسلاسة مع المحيط الإلكتروني فيما يتحرك سنو بانطلاق وأريحية، مقدماً أداءً ممتازاً يذيب كلمات الأغنية في موسيقاها: “الفرق بين الحرية والخضوع تخيير / أنا اللي اخترت، أنا اللي قبلت، أنا اللي قلت“.

تبدأ أصحابي بإيقاع متنام يستقبل بالتدريج الآلات التي تنضم للإيقاع بحذر وصوت منخفض يبقى تحت صوت سنو. تبرز الأغنية قدرات إنتاجية ممتازة تتفوق على أعمال الفرقة السابقة تبدو أنها أتت من حاجة لاستيعاب طبقات االأغنية المتعددة. يحاول سنو تجويد كل جملة وعبارة لاستخراج الشعور فيها، وتساعده على ذلك كلمات الأغنية التي بدأت تقتبس بشكل واسع على مواقع التواصل الاجتماعي: “لأ مش عم ببكي / دمعت عيني من الدخان / وبصب الكاس لاثنين / وبشربه لوحدي / ليك شوفي حولي ناس / مش ممكن لوحدي“. مع اقتراب الأغنية من نهايتها يسيطر على صوت سنو شعور بالإرهاق يتزايد مع كل جملة يؤديها، فيبدو صوته على وشك الانهيار في نهاية كل جملة، فيما يبدأ النسيج الإيقاعي الذي اكتمل بالانقلاب على صوت سنو ومحاولة السيطرة على الأغنية. عندما يحين وقت الانهيار الذي طال انتظاره، لا يحدث الانهيار لصيحة صوتية، بل لخاتمة آلاتية ممتازة، خصوصاً بعد التمهيد لها بالإيقاع المتنامِ.

موسيقى راقصة إلكترونية بآلات سيمفونية

نبدأ حديثنا في هذا السياق بأغنية أيودي اسم شخصية ميثولوجية إغريقية، كما هي لقب دلع لشاب اسمه إياد، أول أغاني الألبوم. تبدو الأغنية آلاتية تماماً في منتصفها الأول، تبدأ بإيقاع راقص رتيب يعتمد بصرامة على الإيقاع والأصوات المولدة إلكترونياً، قبل أن يستقبل الكمان الذي يمهد لانهيار الإيقاع لسرعة أبطأ. تتسلل خلال هذا الانهيار أصوات سيمفونية تفصح عن نفسها بالتدريج حتى تصبح جزءاً من نسيج الأغنية. هذا الانتقال المُقل من الإيقاعي الإلكتروني إلى اللحني السيمفوني، ثم الاستمرار بصوت جمع بين الاثنين، يتم بمهارة. فرغم الفرق الشاسع بين الصوتين إلا أن التشتيت الذي تحدثه جوقة الكمان في المنتصف يجعل الانتقال ممكناً. يدخل بعدها صوت سنو بطبقة حادة على طول الأغنية، كما في اسكندر معلوف، فيقود الإيقاع الجديد الأكثر تعقيداً لفترة، ثم تنسحب الأدوات بالتدريج وتترك سنو شبه وحيداً ليقفل الأغنية ويسلمها لخاتمة من الأصوات الإلكترونية المشوهة Distorted.

يستمر الصوت السيمفوني الإلكتروني في أغنية مغاوير الممتازة، حيث تعلن الآلات النفخية عن جدية الأغنية، وتستمر بشكل أخف في الإيقاع لتحافظ على عسكرية اللحن، فيما يغني سنو بنبرة إغرائية فيها الاستهزاء والتحدي (كما في للوطن). تبلغ الأغنية نقطة تحول عندما يغني سنو عبارة مكررة بصوت ذو طبقة عالية: “شوب شوب قوصوك، شوب شوب قوصوك، حيث تأخذ الأغنية فجأةً منحاً راقصاً بأصوات إلكترونية متماوجة تراكمية وتصاعدية، تنتزع المستمع من جدية الكلمات وترمي به بجو احتفالي راقص ماجن، وسط إيقاع طبول سريع ممتاز وأداء بطيء متماوج على الكمان يفلح بالاندماج مع الصوت الإلكتروني. الدقيقتان الأخيرتان من الأغنية تتميزان ببناء آلاتي ممتاز قد يكون أفضل تجليات توجه الفرقة الجديد. وكما في أيودي، تجمع هذه الأغنية بين الموازنة بين السيمفوني والإلكتروني من جهة، وتقديماً لبنية الأغنية المتناقضة بين الجدية والهروب من جهة أخرى.

هذا التوجه لتطوير صوت راقص إلكتروني مع آلات سيمفونية ينجح في الأغنيتين السابقتين، لكن يخفق في أغانِ أخرى كـ بنت الخندق، حيث تظهر الأوركسترا بوضوح من مقدمة الأغنية الوترية النفخية الضخمة صوتياً، وتستمر على طول الأغنية بأصوات حازمة شديدة الجدية تميل للطابع الملحمي. وبينما تتدفق الأغنية بشكل عظيم وسلس يبدو صوت حامد سنو خارج السياق، إذ يتخلى عن حذره بالتعامل مع الملافظ العربية المعقدة في المحيط الموسيقي الذي لم يعد شرقياً على الإطلاق، فيغني بطبقة معتدلة لا شديدة الحدة ولا الرخامة، الأمر الذي يترك الأغنية ضحية تناقض، مع استثناء المقاطع التي ينحسر فيها الجانب الآلاتي لأصوات إيقاعية من الطبول والبايس.

يمكن القول إن بعض أغاني الألبوم لا تأخذ منحىً سيمفونياً ولا شرقياً، بل تكتفي بتقديم أغاني راقصة إلكترونية تحافظ على شيء من صوت مشروع ليلى. وبينما تنجح بعض هذه الأغاني كـ فليكون ذات الإيقاع الصاعد المنطلق الذي ينسجم مع أداء سنو، إلا أن أغانٍ أخرى لم تكن موفقة مثل طيف التي تعاني من إيقاع طبول شديد الرتابة وصوت عالٍ مشتَت. يواجه سنو مجدداً صعوبة بالتوفيق ما بين اللغة العربية والإيقاع الإلكتروني الغريب عنها، فتبدو المقاطع الغنائية متناقضة مع الأغنية في معظم الأحيان وكأننا نسمع ريميكس راقص لأغنية عربية عادية.

IBN-EL-LEIL-Poster

ابن الليل

في ابن الليل قررت الفرقة البدء من الصفر تقريباً وهذا قرار فني شجاع ويثنى عليه والبحث عن صوت جديد. خلال هذه المغامرة وضعت الفرقة الكثير على طبقها: اعتماد على صوت إيقاعي وإلكتروني، الاستخدام المتزايد للصوت الأوركسترالي في استقبال لعدد كبير من الآلات الموسيقية صعبة الاحتواء، التخلي عن الصوت منخفض الجودة Low-Fi لصالح آخر مصقول بحرفية في الاستوديو، وأخيراً الابتعاد عن الصوت الشرقي الذي كان قد يساعد على التوفيق بين الإلكتروني والأوركسترالي وغناء حامد سنو. كل ذلك يحرم الفرقة من الأريحية والتدفق السلس واللامبالي كما في لتلت ورقصة ليلى وبيشوف واسكندر معلوف، فتبدو الجهود المبذولة لتأليف بعض الأغاني في ابن الليل واضحةً للمستمع.

في المقابل يقدم الألبوم أغان ناجحة وممتعة تعثر على شكل جديد للأغنية الشرقية الاحتفالية. ٣ دقائق والجن وأيودي وأصحابي ومغاوير تتجاوز كونها أغانٍ ناجحة، لتكون بمثابة برهان بأن الموروث الثقافي من الموسيقى الشرقية  يتسع لعوالم جديدة باتساع مخيلة الفنان.

المحافظ أم اللعوب؟قد تكون الفرقة سألت نفسها في مرحلة ما قبل بدء العمل على الألبوم، وكان الجواب الذكي الخارج عن الثنائيات المملة هو: لسنا مجبرين على الاختيار.