.
منذ زمن طويل أقلعت عن ملاحقة هذا الوهم. الكتابة قد تنجح في مرات قليلة بتعريفي بما يشكل علي في الموسيقى. لكنها أبدا لم تكن تشبهها. أو تستطيع أن تترك الأثر نفسه. روايات سلمان رشدي وأمبرتو إيكو بصورة أقل كانت تمنحني الشعور نفسه الذي تستطيع الموسيقى منحه لي. عدا هذين الكاتبين، لا أذكر أنني تأثرت بكتابة عن الموسيقى أو كتابة في الموسيقى. لطالما بقيت الكتابة عن الموسيقى أو فيها شأنا تعليميا على وجه الحصر بالنسبة لي. كنت دائما أطمح أن أجد نصوصا أو أدفع آخرين لكتابة نصوص في الموسيقى وعن الموسيقى في وسعها أن تزيح عن كاهلي ثقل الموسيقى التي أدمنها لأسباب لا تتعلق بجودتها أو عبقرية كاتبيها. العبقرية والجودة أيضا، كانا وما زالا، بالنسبة لي أمران يتعلقان بترتيب قواعد علمية لمشاعر وانفعالات ما زلت أفضل أن تبقى في أطوارها الغامضة، ولا أريد تفسيرها في غالب الأحيان.
قراءة نيتشه بدت لي أشبه بالاستماع لأم كلثوم، لم يعطني معلومات شأنه شأن الكثيرين الذين قرأت لهم، لكنه أطربني وأشجاني. بمعنى آخر علمني كيف يجب أن أكتب. أو لنقل إنني اكتشفت أنني طوال تجربتي الكتابية كنت هذا الأعمى الذي كانه. الأعمى الذي حين يجدر به أن يكتب عليه أن يقلع عن النظر إلى من حوله وما حوله.
أقول إنني أقلعت عن ملاحقة وهم جر الموسيقى إلى الخلفية. الموسيقى كانت وما زالت بالنسبة لي هي الأصل، والكتابة هي الخلفية. لذلك لم أستسغ يوما سماع كارمينا بورانا Carmina Burana في مقهى أتجاذب فيه أطراف الحديث مع آخرين. أو سماع مايلز دايفيس في بار حيث الساهرون يكثرون من الضجيج سعيا للتواصل في ما بينهم فيما الموسيقى التي تنبعث من سماعات البار تعبر صافية ومنمقة نحو الفوضى التي تغلبها. لطالما أحببت أن أستمع إلى الموسيقى وحيدا، أو مع سامع أو سامعين على الأكثر. وما زلت حتى اليوم لا أستسيغ مقاطعة استماعي للموسيقي أو المغني بسؤال أو حتى بقولة آه.
يجب أن اعترف أن الموسيقى كانت دائما أوسع من مداركي. على أي حال، لم يكن ممكناً أن تتدخل الموسيقى في كتابتي على نحو مباشر. ذلك أنني لم أكن أكتب كمعلم، كنت دائما أؤجل الشروع في الكتابة، لأن الكتابة بالنسبة لي كانت على الدوام تشبه عبور ممر أشبه ما يكون بالقبر. كنت أعبر في ظلمته غائباً عن كل ما حولي، وفي نفسي هول من الألم والتعب، والرغبة الملحة للخروج بأسرع ما يكون. ونادرا ما خططت المدخل إلى الكتابة ونجحت في اجتياز المخرج منها كما خططت. كنت دوما أغتنم أي فرصة هروب لأخرج من نفق الكتابة إلى الضوء مجددا، ودائما كانت كتابتي تخرج مني ناقصة ومخالفة لما خططت له.
أريد أن أقول إن الكتابة كانت دائما بالنسبة لي موتاً مؤقتاً، فيما الموسيقى كانت وما زالت حياة. الحياة، حين نعرفها بوصفها ميكانيزم غير مفهومة أو معقولة، ولا أسباب منطقية تجعلها محبوبة إلى هذا الحد. هل في وسعي أن أشرح لأي كان أن جمل مقام البيات الموسيقية المتكسرة في أغنية حب إيه التي لحنها بليغ حمدي لأم كلثوم، وهي جمل متكسرة وناقصة وتدور على عقبيها كالسكارى، هي بالنسبة لي تامة وكاملة وأليفة ولا يمكن تفسير كمالها وألفتها بشرح بنيتها على الإطلاق؟
بين النساء اللواتي مررن بحياتي ثمة كثيرات خرجن من جسمي، وتحولن إلى محفوظات في الذاكرة، تماما كما يحفظ المرء جدول الضرب. لكن اللواتي بقين في جسمي هن اللواتي غنيت لهن أو غنين لي. حين أكون مستعدا للحب يغلبني الغناء. قضيت أوقاتا طويلة من حياتي وأنا أتبادل الغناء مع من أحب. هي اللغة الوحيدة التي أجيدها لأعبر عن حبي. حين نتجاذب أطراف الحديث أشعر بأنني معلم أو تلميذ، لا فرق، لكننا حين نتشارك الغناء أشعر أنني في قلبها وهي في قلبي. لطالما أثبت لي الغناء أنني حي. حي لأن صوتي يمكن أن يصل إلى الآخر وفي وسع الآخر أن يرجع صداه، والعكس صحيح تماما.
أذكر في طفولتي، أنني كنت أحب الاستماع إلى ناظم الغزالي. كان صوته يشجيني كثيرا، المقامات العراقية ما زالت تترك في نفسي الأثر نفسه حتى اليوم. لم أعد استمع له كثيرا هذه الأيام، لكن شجن ياس خضر لا يغادر رأسي ثانية واحدة. علاقتي مع ناظم الغزالي تضررت كثيرا كما تضررت علاقتي مع فيروز. في صغري أحببت فيروز وناظم الغزالي على حد سواء. لكنني في ما بعد اكتشفت أنني كنت أحب الكلمات التي يغنيانها أكثر من الصوت الذي يشجيني. لا أنكر أنني أحب كلمات أغاني ياس خضر اليوم: “وشوقهم شوق الشواطي لليل دجلة“، ” أنا اريد لوق لحمد ما لوق أنا لغيره“، ياللي بين حواجيك غفوة نهر“. لكنني على الأرجح لم أعد أحب الاستماع إلى فيروز وناظم الغزالي، لأنني في قرارتي أحب الغناء أكثر من الشعر. كلمات أغاني فيروز جميلة وبعضها بديع جداً، لكن مشكلتي معها أنني لم أعد أستطيع أن استمع إلى صوتها. لقد غلبت الكلمة صوتها وهذا ما حصل مع ناظم الغزالي أيضا.
اليوم، لشد ما أستمع إلى حسن الحفار. حسن الحفار يبدو لي محصنا من الوقوع في هذه الهوة التي وقعت فيها فيروز. بعض ما ينشده وأحبه، ليس أكثر من أشعار شعبية تمدح الصحابة. وهذا النوع من الأشعار لا يناسب مزاجي أبدا. أحب أن أستمع إلى طه الفشني يرتل القرآن، لكنني لا أحب الأشعار الشعبية التي تمدح الصحابة والرسول. لهذا حين أستمع إلى الحفار أتجاهل الكلمات تماما، وأتبع النغم. نغم الصوت القوي والقادر والمتمكن. على أي حال، أحب لياليه وآهاته كثيرا، ولم أسمع مثيلا لها أبدا. ولو شئت التحدث بلغة الموسيقيين أستطيع القول إن الحفار سمح لي بالاستسلام التام للمتعة من دون تفكير بمصدرها وأسبابها. قبل إدمان سماعي للحفار كنت دائما أفتش عن العربة الشرقية في الأغنية، درجة المي في الراست والبيات والسيكاه، أو النقلة البديعة التي يتراقص عليها مقام الصبا بين المي والفا والصول. إنما منذ أن أدمنت الحفار اكتشفت أن الغناء يمكن أن يكون كاملا وتاما على العجم. على المقام الذي يكاد يكون الأغلظ والأجف. الحفار لا يغادر العجم إلا لماما. ينتقل من وقت إلى آخر إلى مقامات أخرى لكنه غالبا ما يعود إليه. معظم التسجيلات التي استمعت إليها للحفار نادرة، بمعنى أنها لا تتكرر. نادراً ما يكرر غناء الأغنية نفسها، الكلمات تبقى على ما هي عليه، لكن الغناء يختلف كل مرة، مما يجعل الكلمة ضعيفة جدا، كما لو أنها مجرد الثوب الذي يستر الجسد. علاقة الحفار بالكلمة تشبه بالنسبة لي أن تعترف بحبك لامرأتين مستخدما الجملة نفسها، لكنك تعرف أنك أحببت واحدة منهن أكثر بكثير مما أحببت الأخرى.
قبل وصولي إلى لوس أنجلس منذ نحو عقد من الزمن، كنت أخطط لاحتلال المدينة. لم أكن قد زرتها قبلا، وكنت أظن أنها تشبه المدن الأخرى التي سبق لي أن زرتها. بمعنى أن أهلها هم غرباء وأفراد، وأن المرء يستطيع السيطرة عليهم بصناعة إطار عام لعيشهم في المدينة وحبسهم ضمنه. تماما كما يمتثلون لإشارات السير أو تعليمات البوليس. كانت خطتي تقوم على تصوير شوارع المدينة بكاميرا متحركة على عربة، أو سيارة، بحيث لا يصمد المبنى لأكثر من ثوان معدودة في المشهد، فيما يصدح صوت أم كلثوم في كل المشاهد بوصفها الثابت الوحيد في الشريط.
حين بدأت بتوليف الفيلم، لاحظت أن صوت أم كلثوم لم يستطع احتلال المدينة وتغيير هويتها. لوس أنجلس تبدو عصية على مثل هذا الاحتلال لأسباب كثيرة. لذلك بدأت بحذف الألوان من المشهد المصور، أيضا لم أنجح في تحويل المدينة إلى عنصر ثانوي في الشريط، فاعتمدت على محاولة تخطيطها. أي رسم خطوطها النافرة فقط. مع ذلك بقيت لوس أنجلس عصية على الخضوع. النتيجة لم يبق من الشريط غير صوت أم كلثوم تغني كل ليلة وكل يوم.
كنت افترض من خلال هذه الفكرة أن المدن هي ما تجمع عليه. القاهرة تجمع على أم كلثوم. لطالما استسلمت القاهرة وسلمت أوقاتها لأم كلثوم. كذلك بيروت وعمان دمشق. كانت أم كلثوم تصرف الناس كلهم عن أي شأن سوى الاستماع إليها. هل لعبت أم كلثوم دورا في صياغة مشاعرنا؟ لقد لعبت دورا في تكويننا. لقد جعلتنا ما نحن عليه اليوم. ماذا عن فيروز أيضا؟ صباحات بيروت ودمشق المستسلمة لنعاسها الشجي. هل يعقل أن تسكن مدينة على صوت مغنية؟ هل يمكن أن نجمع العالم العربي كله على صوت أم كلثوم؟ لقد كنا كذلك، والأرجح أننا ما زلنا نحن إلى ذلك الوقت الذي كانت فيه أم كلثوم موحدتنا، رغم كل ما يفرقنا في السياسة والاجتماع والأهل.
ثمة محاولات جرت هنا وهناك، مرسيل خليفة وأقرانه في لبنان، الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم في مصر. الفرق الصوفية التي انتشرت في التسعينات، عابد عازريه مثلا. إنما ما الذي ننتظره من الموسيقى؟ ما الضير في أن تردد جملة من هذا القبيل: “أوريله الملام في العين وقلبي عالرضى ناوي“. حازم صاغية كتب منتقدا الكلام العام والذي لا يؤدي إلى معنى محدد في أغنيات أم كلثوم. لكنني أحسب أنه مخطئ كثيرا. كم مرة أعدت لحبيبتك العبارة نفسها هذا الأسبوع: أحبك؟ كم مرة طلبت منك أن تعيدها على مسمعها؟ هذا ليس لغواً. أحب شعر نجم طبعا، وأحب الطريقة التي يغنيه فيها الشيخ إمام. إنما هذا لا يجعل كلام أغاني أم كلثوم ساقطا وبلا معنى. على أي حال لا أكف عن الاستماع إلى أم كلثوم في إحدى حفلاتها وهي تغني الحب كله، ولسبب ما نسيت الكلمات مرات ومرات. فبادر الجمهور لتذكيرها. هل كانت تلك الكلمات ضرورية لنستمتع بالأغنية؟ لا قطعا. المشكلة في أغنيات اليوم ليست الكلمة المكررة بل الرقص الذي يريد المغني أو المغنية من خلاله إيهامنا بتحقيق نشوة عابرة.