يا رسول الله هل يرضيك أنا؟ | حرب البوير والنشيد الجهادي الأول

“يرجع اهتمامي بموضوع الموسيقى والتطرف إلى بحثى الأكاديمي السابق حول الموسيقى في حرب العراق. فحواراتي المعمقة مع جنود المشاة و المارينز الأمريكيين كان قد كشفت عن تقاطعات الموسيقى مع العنف، وعن كيف أنه كان للموسيقى دائما أن تساهم بشكل جوهري في صياغة الروابط الاجتماعية، والهوية، وحوافز الفعل.”

في كتابه الموسيقى والراديكالية الذي أخذنا منه الاقتباس السابق، يتتبع المؤلف الموسيقي والباحث الأكاديمي الأمريكي جوناثان بايسلاك الدور الذي تلعبه الموسيقى في عدد من حركات العنف السياسي: بدءًا من الأناشيد الجهادية لتنظيم القاعدة، مرورًا بحركات حليقي الرؤوس والتفوق العنصري الأبيض، ووصولًا لجماعات حقوق الحيوان والنباتيين الراديكالية. وفيما يعتمد بايسلاك على فرضيات علم النفس الإدراكي الفردية ونظرية الهوية الاجتماعية التقليدية لتفسير التوظيف السياسي للموسيقى، كوسيلة للتأثير الشعوري والتجنيد والتحفيز وتعميق روابط الهوية الجمعية في الحركات الراديكالية، فإنه يربط تلك العمليات ببحثه السابق عن استغلال الموسيقى للأغراض نفسها، داخل الجيوش النظامية، ومثال الجنود الأمريكيين في حرب العراق تحديدًا.

تبدو النقطة الجديرة بالاهتمام في مشروع بايسلاك البحثي هي نزع الإستثنائية عن راديكالية جماعات الإسلام الجهادية وموسيقاها، ووضعها جنبًا إلى جنب، وربما على قدم المساواة البحثية، مع حركات سياسية غربية راديكالية، بل وإلى جنب القوات المسلحة النظامية. هذه الخطوة لأنسنة عنف الإسلام الجهادي، والتي تبدو أكثر ضرورة لغرض فحص موسيقاه وأناشيد جماعاته على الأخص، جاءت مقترنة بافتراضات مثالية ترى في الموسيقى والعنف والهوية والراديكالية وغيرها مفاهيم متجاوزة، تحكمها قوانين كلية عابرة للسياق الاجتماعي والأيديولوجي والسياسي والتاريخي، يجوز تطبيقها على موسيقى حركة النباتيين الألمان أو الأصوليين البروتستانت الأمريكيين وعنفهم  كما على حركة طالبان أو تنظيم القاعدة. لا تأتي إشكالية تلك الفرضيات الاختزالية من تبسيطاتها المخلة فقط، بل وبالأحرى لنزعها صفة الخصوصية عن كل ظاهرة راديكالية بعينها، وعن مسارات تطور أيدلوجيتها وموسيقاها وفعلها السياسي والعنفي، وبالتالي انتفاء الحاجة لتتبع تلك المسارات في سياقاتها الخاصة والفريدة وتقاطعاتها مع غيرها.

لكن المبرر لتلمس العذر لبايسلاك يأتي في مقدمة الكتاب التي يشير فيها لتواضع الحصيلة البحثية حول موضوع الموسيقى والعنف، أو الموسيقى والحركات الراديكالية، والتي تأتي دراساتها المحدودة من مجالات دراسات الإرهاب والبروباجندا والتواصل، والتي لا يصعب تبين ضيق عدستها البحثية وأغراضها التطبيقية البحتة في الكثير من الأحيان. ينسحب الأمر بالضرورة على موضوع موسيقى حركات الجهاد الإسلامي، والذي يعود بايسلاك بأصولها إلى سبعينات وثمانينات القرن الماضي فقط، مستعينًا بطرح بهنام تيمو سيد، في بحثه دراسات في الصراع وأناشيد الإرهاب: مساهمة في دراسة الثقافة الجهادية، والذي نسب أصول الأناشيد الجهادية فيه إلي جماعة الإخوان المسلمين في كلٍ من مصر وسوريا بدءًا من حقبة السبعينات. لا يفتقد طرح سيد للمنطق، فمقارنة موجزة لفقه الموسيقى والفنون لدى جماعة الإخوان المسلمين والوهابية، والذي يراهما سيد عمادي الأيديولوجيا الجهادية المعاصرة، من الممكن أن نخلص منه إلى أنه من المنطقي نسبة التوظيف الموسيقي في العمل الدعوي والتحفيزي الإسلامي إلى الجماعة، لا للوهابية الأكثر تشددًا تجاه الموسيقى.

في الوقت ذاته، يكتفي سيد بالرجوع إلى السبعينات لأسباب منطقية أيضًا، تبدو أكثر إقناعًا، مع إشارته لاقتران تلك المرحلة مع ظهور شريط الكاسيت، ومع التغيير الجذري التي أدخلته تكنولوجيا التسجيل الرخيصة وانتشارها الجماهيري على دور الموسيقى في النشاط الدعوي والتحفيزي للجماعة، وكذلك محاولاتها لتقديم بديل إسلامي للموسيقى العلمانية التي ظلت مهيمنة على الأثير بفضل الاحتكار الحكومي على الإنتاج الإذاعي والتلفزيوني. هكذا فإن طرح سيد الذي يرى أن تطور الأناشيد الجهادية قد حكمته تقاطعات فقه جماعات الإسلام السياسي وأيديولوجيتها مع منتج تكنولوجيا التواصل الكثيف (من الكاسيت إلى الإنترنت) يبدو جديرًا بالفحص، وحافزًا للرجوع إلى أبعد من السبعينات، وبالأحرى إلى أول نشيد لجماعة الإخوان المسلمين المصرية.

ينسب للشيخ أحمد حسن الباقوري – والذي أصبح وزيرًا للأوقاف المصرية لاحقا بعد ثورة يوليو – كتابة النشيد الأول لجماعة الإخوان المسلمين، يا رسول الله هل يرضيك أنا؟ بتكليف من حسن البنا شخصيًا – بحسب شهادات  عدد من مؤسسي الجماعة ومن ضمنهم محمود عبد العليم في كتابه الإخوان المسلمين – أحداث صنعت التاريخ، ومذكرات الباقوري نفسه –  حتى  تبنت الجماعة، لاحقًا، نشيدًا آخرًا من ديوان بواكير لـ عبد الحكيم عابدين بعنوان، هو الحق يحشد أجناده (صادر في ١٩٣٧) ، يشار إليه باسم نشيد الكتائب في أدبيات الجماعة.

ومع أن التأثير الصوفي في جماعة الإخوان المسلمين، أو على الأقل في مرحلتها التأسيسية، ليس أمرًا في حاجة للتدليل، في ضوء انتساب البنا نفسه للطريقة الحصافية الشاذلية في مقتبل شبابه، وكذلك تعريفه لدعوة الإخوان نفسها بوصفها “حقيقة صوفية”، فإن الصيغة الجهادية المباشرة للنشيد الأول للجماعة، ونشيد الكتائب اللاحق، وإيقاعهما العسكري، لا توحي بانتمائهما لتراث وتقاليد الإنشاد والذكر الصوفي، الذي كان للجماعة منه أناشيدها أيضًا، بالتوازي، والتي وظفتها في أغراض التلقين الديني والدعوة  وتعزيز الهوية الجمعية والروابط  بين أعضائها ومنتسبيها، سواء في اجتماعاتها أو المناسبات الإجتماعية الخاصة.

كان للجماعة موقف منفتح تجاه الفنون، ونحو توظيفها في أعمال الدعوة. فيما يخص المسرح على سبيل المثال، يقول حسن البنا: “تنقص المسرح المصري الرواية الموجهة إلي هدف أو الداعية إلي فكرة، أو الدالة على فضيلة، لأن كثيرًا من كتابه يرون أن الوعظ إذا جاور الفن أفسده، فالعمل الفني عندهم يجب أن يكون لمجرد العرض فلا يحمل غاية، ولا يرمي إلي هدف، ولا يدعو إلي فضيلة. واستتبع ذلك أن يكون العرض مثيرًا للشهوات وموقظ للغرائز، مما أسفّ بالمشاعر وهوى بمستوى الأخلاق. فكان لزامًا إذا أردنا أن نسخر المسرح لغايتنا، أن نكتب له بأقلامنا حيث ننفي خبثه ونمسح غثاءه وننقي صفحته، ونطهره في ثوب يتفق مع جلال دعوتنا وسمو مقاصدها وغاياتها.”

لكن النشيد الأول للجماعة، وتراثها الغناء الجهادي اللاحق، لا يبدو وقد تطور في سياق ذلك النوع من المنتج الفني للجماعة الموجه ومحدد الهدف، الذي كان بحسب عبد الرحمن البنا، الكاتب المسرحي الأغزر إنتاجًا في الجماعة وفرقتها التي استعانت أحيانًا بالممثلين المحترفين بل وغير المسلمين أيضًا، موجهًا للعامة، لا لمنتسبي الجماعة أو المتعاطفين معها. حمل النشيد شحنة إسلامية مخففة تستطيع اجتذاب “الشباب الذي تجرفه موجات الإلحاد، ولا نستطيع الوصول إليه في المساجد.”

إذا قبلنا بفرضيتي أن أناشيد الجهاد لم تتطور في السياق التلقيني والتعبدي المتأثر بالتراث الموسيقي والنصي الصوفي، ولا في سياق إنتاجها الفني المعني بنشاط الدعوة والهداية، ففي أي سياق تطورت الأناشيد الجهادية الأولى للجماعة؟

لا تحتاج الإجابة للكثير من الاجتهاد، فنشيد هل يرضيك أنا؟ كتب ليكون الشعار الرسمي لمجموعات الجوالة (الكشافة) لجماعة الإخوان المسلمين. رفض البنا تشكيل جماعة  للقمصان الملونة، مثل حزب مصر الفتاة (القمصان الخضراء) وحزب الوفد (القمصان الزرقاء) – وهو الأمر الذى ثبتت رجاحته لاحقًا بعد أن أصدرت الحكومة قانونًا يجرم الجماعات شبه العسكرية في عام ١٩٣٧ – واكتفى بفريق الجوالة الذي كان مسجلًا بشكل رسمي في جمعية الكشافة الأهلية التي انتسبت إليها جميع الحركات الكشفية في مصر حينها. لكن نظام الجوالة الذي أنتجت في سياقه أناشيد الجهاد الأول للجماعة، لم يكن مجرد اختيارٍ براجماتي يتيح التدريب البدني شبه العسكري في إطار قانوني فقط، بل تبنت الجماعة قانون الكشافة المصري دون تعديل يذكر لأنه “يتماشى مع الفضائل الاجتماعية التي يدعو لها الإسلام”، بحسب كتاب عضو الجماعة محمود عبد الحليم الذي ذكر سابقًا.

(ينسب لعبد الحكيم عابدين أنه كتب قصيدته هو الحق يحشد أجناده إثر مشاهدته لتدريبات كتائب الإخوان الكشفية عام ١٩٣٧)

يمكن الإدعاء أيضًا بأن نظام التنشئة الكشفي بتقسيماته وتراتبيته، ونظام العضوية والرحلات والمعسكرات والدورات،  قد ترك بصمة على البنية التنظيمية للجماعة ونشاطها إلى اليوم، وهي أمر تؤكده إحدى النشرات الإدارية للجماعة في عدة نصوص: “إذا كان الإخوان في إدارة الشعب لا يزالون يعتقدون أن الجوالة نظام تكميلي فإن عليهم أن يغيروا هذا الاعتقاد تمامًا، فإن نظام الجوالة نظام أساسي رئيسي في فكرة الإخوان يراد به تدريب الأعضاء وتحقيق نية الجهاد.” نفس المصدر

علاقة النشيد الجهادي الأول بالنظام الكشفي الذي أسسه اللورد والضابط البريطاني بادن باول (والذي كان يقود بنفسه كورال من أبناء المستعمرات)، ليست مجرد صدفة. فالحركة الكشفية، في ارتباطها بلحظة الولوج إلى القرن العشرين، وطموحها لتعميم العسكرة على جميع مناحي الحياة المدنية، بما فيها الطفولة ووقت اللهو، مستَلهمة من حروب الإمبراطورية الاستعمارية وفي خدمتها. هذه الحركة التي أسسها باول متأثرًا بتجربته في فك حصار مدينة ماكينغ في حرب البوير الثانية في جنوب أفريقيا بين عامي ١٨٩٩ و١٩٠٠ يربطها خيط رفيع بكشافة الإخوان. فكما عملت الحركة الكشفية على الانضباط وإعلاء حس الولاء والأخوية الرومانسيين وفرض صورة معينة من الذكورة، وتخفيف التوتر الاجتماعي بين الطبقات في الميتربول وخارجه ، فهي في نفس الوقد قد لعبت دورًا معاكسًا بحسب المؤرخ تيموثي بيرسون، إذ استخدمت نفسها من قبل حركات التحرر الوطني في الهند وأفريقيا لمقاومة الإمبراطورية.

لا يعني هذا بالضرورة تضمين الجهاد وأناشيده في خضم الحراك التحرري، لكنه يعني أن نشيد الجهاد الأول كان أحد منتجات حداثة مطلع القرن العشرين بمشروعاتها وطموحاتها القياسية والرومانسية المعسكرة، والذي تنتمي لحرب البوير. هكذا، لا عجب إذًا في أن يرى جوناثان بايسلاك علاقة قوية بين أناشيد القاعدة وموسيقى المارينز الأمريكي. فهي قوالب تستخدم في طرفين متقابلين متعاكسين، كانعكاس صورة مقاتل يتأمل نفسه في المرآة.