أجنبي جديد

بلاكستار | ديفيد بووي

عمار منلا حسن ۰۹/۰۱/۲۰۱۷

 

رغم كونه أحد رواد عدة من الحركات والتوجهات في الموسيقى المعاصرة كالروك الاستعراضي والألبومات السياقية الشخصية[Mtooltip description=”كان بووي أول من كتب ألبومات سياقية تقمص فيها شخصية خيالية وكتب أغانٍ عنها أو على لسانها، وجعلها محور العروض الحية للعمل.” /] والبعد الجنساني في الأداء، إلا أن العديد من التوجهات التي نشرها ديفيد بووي بلغت ذروتها عند سواه. مادونا مثلاً، التي قالت إن بووي غير حياتها وكان أول فنان تشاهده في حفل حي، أخذت المذهب الصدامي وضد-التقليدي [Mtooltip description=” Anti-Conformity” /] ومزجته مع الجانب الاستعراضي لتخلق البوب المعاصر وتعود بالبوب إلى الصدارة بعد احتضار الجيل القديم [Mtooltip description=” جيل سيناترا وكروسبي ومارتن” /]. استمر هذا المذهب بالصعود والتطرف مع بريتني سبيرز وليدي غاغا ومايلي سايرس، وتطور بالتوازي عند بعض نجوم الروك كـ مارلين مانسون، الذي قال هو أيضاً إن إن بووي غير حياته للأبد. خلق مانسون وأمثاله موسيقى تقلق المجتمع، تحظر من البث الإذاعي، وتحقق مبيعات مذهلة.

في بلاكستارلا يبدو بووي متحمسًا لاستخدام الصدامية، مفضلاً خلق انطباع فني أعمق، سواءً كان هذا فكرياً أو عاطفياً أو جمالياً بحتاً. في ذات الوقت يرد بووي على الانتقادات الموجهة إليه، لا عبر نقضها بل تأكيدها. فقد قال كيث ريتشاردز [Mtooltip description=” من Rolling Stones” /] يوماً عن بووي بلهجةٍ من الازدراء: “استعراض! كل الأمر عنده يدور حول الاستعراض!”، يؤكد بووي هنا هذه الإفادة بعد نزع صيغة الاتهام منها؛ نعم كل شيء يدور حول الاستعراض، لكن هناك اختلافان يجعلان من بلاكستار العمل الاستعراضي المطلق.

كانت أعمال بووي السابقة سياقية، تدور حول شخصية افتراضية، وتفتقر لعنصر جوهري في الروك: التعبيرية الفظة؛ نعم كانت هناك أغانٍ أكثر انفعالاً وصدقاً من غيرها كـ هيروز، لكن في بلاكستار ينتقل بووي من “سأكون ملكاً / وستكوني ملكتي” إلى “يا للحسرة لقد طلعت عاهرة!”. كما أن الشخصية السياقية التي يتقمصها بووي هنا هي ذاته المحتضرة، التي يعتمل فيها مزيج معقد وغني من المشاعر: الكثير الكثير من الخوف والرفض والتردد، مقدار لا بأس به من النقمة والسخرية السوداء، محاولات باهتة لإقناع الذات بالقبول والتسليم والتسامي على فكرة الموت. في بلاكستار إذاً بووي يموت، ليس كبطل فيلم هوليوودي يتلقى رصاصات على ظهر دبابة ثم يودع المجند الأخير بعبارة “سامحني بُنَي”، بل كما يحل الموت الحقيقي بالإنسان الحقيقي، حلولاً بشعاً مرعباً؛ وهنا يكمن الاختلاف الأول: تمكن بووي في بلاكستار من الجمع بين الاستعراضية والتعبيرية.

الاختلاف الثاني هو أن الجانب الاستعراضي بكل ما يتضمنه من حركات مسرحية وديكورات وأزياء ومؤثرات خاصة تمت ترجمته موسيقيًا، من التوزيع الذي يخلق موسيقى مشهدية شبيهة بالموسيقى التصويرية المرتبطة بمناظر ومشاهد معينة، إلى الغناء المسرحي المفعم بالديناميكية بشكلٍ ينقل الإحساس بالحركة والاستعراض، إلى بنى الأغاني التي لا تفرض قيوداً على التدفق والبناء الدرامي، إلى كلمات الأغاني التي تجمع واقعية لغة الحياة اليومية بمجازات وبلاغة لغة الاستعراض.

التوزيع وخلق موسيقى مشهدية

أراد بووي في بلاكستار خلق موسيقى مشهدية فيها بعد استعراضي يغني عن العنصر البصري، فخرج عن قوالب التوزيع الدارجة، جامعاً إلهامات من الجاز التي استمع إليها منذ صغره[Mtooltip description=” كان الساكسوفون أول آلة موسيقية تعلم عزفها” /]، كما استلهم من آلبوم كندريك لامار الأخير [Mtooltip description=” أن تكون قواداً لفراشة” /] التوزيع والانتاج الذي يتجاوز أعراف الصنف الواحد. استمع بووي أيضاً للكثير من الموسيقى الإلكترونية لأمثال Boards of Canada وموسيقى إلكترونية إيقاعية قريبة من الهيب هوب كما عند دث قربس. علاوةً على ما سبق لا ننسى خلفية بووي المتأصلة في الروك، التي مضت به بجولة استيحاء إلهامات أخرى، من ضمنها وصلات عزف الجيتار المنفرد بأسلوب البلوز روك، واقتباس الجيتار الافتتاحي من Disorder لجوي ديفيجن. بهذا نسج بووي توزيع الألبوم من الجاز والروك والموسيقى الإلكترونية الإيقاعية القريبة من الهيب هوب.

قد لا تضم كل أغنية من الألبوم بمفردها هذه العناصر الثلاثة معاً، إلا أن هذه التوليفة تتوضح على مستوى الألبوم ككل، وهي توليفة لم تستخدم كثيراً، لكنها بالرغم من ذلك تجيء طبيعيةً ومنسجمة، والأهم من ذلك أنها تنجح في أكثر من أغنية بخلق موسيقى مشهدية تحمل إلى حدٍ ما أثراً بصرياً. فلو استمعنا للساكسوفون الذي يعزف فوق إيقاعات تتبدل بسرعة، وزدنا على ذلك الأصوات الإلكترونية المستخدمة بقلة لكن بنجاعة، نفخات الساكسوفون المتقطعة التي تبدو كصعوبة بالتنفس، كل هذه الأصوات تنسج مشهداً دستوبياً مرعباً بشكل فائق الدقة. في أغنية “سُو (أو في موسم الجريمة)” نلاحظ أمراً مماثلاً، أسطر الجيتار الإيقاعي المقلقة، والتي غالباً ما تصاحب أصواتاً إلكترونية موتِّرة، جنباً إلى جنب مع كلمات من قبيل “سو! / لقد عثرت على ملاحظتك التي تركتها بالأمس / لا يمكن لهذا أن يكون صحيحاً / لقد هجرتِني معه!”، كل هذا يخلق المشهد المضطرب الذي تقف شخصية بووي الرئيسية وسطه، تمكن فيه التوليفة الموسيقى من التحول لموسيقى تصويرية تستمد مادتها البصرية من ذاكرة المستمع ومخيلته.

بووي يوثّق موته

كتب بووي الألبوم في وقتٍ تيقن فيه من اقتراب موته اقتراباً خانقاً، فجعل من نفسه المحتضرة الشخصية السياقية للعمل. يتضح هذا من اسم الألبوم الذي يعني ندباً يخلفه السرطان، وبووي قد توفي بسبب السرطان. حرم هذا الظرف بووي من الحديث عن الموت عن بعد، كان عليه أن يكتب عن الموت بحميمية. في الوقت الذي يرتدي فيه الفنانون الصداميون كافة أشكال الأقنعة، المجازية والحقيقية، لإثارة الذعر والاضطراب وعدم الارتياح لدى المجتمع والمستمع، يثبت بووي أن الوجه الأكثر رعباً قد يكون ذلك الذي يظهر بعد إزالة كافة الأقنعة.

قدم الألبوم خلال أغانيه الست الأولى مزيجاً متناقضاً من المشاعر والمواقف إزاء الموت، أتت مصحوبةً بقدرة بووي على استخدام مراجع دينية وميثيولوجية بشكل غامض، ففي بلاكستار يصف بووي موته المرتقب بيوم الإعدام[Mtooltip description=” On the day of execution, on the day of execution” /]، ثم يشرع بتأبين نفسه بخشوع ووقار: “شيءٌ ما حدث في يوم رحيله / ارتقت روحٌ للأعلى وتنحت عن طريقه / حلَّ شخصٌ آخر مكانه، وبشجاعةٍ أعلن باكياً: أنا النجم الأسود! أنا النجم الأسود!”. يستمر التأبين في لازارس التي تجمع بين الخوف والكبرياء بواقعية: “انظروا للأعلى، ها أنا بالجنة / متخمٌ بندوبٍ لا تراها العين / لا أحد يماثلني حضوراً / لا أحد يجهلني الآن”، قبل أن تصاب لهجته وكلماته بالذعر في المقطع التالي: “انظروا للأعلى، حيث يحدق بي الخطر! / لم يتبق لدي ما أخسره!”

في يا للحسرة طلعت عاهرة! يمنح بووي نفسه إجازةً من التفكير بالموت، ويتحول لشخصية غاتسبية [Mtooltip description=” نسبةً لرواية غاتسبي العظيم لإف سكوت فيتجيرالد” /]، حيث تتصادم أسطر الجاز القصيرة الاحتفالية ببعضها كضيوف حفلة مزدحمة في عصر الجاز، بينما يظهر بووي كالمضيف المغترب عن حفله، مغنيًا بارتياع وحنين عن مواضيع لا يفهمها سواه. أما في فتاةٌ تحبني، يتجه بووي لسخرية سوداء عدائية، ويصيح بصوتٍ عصابي: “كيف أفلت مني يوم الاثنين بحق اللعنة؟ (…) من بحق اللعنة سيجرؤ على العبث معي؟”.  تحتفل أغنية Dollars Days بإشارات نوستاليجية يحن فيها بووي لحياته التي أطل منها على العالم: “أموت لكي / أرغمهم على القيام بما لا عادة لهم به / أخدعهم مرةً أخرى ومرةً ثانية بعد”، ثم يختتم الأغنية بصوتٍ شاحب يردد عبارتَي: “أنا أحاول أيضاً / وأحتضر بالمثل”.

تفتتح الأغنية السابعة والأخيرة تفتتح بعبارة “أعلم أن هناك خطبٌ لا سبيل لإنكاره” وتتخذ من “لست مستعداً (بعد) للتخلي عن كل شيء” لازمةً لها وعنواناً، بينما يشدد بووي على لفظ كلمة التخلي [Mtooltip description=” Away” /]، ويضيف في الفقرة الثانية: “أرى المزيد وأشعر بالأقل / أعلن الرفض وأعني القبول / هذا كل ما أردت التعبير عنه / هذه الرسالة التي بعثتها”. بوضعه الأغنية في آخر الألبوم، يقول بووس إنه في نهاية سلسلة تناقضات المشاعر سيستقر على موقفٍ يقع في المنتصف تماماً بين الرفض العاطفي والقبول والواقعي، لا لفكرة الموت، بل لحقيقته الحتمية.

تقمص الذات

أسلوب بووي المسرحي يضيف بعداً جديداً لكلمات الأغاني، يتلاعب بمعانيها ويعيد تفسيرها من خلال التنقل من نبرة صوت لأخرى. في بلاكستار، أدى بووي هذه الفقرة مرتين على تباعد: “شيءٌ ما حدث في يوم رحيله / ارتقت روحٌ للأعلى وتنحّت عن طريقه / حلَّ شخصٌ آخر مكانه، وبشجاعةٍ أعلن باكياً: أنا النجم الأسود! أنا النجم الأسود!”، في المرة الأولى غنَّاها بوقار ونطق الكلمات بحذر كأنه يخشى أن تفلت أو تقع منه، كما يتعامل شخصٌ جاوره الموت مع وقته وأيامه، أما في التكرار الثاني للفقرة بعد عدة دقائق نسمع صوت بووي وقد تحول للأريحية وكأنه يتحدث عن وفاة شخص آخر، مدعياً التعود والتقبل والتصالح الذي نتخيل أننا سنبلغه بعد الصراع مع اقتراب الموت لفترة.

في فتاةٌ تحبني [Mtooltip description=” Girl Loves Me” /] ينهي بووي عباراته برفعة صوت حادة الطبقة، صوته بالمجمل عصابي متوتر وغير سوي نفسياً، يشتم ويتحذلق بالكلام، عدا عن اللازمة التي يردد فيها بصوت مشتت مُبعد: “فتاةٌ تحبني / يا شينا”. بينما يطابق صوته السمة النوستاليجية في Dollar Days، نبرة التوسل والتحسر واضحة، تبلغ قمة الوضوح في الخاتمة التي تردد فيها عبارة: “أنا أحاول أيضاً / وأحتضر بالمثل”.

بنية الأغاني | الموت مجدداً

يتكرر تلازم التعبيرية والاستعراضية في بنى الأغاني التي جاءت متباينة من أغنية لأخرى بشكل شبه تام. في لازارس نجد تتابع مقاطع بدون لوازم، المقاطع شبه متماثلة بالبنية والطول بشكل يتيح ملاحظة التطور الدرامي المتخبط والآخذ شكل تقلبات مزاجية حادة، بين التبجح والذعر والنوستاليجيا للانعتاق. لكن الأغنية الأكثر إثارةًَ للاهتمام على مستوى البنية هي فتاةً تحبني. تستخدم الأغنية لازمتان تظهران في كل مرة بالتوالي، الواحدة منهما نقيضة الأخرى. تغنى الأولى بصوت حاد عصابي يردد شتائم وحذلقات، بينما تغنى الثانية بصوت مشتت مُبعد، مهزوم بعض الشيء، وكلمات شاعرية مقتضبة.

دايفد بووي | البقية بحياتكم

في مطلع الأغنية التي تحمل اسم الألبوم يقول بووي: “تقف شمعةٌ وحيدة، في منتصف كل شيء”، ثم يردد في مقاطع متفرقة من الأغنية سلسلة إفادات: أنا النجم الأسود، لست بمجرمٍ، بل نجمٌ أسود، لست صانع أفلامٍ، بل نجمٌ أسود، لست نجم بوب، بل نجمٌ أسود، ولا نجم في أفلام مارفل، بل نجمٌ أسود، لست نجماً بالمعنى التقليدي، بل نجمٌ أسود، أنا لست نجماً أبيضاً، بل نجمٌ أسود، ولا حتى نجم زائف، بل نجم أسود، لست بنجم أفلامٍ إباحية ولا نجم تائه في السماء، أنا نجم أسود. هكذا كتب بووي قداسه الخاص ونعى نفسه بنفسه، كما وضع النقاط التي تعطي الجمل معناها على صنف موسيقي بات يصح أنه نصفه بصنفه الخاص، الروك المسرحي.

أغانٍ تقدم للألبوم: Blackstar, Lazarus, ‘Tis a Pity She Was a Whore

المزيـــد علــى معـــازف