fbpx .
بحث | نقد | رأي

في انتظار ندى الشاذلي

معن أبو طالب ۲۰۱۷/۰۹/۱۹

أول مرة انتظرت فيها ندى الشاذلي كانت في نوربرج، صيف العام الماضي. كنت قد وصلت مبكراً إلى المهرجان الذي ستعرض فيه، واتضح لي سريعاً أن انتظاري سيطول. مهرجان تخييم وأنا لست من هواة التخييم، قائمة الطعام نباتية وأنا لست نباتياً، الموسيقى آمبينت وآسيد، والبلدة المحيطة قاحلة، لا شيء فيها سوى سوبرماركت خصومات. ندى ستصل بعد يومين.

لم يكن بوسعي أن أغادر عائداً إلى ستوكهولم، ولم أكن أرغب بذلك. وصلت أخيراً بعد طيران وركوب وسياقة، لأحضر عرض ندى التي حيرني أمرها وأصر الكثيرون علي أن أسمعها. تكلم عنها أصدقاء بحماسٍ مضطهَد ينتظر نبياً لاحت علامات ظهوره. خفت أن ينطوي الأمر تحت فئة النايس: “بتعرف س، كثير شاب نايس. لازم تكتبوا عنه في معازفاقتراح يحدث فيَّ امتعاضاً عميقاً، كأن مكارم الأخلاق هي ما نبحث عنه في معازف. كنت قد تعرفت عليها منذ عامين أو ثلاث، قبل أن أسمع أنها موهوبة أو أعرف أنها موسيقية أصلاً. بدت لي جادة ذكية، فضولية، واثقة بهدوء، كمن يخبئ كنزاً ولا يحتاج أن يطلعك عليه، لأن معرفتك به أو عدمها لا تزيدان أو تنقصان من قيمته.

كما أنني أملت أيضاً أن يتحسن الوضع في المهرجان وأن أجد طريقة ما لقضاء وقت ممتع. فهو مهرجان موسيقى قبل كل شيء ولا بد من بعض عروض ممتازة، ولو بالغلط. كانت المسارح ما زالت مقفلة، فذهبت إلى خيمة الديجيز. الساعة الثالثة عصراً والحضور يتراوح ما بين الثلاثة والخمسة أشخاص، يرقصون بحماس مفرط بينما الدي جي يبدو عليها الملل والإحراج. من الممكن أن أكون أنا قد أسقطت عليها مللي وإحراجي. المهم أن الأمر لم يكن مريحاً. تأملتهم بعض الشي محاولاً معرفة إن كانوا قد تناولوا مخدرات. لخيبتي وجدتهم صحاة.

جلست مرة أخرى في سهل أخضر مليء بالخضريين vegans وشعرت ببأس عميق، الوقت لا يمر والبيرة الدافئة في يدي لا تساعد. حللت بعض المواضيع مع نفسي حتى رفعت رأسي باتجاه المسرح الرئيسي وإذ بالباب مفتوح والناس تدخل. رميت بيرتي واتجهت صوبه. هذا هو المايمر الذي سمعت عنه كثيراً. في الطريق إلى نوربرج رأيته يظهر شيئاً فشيئاً من على سفح تلة تسلقتها السيارة، محاطاً بالأشجار كمنارة ضخمة في منتصف بحر هائج. هكذا ظهر ملحمياً، مليئاً بحزم وعنف الصناعة. علوه يقارب السبعين متراً، يخرج من جانبه حزام استخدم سابقاً لنقل المعدن ولفظه حيث كانت محطة المعالجة، وحيث تنتشر الآن خيام الزوار. كان منظراً مهيباً، فيه جمال ونقمة. ها هو قلب بلدة لم يعد ينبض، وتذكار ضخم لأيام سبقت البطالة التي نخرتها.

فور دخوله فرض المبنى علي خشوعاً. سمعت صوت خطواتي وهمس غيري كأنني في كاتدرائية. سرت خطوات قليلة حتى انفتح المبنى أمامي بسقفه العالي البعيد، معتماً بلا نوافذ، تتعلق فيه السلاسل الضخمة والمعدات التي تذكّر بالنار والحديد، كأننا في درك من النار علّق الله استخدامه للموسم. في الطوابق الثلاث التي امتدت من الحائط البعيد رأيت الحاضرين جالسين على الحواف، سيقان بعضهم تتدلى وغيرهم واقف من ورائهم. بدا كل منهم شرساً متعطشاً، كأن هؤلاء الوديعين الذين يشربون البيرة العضوية خارجاً شربوا هنا قسوة التصنيع والتعدين وأخذوها على عاتقهم. شعرت أنني في مشهد من ماد ماكس، وحليقي الرؤوس المعربدين في كل مكان ينتظرون بفارغ الصبر بداية أحد طقوس العنف الفاحش.

من خلفي كان المسرح يقابل هذه الطوابق الثلاث. منصة علوّها ما بين الطابقين الثاني والثالث. بدلاً من قائد عصابة رأيت شاباً منكباً على سنثات، يصنع أصواتاً لا تقل ملحمية عن أجواء المسرح. أصوات ضخمة ثابتة، تتغير نغمتها بين الصوت والصوت ولكن لا تتغير نغمة الصوت الواحد. تشعر بها كأسطوانات عمودية جبارة تخرق الأرض بقطر عشرين متراً.

لم تكن هذه الأصوات ميكانيكية كما المصنع الذي كنا فيه، بل رقمية، خالية من الميكانيكا والسلاسل، وبدا هذا تطوراً طبيعياً للمكان. نوربرج مهرجان مجرد من العواطف والذروات، البحث فيه ليس عن الجمال ولا المتعة، بل هو مهرجان أفكار وتضاريس. تتبع عقلاني وبارد للصناعية. هم ليسوا هنا ليسمعوا موسيقى بقدر ما هم يؤدون مناسك حج حول كعبة كوابل ودورات كهربية.

بعد فترة استوعبت أن هذا الشاب المخبوء وراء سحابة دخان أبيض، صاحب الأصوات العمودية المدمرة هو أحد معارفي من لندن. هو أيضاً نباتي. لم أتوقع منه شيئاً كهذا أبداً، ولم أعرف أصلاً أنه موسيقي. انتهى عرضه وصفّق البعض بأدب. استحق أكثر من ذلك. عرضه كان هائلاً، كأنه أُلّف خصيصاً لمايمر. اغتنمت الفرصة لأصعد إلى الطابق الثالث على درجات زاويتها لا تميل عن التسعين كثيراً. كل خطوة لها صدى حديدي يأخذ ثوان عدة حتى يموت. الناس تفترش الأرض أو تجلس مدندلة سيقانها من على الحافة أو تستند إلى الحائط البعيد. الكثير منهم مدسوسون في حقائب نوم، مستلقين على بطونهم، في سبات يدخلهم حالة الأصوات التي يسمعونها. هذا ليس مهرجاناً سيصب فيه أحدهم عليك قدحاً من البيرة، أو يترنح فيه الشباب والبنات في الطين وهم يصيحون ضاحكين. هو مهرجان فيه اتفاق على الهدوء، من يحتك بك يعتذر بأدب، هامساً، وهذا يناسبني جداً. الجميع هنا يتصرف كأننا في مكتبة.

العروض التالية كانت مملة. مقطوعات متشابهة إلى حد كبير رغم ادعاء التجريبية. بنية متوقعة واضحة، كبنية رواية جيب بوليسية أو رواية بيروتية. أصوات تتنامى وتكبر ببطء، تصل ذروة من الضجيج المتجانس ثم تتبعثر حتى تعود لأول صوت بدأت به. في هذه العروض يتصرف الموسيقيون بنفس الطريقة تماماً، وهو أمر لاحظته في كافيه أوتو  أحد أهم فضاءات عرض الموسيقى التجريبية في العالم والعديد من عروض الآمبينت والآسيد. المؤدي يتصرف كأنه يعرض وحده في غرفة نوم في بيت أهله، لا علم له بوجود جمهور. لا يرفع عينيه عن لوحته وسنثه ولا يتواصل مع الجمهور لا بكلمة أو نظرة. بدأ عرض آخر من نفس النمط، عرض لا بد أنني سمعت مثله ثلاثين مرة بين لندن وستوكهولم وبيروت والآن نوربرج. لم أكن في المزاج لعرض آخر.

ندى الشاذلي

لكن المكان بهرني. هذا المصنع الضخم الذي هجّر منه العمال وسكنه الخضريون. لا بد أن اقتصاد البلدة كاملاً كان قائماً على منجم الحديد هذا قبل أن تُقفَل أبوابه في الثمانينات، عقد انحدار الطبقة العاملة في عدة مدن غربية. كان هناك مخطط بهدم المصنع، لكن في ١٩٩٩ أقنع بعض الفنانين السلطات بأن يسمحوا لهم باستخدامه. بدأ بعدها المهرجان الذي أشك أن أحداً من أهل البلدة يحضره. لا عيب في هذا. للوسطى متعها والعاملة متعها والأرستقراطية والبرجوازية. نحن لسنا بصدد تحرير العالم، وإن كان يبدو لي أن الكثيرين هنا يرغبون بإنقاذ بعض أشكال الحياة من سلسلة الغذاء الأزلية.

تجولت بين المسارح الثلاث عدة مرات وحضرت عروضاً عدة كان أحدها ممتازاً، عنف صوتي مرئي راقص وظف الطاقات الإلكترونية بشكل لم أره من قبل. كانت الصالة كلها تهتز مع البايس وبوتيرة غير متوقعة، وخدع بصرية تسبب الصرع لأبعدنا عن النبوة. بعد ذلك بَهَت كل شيء مرة أخرى فعدت إلى الفندق باكراً، قلقاً من يوم آخر لا عمل لي فيه سوى انتظار ندى الشاذلي. أخذ طريقي إلى الفندق ساعة، قضيتها في شوارع متطابقة تحف عمارات سكنية لا تنبئ عن سعادة. نوربرج بلدة فقيرة في بلد غني، لا سحر لها كسحر الأحياء الفقيرة في البلاد الفقيرة.

المرة الثانية التي انتظرت فيها ندى كانت في استوديو إي إم إس في ستوكهولم. قيل لي إن ندى تعمل هناك يومياً من الظهر حتى الرابعة مساء، وبما أنه لم يكن معي هاتف، فالطريقة الوحيدة للالتقاء بها كانت أن أجدها هناك.

وصلت إلى الاستوديو متأخراً، وقرعت الجرس متأملاً أن تظهر هي. أدخلني شخص ما قلت له أنني أعرف المكان. دققت على الاستوديو حيث وجدت ندى آخر مرة ولكني وجدت فتاة أخرى. اعتذرتُ وأغلقتُ الباب. الهدوء تام.، كل شيء مضبوط ومرتب وفي مكانه إلا ندى. عُدت إلى الطابق الأرضي ولم أجدها. جلست في الكافيتيريا أتصفح صحفاً سويدية واكتشفت أن الصحف وسيلة ممتازة لتعلم اللغة. تعلمت كلمة لاجئ وغرق وانتخابات وقصف ومذابح وتحرش وشمولية وتنزيلات في دقائق. شددت كتاباً من حقيبتي وجلست هناك حوالي ساعة. اخترعت موضوعات أفكر بها. مللت فعدت أبحث في الطابق. كنت أكثر جرأة هذه المرة فأخذت أفتح الأبواب المغلقة. الثالث منها أدخلني غرفة وجدت فيها مِكسرات وميكروفونات وكيبوردات مفككة، بعضها يتم تصليحه وبعدها يعاد بناؤه كشيء آخر. إلى اليسار كان هناك لوح زجاجي ضخم يطل على استوديو جلس فيه ندى وموريس لوقا، منغمسين أمام مكسر ضخم.

دققت على الزجاج وطبّلت ولوحت بيداي وناديت ولم ينفع شيء. كانا كأنهما في عالم آخر، أو كأنني شبح عاد إلى العالم البشري ولم يستوعب بعد أن لا أحد يراه. اتجهت إلى الباب ودققت عليه بهدوء ثم بحزم ثم بغضب. عدت إلى الغرفة حيث ظهريهما لي ووجدتهما جالسين كما هما. لا خاطر لهما في العالم سوى ما يسمعانه وأنا أصم عنه. أتقافز كالمهرج وهم لا يرونني. بعد أن استسلمت بدأت أستوعب ميزة موقعي، أنظر إليهم دون علمهم كأنني الأخ الأكبر. جلست أراقبهم يعملون.

كان الشهر الذي قضته ندى في الاستوديو قد شارف على الانتهاء، وحان وقت سماع ما نتج عن استضافتها في الاستوديو العريق الذي اختارها من ضمن مئات الطلبات لتكمل العمل على ألبومها الأول. قضت شهراً كاملاً في ستوكهولم تداوم يومياً في الاستوديو، تمكسج وتعيد تسجيل مقاطع غنائية وتتقن ما سجلته في كندا مع موريس وسام شلبي. كنت قد سمعت أجزاءً من الألبوم قبل بداية إقامة ندى في إي إم إس، وتحرقت لمعرفة الاتجاه الذي أخذته إليه. فضولي كان أنانياً. هل تخلصت من ذاك المقطع الذي أزعجني، هل عززت من وجود لحن البايس الهائل في الأغنية الأولى؟ هل بسّطت الألبوم أم زادت من تعقيده؟ هل أثَّرت كل هذه الإمكانيات التي أتيحت لها على خياراتها الفنية؟ هل أخذها من تعاونت معهم إلى مواطن راحتهم حتى لو لم تناسبها؟

لاحقاً، ونحن نتجول في شوارع المدينة، حدثتني عن شغفها بمنيرة المهدية وعبد اللطيف البنا. كان حماسها مُعدياً، وتأثرها بهم عميقاً. حدثتني عن سنين قضتها تجمع موسيقاهم وتدرسها، تتعلم تفاصيل غنائها، تدرس المقامات وتقرأ عن حياة هذا الجيل الجبار. هذا الهوس بموسيقى النهضة جاء بعد غنائها في جوقة المدرسة الألمانية التي تخرجت منها، وبعد أن فرطت فرقة پانك روك غنت وعزفت الجيتار فيها أثناء مراهقتها. اتجهت بعد ذلك إلى موسيقى النهضة، وعملت على اقتحام عالم الغناء الشرقي بجدية بمساعدة وتوجيه مستمرين من كميليا جبران. هن على اتصال دائم، سؤال ونقاش وتبرير ومساءلة. ندى تلميذة نجيبة، شهيتها مفتوحة لمن يستحق. عندما تسمع ندى تغني، يمكنك أن ترى أين انصب كل هذا. تستوعب أن الأمر ليس اهتماماً عابراً، وأنك في ومضات في حضرة موهبة فريدة. صوتها يدوّي، يتمايل، يتزخرف، تخرج عنه مخارج الحروف أنيقة واضحة، فوق أصوات من عصرنا. مشروع ندى ليس فلكلورياً أو أصولياً أو إحيائياً، هو مشروع موسيقي بحت. هي شغوفة بهذه الموسيقى وتلك، وتريد تقديمها، بطريقتها هي، كما العالم اليوم، كما تخرج بصورة طبيعية من موسيقية موهوبة من جيل التسعينات، تربت على الإلكترونيات والانترنت وسمعت موسيقى من كل مكان.

norberg5

في المرة الثالثة لم أنتظرها وحدي

بعد أن وصلت ندى وسارة المنياوي أخيراً، وبعد أن كنت أنا قد قضيت يومين من المعاناة والملل الذي أفضل أن لا أذكره – لم يساعد أنني في لحظة قلة عقل قررت أن لا آخذ كتباً ولا اللابتوب لأريح عيناي مر الوقت سريعاً مسلياً، هاتان الفتاتان أصبحتا سريعاً من أشخاصي المفضلين. حس فكاهة جيد، لا قلق أو ادعاء. حتى وقت العرض جاء أسرع مما رغبت. تأملت قبل وصولهم أن يكون العرض في المايمر، لكن عندما تأكد الأمر وجدت الأمر يقلقني. كنت أريد لها أن تؤدي عرضاً ناجحاً، لكني عرفت أن جمهور المايمر لم يكونوا هناك لسماع إيقاعات أو ألحان. كل ما حضرته هناك كان لالحنياً، يركز على ملمس الصوت والأدوات التي استخدمت في خلقه، وليس الموسيقى بحد ذاتها. كانت عروضاً أحادية اللون، باردة، تجارب صوتية في مختبرات مفتوحة للعيان. من معرفتي بهؤلاء من مهرجانات وعروض أخرى، فإنهم عادة ما يتأففون فور أن يميزوا إيقاعاً منتظماً أو جملة لحنية.

لكن ندى لم تكترث، كل ما كان على بالها هو نقل أورجها الياماها الشرقي المعدل لربع نوتة إلى المسرح. غطست في آلاتها ومعداتها مع مهندس الصوت. أخذت مكاني أنا وسارة بين الجمهور استعداداً للعرض أن يبدأ، ولكنه لم يبدأ. يبدو أن هناك خلل ما. راقبنا الحضور يغادر. من الواضح أن هناك سوء تفاهم بين ندى والمهندس. لا يبدوان على اتفاق. وقت عرضها حان وما زالت غير جاهزة. هناك مشكلة في التواصل. الموضوع لا علاقة له باللغة. سمعتهما يتحدثان معاً عندما وضعت الياماها على المسرح. صعدنا أنا وسارة إلى للطابق الثاني لنقتل بعضاً من توترنا.

من هناك لم نجد ندى على المسرح، وكان المهندس يتحدث على هاتفه بغضب. قررنا أن نتحرى الأمر ونزلنا ببطء درجاً حاداً يحتاج تركيزاً في الظلام الحالك. الوقعة العميقة صوب أعيننا. لكن وقفنا عندما سمعنا صوت ندى يملأ المكان. بدايتها جاءت متنافرة مع المزاج الذي ثبّتته عروض متتابعة من الأداءات غير اللحنية. خيل لي أن الحجاج يتبادلون نظرات إحجام. جاء بعد ذلك عزف ندى على الأورج ليأخذ هذا التنافر إلى أقصاه. ربما شَعَر مخرج المسرح بذلك لأنه استخدم ألواناً في الإضاءة. لم أر ألواناً في أي من العروض السابقة.

انتشر ذلك الصوت الرخيم المتمرس الذي يسبق عمر صاحبته بتقاسيمه وعربه وألوانه. وأصبحت أنا مؤمناً، وتيقنت أن ما قاله لي الأصدقاء ليس هذربة. استمر العرض، المقطوعات لكل منها شخصية وطابع مختلف، لكن فن ندى واضح المعالم دون أن يكون متوقعاً. فيه شوائب، وفيه عناصر قد تكون مُقحمة، ولكن العرض فيه لحظات بديعة تجيش صنماً.

بانتصاف العرض كانت ندى الشاذلي قد حولت مكة الصناعة هذه إلى حديقة تعج بالحياة. خيل لي أن الجمهور جاء وجهاً لوجه مع ما يتجنبه قصداً، ولم يستطع أن يقاوم. وراء كمبيوترها والسنث والكيبورد الياماها، غنت ندى دون أن تتصرف كما هو متفق عليه في هذه الأوساط. انغمست في موسيقاها وانطلق صوتها ورقصت بين المقاطع الغنائية، حتى أنها تحدثت مع الجمهور. كفرت ندى، بمعنى آخر. احتلت المسرح والمايمر، وأخذت، أغنية بعد أغنية، تغير عقيدة الحاضرين.

آتية، قالت ندى في أغنيتها الأولى، وأنا وسارة نتبادل النظرات والابتسامة تكاد تمزق وجهينا. آتية، تطمئننا بهدوء، لتبث الحياة في هذا المصنع المهجور، والأمل في ساحة فنية فقيرة. آتية من عهد النهضة مسلحةَ بسنثسايزر، بألبوم قد يقول البعض أنه تأخر، وتقول هي أنه أخذ وقته. آتية، وإن كان بجعبتها شوائب وتشتت. المهم أنها آتية، وهي تستحق الانتظار.


صورة الغلاف للمصور سيدي بن عمر

المزيـــد علــى معـــازف