fbpx .
قصص الأغاني

قتلتوني أنا حي | ١٠ جرائم وألغاز من ذاكرة الموسيقى العربية

عبد الهادي بازرباشي ۲۰۲۳/۰۸/۱۷

ماذا لو استمرت أسمهان ونور الهدى كما بدأن؟ لو لم تقضِ مأساة سميرة مليان على بليغ حمدي وعاش حتى يومنا هذا؟ ولو عاش الشاب حسني ودخل موسوعة جينيس بعدد أغانيه؟ بالنسبة لكثيرين لا تقل هذه الحسرات عن النكسة، وبالتالي لا يمكن غفرانها، ولا يمكن الاكتفاء بلوم القضاء والقدر؛ يجب أن يكون هناك مؤامرة. لذا توضع فرضيات في كل حالة مشابهة تتحول مع الزمن إلى شبه مسلمات، تستحق التسليم بها لأن هذا ما وجدنا عليه آباءنا، ويولد ثأرٌ من المتهمين، يستحقونه حينًا ولا صلة لهم به أحيانًا.

في هذه القائمة نتتبع عشر مؤامرات كبيرة، أدى بعضها لجرائم قتل وقضايا مقفولة رسميًا ومفتوحة شعبيًا. نتحرى كل الفرضيات المتاحة، نغوص لنبش حقائق جديدة عنها، وننغمس مع بعضها حد الإضافة إليها.

اغتيال أسمهان

كان يوسف وهبي بطل فيلم أسمهان الأخير غرام وانتقام، وفي ختام أحد أسابيع التصوير الأخيرة دعاها للذهاب معه هو وزوجته في الإجازة إلى الاسكندرية، لكنها اعتذرت لأنها وعدت صديقتين بالذهاب معهما إلى راس البر. لسببٍ ما لم يرد وهبي لها أن تذهب لراس البر، وحاول تغيير رأيها بمكالمة هاتفية، ثم بزيارتها في منزلها صباح يوم السفر، لكن صديقتَيها قدمتا لاصطحابها فاضطرت لحسم الموقف لصالحهن. الغريب، بحسب شهادة وهبي، أنهما لم يصطحباها فعلًا، وإنما ركبتا السيارة التي قدمتا بها وركبت أسمهان سيارة استوديو مصر التي كانت تحت تصرفها ومعها صديقها ومديرة أعمالها ماري قلادة، لتتعثر السيارة في طريق وعر ويقفز منها السائق قبل أن تقع في الترعة وتموت الشابتان غرقًا.

روى يوسف وهبي هذه الأحداث بحسب زعمه ليبيّن أن الموضوع حادث لا شبهة فيه، مؤكدًا بشكل غير مباشر، عن قصد أو بدون، أن هناك شبهة. خاصةً أن الصديقتين كلفتا نفسَيهما عناء المجيء في الصباح الباكر للتأكد من قدوم أسمهان معهما، دون أن يركبا معها في نفس السيارة ولا حتى على نفس الطريق، ومع عدم ظهورهما إطلاقًا في تبعات الحادثة وبقاء هويتيهما سرًا حتى اليوم. 

بالإضافة إلى الصديقتَين، لا أحد يعرف هوية السائق، الذي لم يحاول القفز في الترعة التي يستطيع الوقوف داخلها دون أن تغطيه المياه لينقذهما، وحكم عليه بشهرين، اختفى بعدهما حتى توفي هو أيضًا في حادث بعد سنتين.

يفرش حادثٌ كهذا تربةً خصبة لنظريات المؤامرة، خاصةً مع فنانة كأسمهان، شغلت الصحافة والشارع بشخصية حرة خارج زمنها، تتحدى المجتمع رجالًا وأمراء ودوَل لتعيش كما تريد. تحدت أخوها المستبد فؤاد الأطرش لتصنع مسيرتها، وتحدت المجتمع بقصص حب وزواجات متعددة، بين حسن الأطرش والمخرج أحمد بدرخان والصحفي محمد التابعي ورئيس الديوان الملكي أحمد حسنين باشا والمخرج أحمد سالم، وتحدت أزواجها أنفسهم وعلى رأسهم حسن الأطرش لتكمل مسيرتها رغم إرادته، وأحمد سالم لتستمر في أسلوب حياتها رغم غيرته وتهديده لها بالسلاح. كما تحدت المخابرات البريطانية، إذ ساعدتهم لدخول سوريا بناء على وعدهم بإخراج الألمان والخروج معهم، ولم ينفذوا وعدهم، فهددتهم بالتعاون مع الألمان إن لم ينفذوا.

مع حياة حافلة كهذه بعمر قصير، كثُر المتهمون بتدبير الحادث، بين المخابرات البريطانية، وزوجَيها حسن الأطرش وأحمد سالم، وأخوها فؤاد الأطرش، والملكة نازلي التي كانت متزوجة في السر من أحمد حسنين باشا، أحد عشاق أسمهان المزعومين، وحتى أم كلثوم بدعوى أنها هزت عرشها. كما استجدت رواية أخرى تقول أن واحدة ممن غسّلن أسمهان (قيل أحيانًا إنها تحية كاريوكا) ذكر لفريد الأطرش وجود آثار كدمات وطلق ناري على جثتها، ليطلب فريد تشريح الجثة ويأتي الرفض من جهات عُليا. كما روي أن فريد شرع في رفع دعوى ثم تنازل عنها لأسباب لا يعلمها غيره.

لا شيء مؤكد من كل ما سبق عدا زواجَيها من حسن الأطرش وأحمد سالم ورواية يوسف وهبي، وأبعد ادعاءات عن المنطق هي الطلق الناري في جثة شاهدها صحفيون وفنانون واستخدمت في أحد مشاهد فيلمها الأخير، بحيث يذهب عناء تدبير الحادث أدراج الرياح. أيضًا، لا يتمتع أحد بالنفوذ الكافي لإقفال قضية كهذه إلا البريطانيين والملكة نازلي، وإن صدق تورط أيٍّ من المتهمين الآخرين فيجب أن يكون بالتعاون مع أحد هذَين الطرفَين أو كلاهما، وأم كلثوم، بغض النظر عن طيبتها من شرها، أذكى من أن تسلم رقبتها للملكة أو للبريطان، وأحمد سالم كان وقتها في المستشفى بنتيجة إصابته التي وقعت قبل أيام حين هم بإطلاق النار على أسمهان غيرةً، أما الباقون فربما دفنت الحقيقة مع أحدهم، وربما مع طرفٍ أذكى من جميعهم.

ترحيل ميادة الحناوي من مصر

لا يوجد روايتَين متطابقتَين لقصة ترحيل ميادة الحناوي من مصر ومنعها من دخولها ومنع أغانيها في الإذاعة لــ ١٣ عامًا، ولا حتى على لسان ميادة نفسها. المشترك في روايات ميادة هو أن نهلة القدسي زوجة محمد عبد الوهاب هي المسؤول الأول، بطلب ذلك من وزير الداخلية نبوي إسماعيل مباشرةً مرّة، وأخرى باللجوء إلى جيهان السادات التي أوعزت لوزير الداخلية، وثالثة بالتعاون مع وردة؛ مع المواربة حينًا بخصوص هُيام عبد الوهاب بها وقتها والتصريح حينًا آخر، مع التأكيد بأنها في بادئ الأمر غادرت بإرادتها هربًا من تعلق عبد الوهاب: “أنا هربت هريبة أصلًا من مصر. ما عاد بدي لا في يوم وليلة ولا عاد بدي شي؛ أنا بأمانة بقللك ياها. لأنه أنا ما عدت أصبر ولا أستوعب عبد الوهاب، ما قدرت، وفهمك كفاية.”

يقول نبوي إسماعيل وزير الداخلية وقتها إن المنع وقع وهي خارج مصر أساسًا، وكان بسبب مجيء عبد الوهاب إليه وبكائه أمامه شاكيًا شك نهلة بوجود علاقة بينه وبين ميادة، وأنه لو تركته نهلة سيموت ويجب أن يساعده في إبعاد ميادة. أمر الوزير بإجراء تحريات عله يعثر على ما يمنحه حجة قوية، واكتشف تواصل ميادة مع جهات لها موقف من مصر بسبب معاهدة السلام مع إسرائيل، فأمر بمنعها من دخول مصر. الجهات المقصودة في رواية نبوي إسماعيل هي وزارة الداخلية السورية، كون الوزير وقتها، عدنان دباغ، متزوج من ميادة في السر.

بحسب محسن جابر، منتج ألبومات ميادة ورفيق دربها، في البداية أُخِذَت ميادة إلى المطار لترحيلها، لكن فايزة أحمد اتصلت بـ نبوي إسماعيل ثم برئيس الوزراء واستطاعت إعادة ميادة من المطار، لتستكمل تسجيل أغنيتَين ثم تسافر بشكل طبيعي، لكنها عندما جاءت بعدها إلى مصر مُنعت من دخولها وأُعيدت على نفس الطائرة. أيضًا، ذكر محسن جابر أنه كان كلما زار ميادة في سوريا وعاد إلى مصر استُدعي من قبل أمن الدولة، وأنه يُرجح كون محرك كل هذا منافسات من الوسط الفني، مستبعدًا نهلة القدسي.

أما ميادة، فقبل أن تؤكد أنها غادرت بإرادتها، ذكرت أنها ليلتها اصطُحبت من بيتها برفقة ضابطَين إلى إدارة الهجرة والجوازات في مجمع التحرير في الثالثة ظهرًا، ومنعت من مغادرتها قبل موعد الطائرة التي ستُرحّل عليها إلى بيروت في السادسة صباح اليوم التالي.

رفع محسن جابر دعوى طلب فيها معرفة سبب منع ميادة الحناوي من دخول مصر، وكان الرد أنه في ظل قانون الطوارئ يحق لوزير الداخلية منع أيٍّ كان من دخول البلاد دون إبداء أسباب. الغريب أن عدنان دباغ توفي عام ١٩٨٠، واغتيل السادات نفسه الذي كان للحكومة السورية موقف منه في ١٩٨١، وأقيل نبوي إسماعيل في ١٩٨٢، لكن المنع استمر عشر سنواتٍ أخرى إلى ما بعد وفاة عبد الوهاب.

اغتيال الشاب حسني

في حالة الشاب حسني ليس هناك شك في أنه اغتيل ولم يتعرض لحادث، وربما أبشع اغتيال لفنان والأكثر تشبعًا بالحقد، إذ استهدفت واحدة من الرصاصات الثلاث حنجرته، كأنه عقابٌ على أنه غنّى. لكن الغموض يكمن في هوية المستفيد. لم يكن لـ حسني أية علاقة بالسياسة، على عكس معطوب لوناس مثلًا الذي كافح في سبيل القضية الأمازيغية وأعلن موقفه ضد الجماعات الإسلامية وضد ممارسات السلطة، ما جعل اغتياله المفجع أقل إثارةً للتساؤلات.

المتهمون الأبرز باغتيال حسني هم المخابرات أو حزب جبهة الإنقاذ الإسلامية، أو كليهما. عام اغتيال حسني كان هو الثالث بين أعوام العشرية السوداء، التي بدأت في ١٩٩٢ إثر إبطال الجيش فوز حزب جبهة الإنقاذ بـ ١٨٨ مقعدًا من أصل ٢٢٨ في الانتخابات البرلمانية، ثم حل الحزب، لتبدأ صدامات دامية بين داعمي الحزب وداعمي الجيش عمت الشارع الجزائري. حتى اليوم يُرجّح أن جبهة الإنقاذ، أو أحد المنشقين عنها مثل الجماعة الإسلامية المسلحة، وراء اغتيال حسني، كونهم هددوه مرتَين بالفعل قبل الاغتيال. في المرة الأولى أرسلوا له رجلًا رفع عليه سلاحًا آمرًا إياه بالتوقف عن الغناء، فلجأ حسني إلى الشرطة لينصحه الضابط بالسفر إلى الخارج لأن أحدًا لن يستطيع حمايته في ظروف كهذه، ورفض حسني. في المرة الثانية أرسلت له ورودٌ مصحوبة بكفن وعطر لتغسيل الموتى، ولم يرتدع حسني.

دعّم كتاب اعترافات أمير من الـ جيا (الجماعة الإسلامية المسلحة) لـ باتريك فورستييه، الصادر عام ٢٠١٨ في باريس، فرضية أن الجماعة هي من اغتال حسني. بحسب الأمير الذي لم يُكشف عن هويته جاءت اللحظة الحاسمة حين أحيا الشاب حسني حفلًا ضخمًا عام ١٩٩٣، جمع ١٥٠ ألف متفرج، بما في ذلك من اختلاط وتعاطٍ للمحرمات، وفوق هذا كله، قبّل حسني طفلة من الجمهور على وجنتيها حين صعدت إلى المسرح لتحتضنه، مقلدًا المغنين الفرنسيين؛ ما اعتبرته قيادة الجماعة تحديًا مباشرًا لهم. جدير بالذكر أن جبهة الإنقاذ نفسها تحولت إلى أحد أعداء الجماعة الإسلامية المسلحة بنتيجة عدم موافقتها على أساليب الجماعة الدموية.

أيضًا، بعد سقوط حكومة بوتفليقة، شاع أن الجنرال توفيق من الجيش هو من نسق مع ثلاثة رجال من الجماعة لاغتيال حسني، موهمًا إياهم ربما بأنه منشقٌّ ويدعم قضيتهم، أو راشيًا إياهم، بحيث يتأكد أن يًلام الإسلاميون على الجريمة ويزيد الاحتقان ضدهم في الشارع الجزائري المتيم بالشاب حسني. الغريب أن الاغتيال جاء بعد الحفلة المذكورة بأكثر من عام وشهرين، مدة طويلة جدًا بالنسبة لردة فعل غاضبة، خاصةً أنه قبل اغتياله بأيام جرى خطف معطوب لوناس، الصريح في معاداته للإسلاميين، من قبل الجماعة، ثم الإفراج عنه بعد ١٥ يومًا تحت ضغط غضب القبائل الأمازيغية، فلماذا جاء الحكم على حسني بهذه الدرجة من القسوة وبهذه اللامبالاة تجاه غضب الشارع؟

محمد عبده وإبعاد عباس إبراهيم

في حالة معظم نظريات المؤامرة التي تدور حول تسلط فنان ذو نفوذ لا يقدم الفنان بنفسه دلائل ملموسة، لكن محمد عبده استثناء. قيل أنه حارب طلال مداح، وبدل الصمت عن ذلك أو حتى المجاملة لدى ذكر طلال أمامه، يهاجمه محمد عبده حيًا وميتًا، فيقول إنه تقليدي ولا تطور في ألحانه، وإن صوته قد “مر بمراحل تعرية زمنية”، وإن مطبخه غير نظيف كتعبير عن الصحبة السيئة التي لطالما لازمها طلال، كما جمعه مع أبوبكر سالم بوصفهما لا يملكان إرثًا باقيًا لأن ما يبقى بحسبه هو الأعمال الوطنية، ولا يرى أعمالهما الوطنية ترتقي للبقاء. لكن الوجه الأسوأ لمحمد عبده يظهر لدى سماع بأن هناك من يضعه مع جيل لاحق على قدمٍ سواء، إما على صعيد اللقب كما في حالة مناداة البعض بكون كاظم الساهر أحق بلقب فنان العرب، أو على صعيد الصوت كما في حالة عباس إبراهيم.

عندما منحت قطر كاظم الساهر الجنسية القطرية التي أصبح بموجبها خليجيًا، أطلق محمد عبده التعليق الملتبس بأن كاظم أولى بالجنسية من الأفارقة، ثم أجاب حين سئل عن سبب تكليف ماجد المهندس بتلحين أوبريت في مهرجان الجنادرية بدل كاظم الساهر بأن “الفرصة سنحت لكاظم لكن حظ المهندس جاء على قدر نيته.” فوق كل هذا حين سئل عن كاظم في برنامج العراب مع نيشان أجاب: “هو بس لو كان صوته أحلى شوي”.

في حالة كل من سبقوا كان المستهدفون أكبر من أن يكون تأثير محمد عبده عليهم قاصمًا، لكن في حالة الصاعد عباس إبراهيم الذي قورن بشباب محمد عبده، كان فتى الألفية في مواجهة أربعين عامًا من محمد عبده وعلاقاته.

لا يوجد شيء مؤكد اليوم سوى أن عباس إبراهيم صعد في بداية الألفية بعمر الرابعة عشرة، وعُدّ فتًى معجزة وجامعًا في صوته لأجمل ما في أصوات محمد عبده وعبد المجيد عبد الله وطلال سلامة، وحققت ألبوماته الأولى مبيعات ملفتة، ثم تباطأ إنتاجه حدَّ الغياب. هناك من يبررون ذلك بانشغاله بشغفه الأول، كرة القدم، رغم أنه لم يظهر مرةً في الملاعب، وآخرون يقولون أنه تاب رغم أن إنتاجه تباطأ ولم ينقطع، بالإضافة إلى رواية أنه لم يستطع استكمال الغناء بعد عشقه لفتاة رفضه أبوها وزوجها غيره. تبقى النظرية الطاغية هي تآمر محمد عبده ضده بمحاولة الضغط على الشعراء والملحنين والأمراء بالتوقف عن دعمه وإبعاده عن المحافل الكبيرة.

كالعادة، لم تساعد تصريحات محمد عبده بتبرئة ساحته، فأول مرة سئل فيها عن عباس إبراهيم قال محاولًا تحجيمه وحريصًا على عدم الإشادة به: “سمعت صوته، فهو يميل للغناء اليمني وتراثه وهو الأنسب له”، وفي الثانية، حين سئل مؤخرًا بشكل مباشر لأول مرة عن اتهامه بمحاربة عباس إبراهيم، نفى، لكنه أعقب نفيه بـ: “ما يمكن يكون فيه فنان عنده شي وما يظهر على الساحة. لازم يظهر على الساحة. الفن يفرض نفسه.”

محاولة قتل شريهان

أكبر فزورة قدمتها شريهان في حياتها هي: مَن وراء الحادث المروع الذي حطم عظامها وكاد يودي بحياتها عام ١٩٨٩؟ لم يظهر السؤال فقط رغبةً في التسلي بقصة غامضة لا أساس لها، فشريهان نفسها فحت باب التكهنات حين قالت في مقابلة بعد الحادث: “اسمحلي أحتفظ بالأصل، أصل القصة، لغاية ما ييجي يوم واحكيها”، ثم أكدت أن ما وقع كان حادث سير، لا رميًا من الطابق السابع كما أُشيع، وأن السيارة انقلبت بها أكثر من مرة، ما تسبب بكسور في العمود الفقري والحوض ودخول العظم في النخاع الشوكي وانقطاع عصب ساقها اليمنى.

هناك رواية موسعة أكثر لما حدث على لسان اعتماد خورشيد، الزوجة السابقة لصلاح نصر رئيس المخابرات وصاحبة كتاب اعتماد خورشيد شاهدة على انحرافات صلاح نصر (رئيس المخابرات في الستينات)، وزوجة والد شيريهان. طبعًا لا تصرّح اعتماد باسم شيريهان، لكنها لا تترك مجالًا للشك أنها المعنية بحديثها.

تقول اعتماد إن هناك فنانة من أقاربها أحبها علاء مبارك، وإنها حذرتها من العبث مع هؤلاء، وحذرت أهل علاء من تردده على مبنى الإذاعة والتلفزيون ملاحقًا قريبتها حتى لا تفضح ذلك في جريدة الوفد، لكن أحدًا لم يسمع نصيحتها، وكتبت الوفد عن ذلك، وجرى رمي قريبتها من فوق السطوح عقابًا على تطاولها، حتى وإن أنكرت قريبتها ذلك خوفًا. أيضًا تذكر اعتماد أن صفوت الشريف، نائب صلاح نصر السابق ووزير الإعلام وقتها، تلاعب بها وبعلاء مبارك ليستعمل علاقتهما كزلة أمام حسني مبارك.

من ناحية شيريهان التي فتحت باب التكهنات بتأكيدها أن هناك أصلًا ستؤجل الحديث عنه للقصة، عادت منذ أربع سنوات لتفصل بين موقفها من السلطة وبين عدم وجود أية مشاكل شخصية لها معها، مشيدةً بإنسانية تعامل عائلة مبارك وزوجة علاء مبارك معها؛ كما تبرأت قبلها من أية صلة قرابة مع اعتماد خورشيد.

الموضوع شائك، هناك شيء ما زالت تخفيه شيريهان، خاصةً أنه بحسب روايتها لقصة الحادث، عن طريق استعراض في إعلانها لفودافون، ليس هناك لبس في أنها احتضنت رجلًا داخل “قصرٍ مرصود” قبل أن تُدفع من حضنه إلى غرفة العمليات؛ لكنها كذلك قد تكون مجرّد حيلة تسويقية تستغل شعبية هذه السردية.

إنهاء مسيرة ليلى مراد

لم يُغفر لـ ليلى مراد أنها كانت يومًا يهودية، وإن بدا أن هناك خطيئةً أكبر وأقل اشتهارًا هي سبب عزلها على هيئة اعتزال، وإن لم تكن ليلى دومًا ضحية، واعيةً لأهميتها ونقاط قوتها وضعفها على طول الطريق.

ربما كانت أول محطة كبرى أدركت عندها ليلى مراد أن مواطنتها غير كاملة بسبب ديانتها هي يوم زواجها بـ أنور وجدي، حين تضمن العقد حقه بالزواج بثلاث أخريات دون الرجوع إليها، وبمنعها من الخروج من المنزل، وأنه ليس لأي منهما أن يرث الآخر؛ شروط غير موجودة في عقد المسلم على المسلمة. أدركت نجمة الشباك الأعلى أجرًا في مصر، وربما في العالم وقتها، أنه لتكون مصريًا يجب أن تكون مسلمًا.

لا يعني ذلك التشكيك في حقيقة إسلامها، وإنما تأمُّل التوقيت والطريقة، حيث لم تكتف ليلى بإيمان القلب مثل الكثيرين، بل حرصت على جعل الموضوع رسميًا بإشهار إسلامها في الأزهر وعلى صفحات الصحف، بعد أيام من موافقة الأمم المتحدة على قرار تقسيم فلسطين، وفي خضم مشاكلها مع أنور وجدي واحتكاره وغيرته، وفي نفس العام الذي استُهدف فيه يهود القاهرة في تفجيرَين ذهب ضحيتهم ٧٠ قتيلًا و٢٠٠ جريح.

جاءت أكثر لحظة فارقة نجت فيها ليلى مراد بإسلامها بعد نشر إحدى الصحف السورية خبرًا عن زيارتها إسرائيل، وتبرعها لجيشها بـ ٥٠ ألف جنيه. استطاعت ليلى نفي التهمة وتأكيد أنها مصرية مسلمة، مقدمة كل الوثائق التي تثبت كذب الخبر مع عدم قدرة الحكومة السورية على تقديم دليل واحد على الزيارة، وعدم رغبتهم بالتراجع عن قرار منع أفلامها وأغانيها إلى أن قامت الوحدة بين البلدين.

حتى اليوم لا أحد يعلم من وراء هذه الإشاعة، وإشاعات مماثلة أرهقت ليلى مراد ذهابًا وإيابًا للتحقيق معها حتى أرسلت لمحمد نجيب تعاتبه. هناك أنور وجدي الذي قيل إن إشاعة كهذه من مصلحته حتى لا يكون أمام ليلى مراد غيره لتخليصها من ورطتها، وتبقى معه بالنتيجة رغم كل طلاقاتهم. كذلك هناك إسرائيل نفسها، الاحتمال المرجح كون نجمة بوزن ليلى مراد إضافة جوهرية للمجتمع الإسرائيلي، وقد تستسلم أمام كل هذا الضغط وتقرر الهجرة إلى إسرائيل. يضاف إلى ذلك الغيرة الفنية التي قد تدفع بمنافِسات إلى أساليب كهذه.

لكن حتى شائعات بهذه الخطورة لم تكن وراء توقف أفلام ليلى مراد التي استمرت لثلاث سنوات بعدها، وبالتأكيد لم يكن اعتزالها وتفرغها للأمومة، كما ذكر ابنها زكي، هو السبب؛ فعلى لسان ليلى استمرت بالمحاولة مع هيئة السينما لـ ١٣ عامًا لتعود، دون جدوى. الاحتمال الأكثر رواجًا هو أن عبد الناصر عاقبها على دعمها لمحمد نجيب، الرئيس السابق، بالإضافة إلى عدم غفران يهوديتها السابقة في أوج الصراع مع إسرائيل، الفرضية التي يدعمها خوف ليلى مراد المستمر من الإشارة إلى ذلك، ورواية كون أخيها إسحق قد اعتقل في أعقاب العدوان الثلاثي وجرى حبسه وتعذيبه في أحد سجون طرة وأبو زعبل سيئة السمعة، ثم تجريده من جنسيته وترحيله، وخلال كل هذا لم تزره ليلى ولا حتى ودعته في المطار.

يبرز احتمال آخر لدى تأمل زواج ليلى مراد القصير والسري بـ وجيه أباظة، أحد الضباط الأحرار والذي ساعدها في نفي زيارتها لإسرائيل. بدأ الزواج وانتهى عام ١٩٥٣، وقتها حبلت ليلى ولم يعد هناك إلا إشهار الزواج، فرفض وجيه ووقع الطلاق، ورفض الاعتراف بابنه الذي أخفته ليلى عن الأنظار وأنكرت وجوده لسنوات. يُحكى أن عبد الناصر ضغط على وجيه ليمنح ابنه اسم العائلة على الأقل، دون اسم أبيه، وأنه كان وراء إلغاء المنع لأفلام ليلى وأغانيها لدى قيام الوحدة مع سوريا. يدعّم ذلك أن الإذاعة المصرية لم تقاطع يومًا أغاني ليلى، بل كانت من مفضلاتها واستمرت في تسجيل الأغاني في الإذاعة، الأمر الذي كان ليتغير لو أن عبد الناصر فعلًا هو من أعلن الحرب على ليلى.

كانت الحرب الحقيقية على ليلى من خلال عبد الحميد جودة السحار، رئيس هيئة السينما الذي ذكرته ليلى في مقابلتها مع آمال العمدة، إذ بقيت على امتداد ١٣ عامًا تزوره كل ٦ أشهر لسؤاله عن ما حصل في موضوع عودتها بفيلم جديد. يصادف أن عبد الحميد صديق لوجيه أباظة، وكتب سيناريو الفيلم الوحيد الذي تُنسب فكرته لوجيه. ربما كان الزواج الذكي استراتيجيًا لـ ليلى من وجيه هو ما قصم ظهرها، وربما كانت هناك منافِسات بالفعل حرصن على أن لا تعود نجمة الشباك الأولى في مصر.

قتل سميرة مليان في شقة بليغ حمدي

بعدما عُثِرَ على جثة المغربية سميرة مليان عاريةً تحت شباك بليغ حمدي، أجريت تحقيقات على مرحلتَين. في الأولى كانت الرواية أن بليغ رأى سميرة لأول مرة ذلك اليوم، بين ضيوفه الكثيرين المتغيرين، المفتوحة لهم شقته دومًا والذين يمكن أن يتركهم ويذهب أو ينام دون اكتراث. كما ذُكِرَ أنها جاءت بصحبة رجل أعمال سعودي وصديق لبليغ اسمه عبد المجيد تودري، أراده أن يتبنّاها كمطربة صاعدة. أكد بليغ أنه لا يعلم لماذا أو متى انتحرت، أو لماذا كانت عارية.

جاءت المرحلة الثانية لدى ظهور شاهدة جديدة، هي الخادمة في شقة عبد المجيد تودري الذي سافر بعد الحادثة بست ساعات. روت الخادمة، ذات الاطلاع المريب على كل شيء، أن عبد المجيد متزوج من أخت سميرة، بينما وعد أخوه عبد الله سميرة بالزواج وخلع، لتذهب سميرة وتعمل له فضيحة في كازينو كان فيه مع بليغ وعبد المجيد، فيحاول بليغ تهديء روعها ويدعوا الجميع إلى منزله ليتصافوا. برر بليغ عدم ذكره للقاء الأول هذا لأنه لم يرد إقحام مسائل خاصة بالمتوفية وعائلتها كهذه لا تخصه وغير مفيدة للقضية.

أيضًا، ذكرت الخادمة اتصال عبد المجيد بها تلك الليلة لتأتي مسرعة إلى شقة بليغ، ويخبرها أنه حصلت بينه وبين سميرة مشادّة فاعتدى عليها بالضرب ليفاجأ بانتحارها. وُجّهت إلى بليغ تهمة تسهيل الدعارة وحكم عليه بسنة مع الشغل والنفاذ والغرامة، فهرب إلى باريس لخمس سنوات، ريثما جاء موعد الحكم بعد النقض، وأقرت المحكمة ببراءته.

حتى اليوم لا يمكن فهم تصالح السلطات مع رواية كهذه، مع كون سميرة عارية وغياب أي أثر للضرب الذي أدى بها للانتحار وهي بهذه الحال، ما دفع إلى خروج تبريرات مثل عدم توزان حالتها العقلية وما شابه. هناك أيضًا فرضية أخرى تدور حول ترشيح أخو بليغ الدكتور مرسي سعد الدين لمنصب وزير الإعلام، وبالتالي ربما دُبّرت الجريمة حتى توصم عائلته بما لا يسمح بتسليمه منصب كهذا.

هناك حقائق مثيرة للفضول تدعم فرضية منصب وزير الإعلام. في ذلك الوقت كان نظام مبارك الوليد لم يثبت أقدامه بعد، ما أدى لتغييرات متوالية في تشكيلات الحكومة، في أعوام ١٩٨٢ و١٩٨٤ (عام قضية سميرة) و١٩٨٥ و١٩٨٦، ووزير الإعلام منذ حكومة ١٩٨٢ والذي كان سيتغير في حكومة ١٩٨٤ هو، للمصادفة الرهيبة، صفوت الشريف. أيضًا، كان الوزير الوحيد القوي في مركزه والصديق الداعم للدكتور مرسي هو وزير الدفاع عبد الحليم أبو غزالة، الذي كان الرجل الثاني في الدولة بعد حسني مبارك، وبالنسبة للبعض، الأول عمليًا. أقيل أبو غزالة من منصبه في تشكيل حكومة ١٩٨٩ وعُيّن مساعدًا لرئيس الجمهورية وعضوًا في المجالس القومية المتخصصة التابعة لرئاسة الجمهورية، زميلًا لصديقه الدكتور مرسي سعد الدين حمدي، وهو العام الذي صادف حلول موعد النظر في النقض في قضية بليغ، والحكم ببراءته.

محاربة نور الهدى في مصر

المؤامرات التي نُسبت لأم كلثوم أضعاف ما نُسِب لأي فنان آخر، وربما أضعاف ما نُسِب لصفوت الشريف نفسه. مدمنة مخدرات ويهودية تعاونت مع الموساد وقتلت أسمهان وحاربت ليلى مراد وسعاد محمد ونجاح سلام ونور الهدى، وانتقمت من القصبجي لأنه أعطى ألحانًا ناجحة لغيرها وبخلت على زكريا أحمد بحقه، ولم تأخذ ألحانًا من فريد الأطرش بسبب عنصريتها تجاه غير المصريين وجهودها المستمرة في التضييق عليهم. كما تلاعبت بمشاعر أحمد رامي لتسوقه إلى كلمات روائعها وأبعدت سميحة مراد أخت ليلى مراد إلى خارج مصر خشيةً من صوتها وجمالها، وفوق كل ذلك كانت سببًا في النكسة ومثلية تستغل موظفات النقابة جنسيًا، أو شبقة غيريّة تزوجت ٩ مرات عدا عن العلاقات خارج الزواج، وأنجبت ونسبت أطفالها لأختها. هذا غيضٌ من فيض من المؤامرات التي تحتاج أن تتفرغ لها أم كلثوم بدوامٍ كامل.

إلى اليوم لا يوجد دليل، ضعيف أو قوي، على أيٍّ من هذه الفرضيات، عدا ما يرتبط بنور الهدى. في حالة بقية ضحاياها المزعومين فلم يوفر أيٌّ منهم فرصة في حياة أم كلثوم أو بعد وفاتها إلا وأشاد بفنها وحسن تعاملها وإنكار هذه الفرضيات أو حتى السخرية منها. في حالة نور الهدى، ظهر موقفها المختلف من أم كلثوم على مراحل.

خلال مقابلتها مع سمير صبري، سألها عن سبب وضع يدها بالقرب من أذنها وهي تغني، فقالت نور الهدى أن هناك من يسلطن بحمل المنديل وهي تسلطن بحركة يدها هذه. لم تذكر أم كلثوم بجلال كالمتوقع، وإنما أشارت إليها بشكل عابر بحركة المنديل. بعد سنوات طويلة، وبعد رحيل أم كلثوم وتقريبًا كل كبار زمنها، تكلمت نور الهدى بحرية أكبر، وذكرت ملابسات حرب شُنّت عليها، بمنعها من الغناء في أية حفلة عامة أو خاصة، وبمنعها من عمل أكثر من فيلمين في السنة، ثم بإقفال باب البلاتوه أمامها بإيعاز من نقيبة الموسيقيين أم كلثوم، لتفرض عليها ٤٠٠ جنيه عن كل فيلم تدفعهم للنقابة تحت باب التبرعات الطوعية حتى يُسمح لها بالاستمرار بالعمل. بالإضافة إلى مضايقات في كل تجديد لإقامتها من وزارة الشؤون، وصلت حد عدم السماح لها بدخول مصر عام ١٩٥٣ بدعوى أنها عشيقة للملك المنفي فاروق، وإعادتها على نفس الطائرة.

استعمل البعض كلام نور الهدى دليلًا على محاربة أم كلثوم لغير المصريات بالجملة، لكن شهادات المعنيات وحقائق مسيراتهن تنفي ذلك، إذ أكدت نجاح سلام أنها لم تجد في مصر إلا الترحاب، وحكت صباح عن ودٍّ مستمر في تعاملاتها مع أم كلثوم، بالإضافة إلى تقدير سعاد محمد الكبير لأم كلثوم واقتدائها بمشروعها حتى آخر لحظة. إذًا، إن صدقت رواية نور الهدى، ما سبب انفرادها بعداوة أم كلثوم؟

قصة منع نور الهدى من دخول مصر بزعم أنها عشيقة الملك فاروق بداية جيدة. بين الشاميات لم تنفرد نور الهدى فقط بالعداوة، لكن أيضًا بنجاح منقطع النظير في مساحات كانت إلى حد كبير حكرًا على أم كلثوم. في حفلات الملك فاروق مثلًا، لم تعد أم كلثوم مفضلته الدائمة بعد ظهور نور الهدى؛ وعامةً، لم تتمتع حتى سعاد محمد بقدرة نور الهدى التطريبية وجاذبية حضورها المسرحي، حد اعتبار غنائها جارة الوادي مثلًا مرجعًا في التطريب. كذلك حققت نور الهدى نجاحًا سينمائيًا جعل أجرها يقارع أجر ليلى مراد نفسها، النجمة السينمائية الأكبر في الشرق، ما جعل التحجيم لا يقتصر على منع الأداء المسرحي، بل ومنع صناعة أكثر من فيلمين في السنة.

كذلك بالنسبة للملحنين، ففي حين امتنع عبد الوهاب عن منحها ألحانًا بعد فيلمهما الأول والأخير، ربما لأنها شاركت ملحنين آخرين مثل فريد الأطرش البطولة، التف حولها ملحني أم كلثوم، على رأسهم أثيرها رياض السنباطي الذي كان مولعًا بصوت نور الهدى ومنحها أيقونات. هامت به هي الأخرى فنانًا وإنسانًا وحرصت على قربه. صحيحٌ أن نور الهدى ليست الشامية الوحيدة التي حظيت بألحان هؤلاء، لكنها صاحبة الصوت الأقدر مسرحيًا والأكثر جماهيرية سينمائيًا بينهن، وربما صاحبة الوجه الأخطر، الذي دفع عبد الوهاب الحريص عادةً إلى أن يطبع أول قبلة على شفاهها، واستوقف الملك فاروق. هذا كله في فترة مرض أم كلثوم وسفرها لإجراء عملية خشيت أن تخرج منها دون صوتها.

اغتيال عمر خورشيد

بحسب مها أبو عوف، زوجة عمر خورشيد وقتها، قُتل زوجها مذبوحًا ولم يُتوفّ في الحادث الذي اعتُبر سبب وفاته رسميًا، لأن زجاج سيارته من النوع الذي يتفتت لدى الانكسار ويصبح أشبه بالبودرة، ولا يُمكن أن يتكسر إلى أجزاء كبيرة تتسبب بجروح كالتي أودت بحياته. بدأ هذا الجدل يوم الحادث وتفاقم بعده مع الهوس الشعبي بأيقونة عمر خورشيد فتى الأحلام.

تقول الرواية الرسمية، على لسان أحد ضباط التحقيق وقتها، إن عمر خورشيد كان قد أنهى وصلته اليومية في فندق الفاندوم في شارع الهرم، وخرج قبل الثالثة صباحًا بقليل بصحبة مديحة كامل إلى مكان مختلف عليه بين الروايات، وفي الطريق مرت بهم سيارة شاب سعودي أحس خورشيد أنه يسبقه عمدًا، فأسرع محولًا الموضوع إلى سباق فعلًا، حتى فوجئ خورشيد مع سرعته العالية بجزيرة عند تقاطع بالقرب من كافيه خريستو وصعد بسيارته على رصيفه مصطدمًا من جهة كرسيّه بالعامود في منتصفها. كان ذلك بالقرب من قسم الهرم حيث كان ضابط التحقيق ساهرًا على قضية قتل، وسمع صوت الارتطام الهائل لدرجة اشتباهه أن طائرةً وقعت، وفي أقل من دقيقتين وصل إلى السيارة ووجد خورشيد متوفيًا بفعل جراحه ومديحة كامل تئن والدماء تغطيها، بحيث لم يعرف أحد من هي أول وهلة.

لا يوجد شخص واحد ممن كانوا ضمن الحدث أو من بين المحيطين به تطابقت روايته مع رواية ضابط التحقيق، أو مع رواية غيره. على لسان هاني مهنا، كان في سهرة مع خورشيد في شقة صديقهم محمد كامل ياسين وأراد خورشيد إكمال السهرة في كافيه شاليمار، فاعتذر مهنا لأنه على موعد سفر في الصباح الباكر، وركب خورشيد مع زوجته دينا، وركبت مديحة كامل مع صديقها الكويتي سعد المطوع، وفي الطريق تسابق خورشيد والمطوّع حتى صادفتهما سيارة خارجة من أحد التقاطعات بالقرب من خريستو “بغشومية”، ففقد خورشيد السيطرة واصطدم. بحسب مهنا أمكن إنقاذ خورشيد لكن الإسعاف تأخر فتوفي بفعل النزيف. يُصر مهنا على أن روايته حقيقة مطلقة، رغم أنه في نفس الرواية يذكر أنه لم يذهب بصحبة خورشيد وبالتالي لم يشهد إلا ما قبل ركوب خورشيد السيارة.

بحسب زوجته الثانية مها أبو عوف، خورشيد بالغ الدقة في مواعيده، وكان قد أنهى وصلته في كازينو لاروند وأخبرها أنه قادمٌ في الساعة الثانية ليتعشى معها، لكنه تأخر لأول مرة وأكثر من ساعتَين، لتعلم بخبر الحادث من أحد العاملين في لاروند. أما في شهادة دينا، التي تثبت الصحف وقتها أنها من كانت بجانب خورشيد، وكذلك شهادة مديحة، فإن راكبي السيارة التي سابقها تعمدوا إثارة غضبه بالسخرية والشتائم وضيقوا عليه حتى وقع الاصطدام، ما جعل مديجة تستنكر تهاون المحكمة في التعامل مع الشاب السعودي وحفظ القضية. بحسب دينا، لم يكن هذا أول حادث يتسبب به الشاب السعودي نفسه لهما، فقد اعترض سيارتهما قبلها بعام وتسبب بتصادم هشّم سيارتهما لكنهما نجيا؛ عدا عن أنه أيضًا اتهم سابقًا في حادث أصيب فيه نقيب المحامين، الرافض لاتفاقية كامب ديفيد، أحمد الخواجة. بالنسبة للوجهة فقد كانت فندق مينا هاوس بحسب دينا ومديحة.

من ناحية سعد المطوع فيؤكد أنه كان هناك استفزاز وتضييق من ناحية الشاب السعودي، لكنه يدخل شخصية جديدة هي محمد محمود فريد، الذي ربما كان راكبًا مع المطوع ومديحة، وكان هو من نقل خورشيد إلى مستشفى العجوزة بينما نقل المطوع دينا إلى مستشفى الأنجلو. لم يذكر المطوع ولا فريد أنهما صادفا شرطة قادمين من قسم الهرم إلى مكان الحادث الذي يبعد أمتارًا عن القسم.

يحكي الكاتب وصديق خورشيد عاطف النمر أنه كان هناك محاولة اغتيال سابقة لعمر خورشيد، يُرجّح أنها بسبب ذهابه مع السادات ممثلًا للفن المصري لدى توقيع اتفاقية كامب ديفيد، كون جميع المشاركين تلقوا تهديدًا من جبهة الرفض الفلسسطينية، إلى جانب موقف منظمة التحرير الفلسطينية من الأمر، وهو ما جعل المخابرات وأمن الدولة تشارك في التحقيق في حادث وفاة خورشيد. كانت المحاولة عن طريق إيصال قنبلة على أنها بطارية سيارة إلى مكتب خورشيد، لكن استطاع الأخير إبلاغ السلطات في الوقت المناسب ليأتي فريق ويبطلها.

تنسب الرواية الأكثر إثارة وشيوعًا إلى مذكرات سعاد حسني التي تتهم صفوت الشريف بقتل خورشيد، لأنه حذره من الاقتراب من صديقته سعاد حسني وهدده بأن يطلب من السادات التدخل، فما كان من صفوت إلى أن بدأ التحضير للاغتيال. في البداية نشر صفوت شائعة عن علاقة عاطفية بين عمر خورشيد وابنة السادات، ثم أرسل دعوة مفتوحة مزيفة من إسرائيل إلى خورشيد أثارت الرأي العام ضده وأدت إلى منع الكويت وقطر لخورشيد من دخولهما، كما حرص على أن لا يستطيع خورشيد مقابلة السادات لتوضيح موقفه. قصة مقنعة، إلا أنه ليست هناك بالفعل مذكرات رسمية نُشرت لسعاد حسني. حتى اعتماد خورشيد غيرت شهادتها بعد سماعها بمحتوى المذكرات مدعيةً أنها لطالما عرفت هذه الحقيقة، رغم أن شهادتيها كانتا بعد وفاة سعاد حسني، ولو أنها سمعت الأصل من سعاد لما تغيرت الشهادة.

السادات وصفوت الشريف وجبهة الرفض الفلسطينية والشاب السعودي ملتبس الدوافع والقضاء والقدر، وحتى الجن لم يسلموا من الاتهام إلى أن برّأهم عاطف النمر. كل هذا مع روايات متضاربة حد الدفع إلى نظرية المؤامرة، غير القادرة حتى اليوم على الخروج بفرضية متماسكة.

قتل ناظم الغزالي

مطلع عام ١٩٦٣ تلقى ناظم الغزالي دعوة من وزارة الإعلام الكويتية لإحياء حفلات بالاشتراك مع صفوة نجوم الغناء العربي، مثل وديع الصافي ونجاة الصغيرة وأم كلثوم. تُشكّل تسجيلات ناظم هذه في الكويت أعز وأبقى إرثه، والخطوة التي أهلته لتوسُّط كبار موسيقى الشرق في حقبة دخول التلفزيون وانفجار النجومية أكثر من أي وقتٍ مضى. بعدها بأشهر توفي ناظم بما صُرّح أنه سكتة قلبية وهو في الثانية والأربعين، ما جعل الشارع العراقي غير متقبل بأي شكل أن تكون وفاته طبيعية، وولدت نظريات مؤامرة ما زالت تنمو حتى اليوم.

قيل إن ناظم نازي، ما دفع المخابرات الإسرائيلية لاغتياله، وأنه داعم لعبد الكريم قاسم وغنى له، وبالتالي قد يعاقبه البعثيون في فترة الحكم الصوري لعبد السلام عارف وانتشار الحرس الوطني في الشوارع. أيضًا، هناك قصة ولع أميرة كويتية به في حفلاته الشهيرة هناك، ما دفع ربما عائلتها لاغتياله، وقصة غضب العائلات المسيحية المهيمنة في العراق بسبب أغنيه سمراء من قوم عيسى، وعقابهم المحتمل له. حتى أن هناك من اقترح أم كلثوم ونظام عبد الناصر.

لم يكن ناظم سياسيًا، فكما غنى لعبد الكريم كان صديقًا لعبد السلام ويُشيد بجهود حكومته في تثقيف الفنانين ودعمهم، وأعرب عن سعادته باستقلال الكويت التي أراد عبد الكريم ضمها إلى العراق سلمًا أو حربًا في وقتٍ سابق. ببساطة لم يكترث للسياسة وتناقضاتها وقام بالمطلوب منه دون أن يتأثر فنه. أيضًا، الحرس الوطني لم يكن يلجأ للمواربة والسم، الرصاص كان أكثر فعاليةً ومباشرة لصنع العبرة. كذلك العوائل المسيحية لن تستفيد من التنفيس عن الغضب في السر. أما موضوع الأميرة الكويتية فمحتمل لأن كل شيء محتمل.

يبقى الاحتمال الأكثر شعبية، أن زوجته اليهودية سليمة مراد دبرت مقتله مع أختها روزة التي كانت تعيش معهم. يُرجَّح هذا الاحتمال شعبيًا لأن ناظم تزوج سليمة التي تكبره بـ ١٦ عامًا وهو على بداية طريقه، بينما هي قد جمعت المجد من أطرافه وصارت مطربة وسيدة العراق الأولى، وفتحت أمامه كل الأبواب التي صنعت مسيرته؛ ما قد يبدو كزواج مصلحة كلاسيكي. زواج كهذا ينقضي شهر عسله بانقضاء المصلحة، وبحسب بعض الروايات هذا ما حدث، إذ قيل إن ناظم لطالما عاير سليمة بسنها وعنّفها ومال للزواج بثانية. وصلت بعض الروايات حد أن ناظم بعد أن سكر مرّة ضربها وسحلها من شعرها وربطها في حديقة المنزل حتى صباح اليوم التالي.

الدليل الوحيد الباقي على شكل العلاقة مقابلة الزوجَين على إذاعة بي بي سي، التي أُجريت في عام وفاة ناظم. لا تشي المقابلة بودٍّ كثير، بل يبدو أحيانًا أنه قد سُجِّل مع كلٍّ منهما على حدة ثُم جمعا بالمونتاج. يؤكد ناظم منذ بداية المقابلة أنه فتيّ على عكس زوجته: “أنا كانوا يتصوروني المستمعين رجل مسن، أتجاوز الستين سنة”، في الوقت الذي بلغت فيه سليمة الجالسة بجواره عامها الثامن والخمسين. لا يبدي أيٌّ منهما إعجابًا بغناء شريكه، ويقاطع ناظم سليمة ويستلم دفة الحديث بينما تفرد له المساحة، وحين تحاول أن تُضيف معلومة لحديثه تضيفها بصوت منخفض وعلى استحياء، في مقابل تجاهلٍ منه لإضافتها. غريبٌ هذا التعامل من ناظم الذي عُرف بدماثته، ومع أسطورة كانت يومًا ما من مرجعياته في تعلم الغناء، وهو الباحث الموسيقي الذي كان يؤرخ للغناء العراقي ولريادتها في بداياته مطلع الخمسينات.

رغم كل ذلك، أحبت سليمة ناظم. كان أول وآخر رجل اختارته، وحينها لم يكن زواج قطبين، وإنما زواج القطب من شبه مجهول صنعت منه قطبًا. كما رضيت، وهي غير المغلوبة على أمرها والتي خطب ودها الملوك والوزراء حتى عُدّت منهم، بالتراجع أمامه إرضاءً لذكوريته، كما في حالة المقابلة، واستمرت بقية عمرها ترثيه. أيضًا، السيناريو المقترح بالغ التطرف، وهو أن خلافًا دب بينهما في بيروت بخصوص خيانته أو رغبته بالزواج بأخرى، فتركها وعاد إلى بغداد قبل موعد طائرتهما، لتتصل بأختها وتطلب منها تسميمه؛ كأنها تقول لها طلّعي الفرخة تفك على بال ما اجي. الموسيقار سالم حسين نفسه الذي كان رفيق ناظم في رحلته الأخيرة من بيروت إلى بغداد ذكر أن العودة السريعة جاءت لإتمام شراكة فنية، وكان من مصلحته أن يقول لا أعلم سبب عودته ويفتح باب التكهنات وباب إقبال الصحافة عليه.

دفعت العنصرية تجاه اليهود، والتي أصبحت من شروط الوطنية، نحو الإصرار على اتهام سليمة الموصوفة بأنها “زوجته اليهودية”. لكن بالفعل، إن كانت وفاة ناظم قتلًا بالسم لا جرّاء سكتة قلبية، قد يكون ليهودية سليمة يدٌ في ذلك. سليمة رمز، وانتماؤها إلى أي مجتمع عزٌّ له، ولا شك أن إسرائيل اجتهدت في استقطابها، دون جدوى، وربما قتل ناظم كان محاولة لقطع ما يُعتَقد بأنه أقوى رابط بين سليمة والعراق؛ لكن سليمة بقيت ودفنت بحانب زوجها.

المزيـــد علــى معـــازف