الموسيقى العسكريّة المصريّة | من الجذور إلى المهزلة

كان دخول العثمانيين للقاهرة العام ١٥١٧ وتحوّل مصر لولاية عثمانيّة، إثر ذلك، بداية معرفة المصريين بالموسيقى العسكريّة بمفهمومها الحديث كما نعرفه اليوم. يعود تاريخ الموسيقى الحربيّة العثماني للقرن الثالث عشر، وذلك حين أرسل السلطان السلجوقي علاء الدين كيقباد الثالث فرقة نحاسيّة مصحوبة بفرقة إيقاعيّة سلطانيّة للأمير عثمان بن أرطغول، مؤسّس الدولة العثمانيّة، كاعتراف بتسليم راية الريادة التركمانيّة لأسرة العثمانيين الصاعدة. سرعان ما تبنّى العثمانيين التقاليد السلجوقيّة وطوّروها مع تمدّد إمبراطوريتهم، موظفين الموسيقى لفرض الانضباط في معسكرات التدريب العسكريّة، واصطحاب الفرق الإيقاعيّة والنحاسيّة في الغزوات لبث الحماس في جيوشها.

امتدّت وظيفة الموسيقى العسكريّة إلى مراسم الدولة والاحتفالات الرسمية، حيث جرى العرف أن يقف الحضور في المناسبات العامة، توقيراً للخليفة العثماني عند عزف الفرقة العسكرية السلطانيّة، المهتران: الفرقة الموسيقيّة العسكريّة الأقدم في العالم، والتي لا تزال مستمرة حتي اليوم. شكّلت فرقة المهتران المثال الأول الذي بنت عليه الجيوش الأوروبيّة الحديثة تقاليدها الموسيقيّة، وأثّرت أناشيدها بشكل عميق في الموسيقى الكلاسيكيّة الغربيّة.فيمكن تتبّع التأثير العثماني في السيمفونية التاسعة لبيتهوفن، ومقطوعة النشيد التركي لموتزارت. أما في مصر، اعتاد المصريون على عروض فرق الطبلخانات الإنكشاريّة في الاحتفالات الدينيّة والمناسبات الرسميّة، وإن ظلت تلك الموسيقى حكراً على القوات النظاميّة الأجنبيّة، وتجسيداً لسلطة الخلافة العثمانيّة، وإن كان هذا لم يمنع ترك بصمة على تقاليد الموسيقى المصريّة لاحقاً في أوبريتات سيّد درويش المسرحية على سبيل المثال.

كان وصول الحملة الفرنسيّة إلى مصر بفرقها الموسيقيّة العسكريّة الأكثر تطوّراً وباحثيها الموسيقيين نقطة التقاء المصريين الأولى والمباشرة بالاستعمار الغربي وهيمنته الثقافيّة. فبينما انهمك الباحثون الفرنسيون في إخضاع الموسيقى المصريّة لبحثهم الاستشراقي منهجيّاً: تدويناً وتصنيفاً وتحليلاً إثنوغرافيّاً، خضع المصريون الذين شاهدوا عزف الفرق العسكريّة النحاسيّة الفرنسيّة في شوارع القاهرة وفي الموالد الدينيّة، لحالة من الانبهار أمام مدى التنوّع والتعقيد التقني للآلات الموسيقيّة الفرنسيّة، وعمق الانضباط والتعقّد النّظامي لتقاليد موسيقاها. وعلى الرّغم من قصر فترة بقاء الفرنسيين في مصر، إلا أن موسيقاهم العسكريّة لعبت دوراً لا يمكن إهماله في تشكيل وعي المصريين بأنفسهم في مقابل الآخر المتحضر، وإرساء اللبنة الأولى لهويتهم الوطنيّة التي ستلعب الموسيقى العسكريّة في تشكيلها دوراً جوهريّاً لاحقاً.

دشّنت السنوات الأولى لحكم محمد علي بداية تأسيس الدولة الحديثة في مصر، معتمدة في الأساس على تكوين جيش وطني قوامه من الجنود المصريين لأوّل مرة في تاريخها المعاصر. وفي سعيه لبناء جيش حديث على الأسس الغربية، استعان محمد علي بالخبراء الفرنسيين والإيطاليين في تأسيس مدرسة الطبول والنفخيّات والأصوات بمنطقة الخانكة، مؤسّساً أربعة مدارس أخرى للتعليم الموسيقي لمجندي الجيش في القاهرة والاسكندريّة والتي قامت بدورها، لأول مرة، بإرساء المنهج النظامي في التدوين والتدريب والأداء الموسيقي الذي كان يعتمد حتى وقتها على التلقين الشفهي. التحق خريجو تلك المدارس بالفرق العسكريّة الموسيقيّة، لكن الدور الأكثر جوهرية لتلك المدارس كان تزويدها وزارة المعارف بمدرسين للموسيقى في المدارس العموميّة غير العسكريّة، والتي اعتمدت حصراً على العسكريين لشغل مناصب التفتيش والتدريس الموسيقي في مدارسها. إلى أن تم تأسيس نادي الموسيقى الشرقيّة، معهد الموسيقى العربيّة اليوم، العام 1925، والذي استعانت الوزارة بخريجيه لشغل وظائفها جنباً إلى جنب مع الموسيقيين العسكريين، وإن ظل تأثير العسكريين هو الأكبر على الموسيقى المدرسيّة المصريّة، والتي تعتمد موسيقى طوابيرها الصباحيّة على إيقاعات وألحان عسكريّة خالصة حتى يومنا هذا.

توسّع البريطانيون أثناء احتلالهم لمصر في التدريب الموسيقي العسكري بشكل أكثر منهجيّة وانضباطاً، ليتولّى ضباط بريطانيون وإيطاليون تدريب الفرق العسكريّة الموسيقيّة المصريّة، التي بدأت بالقيام بجولات دوريّة موسيقيّة في المحافظات المختلفة، مقدّمة للجمهور مقطوعات كلاسيكيّة غربيّة تتميّز بتوافقها اللحني والهارموني، متجاوزة ما اعتادوه من موسيقى التخت العربي والموسيقى الشعبيّة المصريّة. بينما لعبت الموسيقى العسكرية بإطارها الغربي دوراً عميقاً في تشكيل الهويّة العسكريّة المصريّة، بمنهجيّة التدريب والأداء الموسيقى النظامي بشكل عام، بالإضافة إلى إرساء تقاليد التعليم الموسيقي المدرسي. إضافة إلى أنّها شكّلت رافداً غربيّاً أثرى الموسيقى المصريّة من جانب، وأخضعها من جانب آخر لهيمنة ثقافيّة لا يصعب تبيّن أصولها الكولونياليّة تجدر الأشارة إلى أن أول نشيد وطني مصري والذي عرف بسلام الخديوي اسماعيل كانت من تلحين الموسيقي الإيطالي فيردي، قيمها الأسمى هي الانضباط والنظاميّة الغربيّة على حساب الموسيقى المحليّة الأكثر أريحيّة وارتجالاً.

دفع وصول الضباط الأحرار للحكم، بالإضافة إلى توسّع دور الجيش في الحياة العامة وعسكرتها، وتنامي الشعور الوطني بسبب الآيدولوجيا القوميّة الناصريّة وحالة الحرب المستمرة حينها، إلى تجذّر موقع الموسيقى العسكريّة بوصفها أحد مقوّمات الهويّة الوطنيّة للمصريين، وذلك بتوظيفها في الاستعراضات العسكريّة في الشوارع والميادين بشكل مكثّف، وكخلفيّة موسيقيّة في الأفلام الدعائيّة لنظام الحكم الذي تألف من عسكريين. أعادت السلطات المصريّة بعد ثورة يوليو تقسيم وتخصيص الإدارات الموسيقيّة العسكريّة في القوات المسلحة، وتم استبدال فرق الكتائب بفرق أكبر عدداً للفرق المركزيّة. وكان من شأن التوسّع في التدريب الموسيقي العسكري وارتفاع مخصصاته الماليّة أن مهّد لفوز الفرقة السيمفونيّة العسكريّة المصريّة بجائزة أفضل فرقة عسكريّة في مهرجان باري للموسيقى العسكريّة لست سنوات متتالية ١٩٦١ – ١٩٦٦.

جسّدت النكسة نقطة فاصلة في تحوّل اهتمام الدولة عن الموسيقى العسكريّة وتسخير مواردها لصالح المجهود الحربي القتالي تمهيداً لحرب أكتوبر. ودفعت الثورة النفطيّة في دول الخليج وسياسات الانفتاح في حقبة السادات لانتقال كوادر الموسيقى العسكريّة إلى دول الخليج للمساهمة في تأسيس فرقها الموسيقيّة العسكريّة الناشئة وتدريبها. وبالتالي، تم تفريغ العسكريّة المصريّة من كواردها وخبراتها الموسيقيّة، وبالتوازي: اكتفى الجيش المصري بإلحاق المجندين ذوي الخلفية الموسيقيّة في فرق الأسلحة القتاليّة المختلفة أثناء فترة تجنيدهم الإجباريّة التي لا تتجاوز السنتين، على حساب التراجع في تخريج موسيقيين نظاميين يعملون بشكل دائم في صفوف فرقها، حيث ينأى معظم ضباط الجيش المتطوعين عن الالتحاق بإدارة الموسيقى العسكريّة غير المجزية على المستوي المهني، مفضلين الالتحاق بالإدارت العسكرية القتاليّة التي تضمن مستقبلاً مهنيّاً ونفوذاً سياسيّاً، بل ومناصب إداريّة قياديّة في مؤسسات الدولة المدنيّة بعد الإحالة على التقاعد.

مثّلت فضيحة عزف فرقة الحرس الجمهوري العسكريّة للنشيد الوطني الروسي أثناء زيارة بوتين الأخيرة لمصر (أوائل شباط/ فبراير)، وتحوّل الفرقة لموضوع سخرية المؤسسات الإعلاميّة العالميّة والمحليّة، الحلقة الأخيرة من تراجع الموسيقى العسكريّة المصريّة، ووصول تحلّلها البطيء الذي بدأ مع نكسة يونيو لمحطته الأخيرة. تطرح تلك الفضيحة العلنية المخجلة دلالات أعمق من تداعي عسكريّاتنا الوطنيّة وموسيقاها التي فشلت في تجذير أصولها الكولونياليّة، بل بالأحرى تبدو تجسيداً مسموعاً لتحلل مشروع الأنظمة الوطنيّة ما بعد الاستعمار، وتفكّك هويّاتها الوطنيّة ذات القالب العسكري في المنطقة اليوم. تفكّكاً ليس أجدر من الموسيقى ونشازها بأن يشي به.