جورج وسّوف المصري

أنا جيت الدنيا ديّه علشان أفرّحك

(قرار: أنا راضي بالسهر، دول مش حبايب)

طائفة جورج وسوّف الثقافيّة

نشأت في مدينة الاسكندريّة، ودرست في كليّة الفنون الجميلة في مطلع الألفيّة. آنذاك، كنت على قدر معين من التحرر، مقتنعا أن الكليّة هي المرحلة المناسبة لتجريب أنواع الملفوف والمشروب والمبلوع، المتاح منه والمستورد، من مكيّفات أو منبّهات أو مهدّئات أو منشطات أو مثيرات للخيال. فشخص اسكندريّ في الكلية شرب الحشيش في أول الألفيّة يجعله بطبيعة الحال وبشكل مصيري قد مر ولو لوهلة قصيرة بمرحلة جورج وسّوف في حياته. وذلك من خلال نصيحة متوارثة: إن كنتَ تصطبح” – أي تشرب الحشيش، فكأنك قد أصبحت معدّلاً جينيّاً لتحب جورج على الفور.

الحقيقة أنّني لم أشعر بضرورة لذلك على الإطلاق، ولم تكن التوزيعات الشعبيّة الرخيصة المليئة بالرتم الالكتروني الرتيب وتأثير السكسكة العاليةتلك التي تميّز آخر عشر أسطوانات لتشدّ انتباهي. كنت بالطبع أقدّر صوت المطرب واختلافه عن أيّ صوت آخر سمعته، لكنني بصفتي مستمع قديم للموسيقى الغربيّة تربيّت على البوب الغربي، فلم تكن دوائر ذوقي لتتّسع لأكثر من محمد منير الذي تميّزت أسطواناته بتوزيعات يحيى خليل المبتكرة. ولكنّه تفاعلٌ مؤقّت وسريع، لم يزِد عن تجلّيه كمرحلة فقط.

وهنا يجب ذكر التهمة التي يتّهمها مهووسي وسّوف لمهووسي منير، بالرغم أنهما لا يختلفان عموماً: “منير مغنٍّ وليس مطرباً“. ولا ينكر مهووسي كل فريق أن كلا جورج ومنير – دون غيرهم يعبّر عن طائفة ثقافيّة، ينشأ بينهما احترام متبادل نتيجة لذلك. ولكن على أيّ حال (ابن الحلال…)* كنت أتواجد في مجالس كثيرة ، دائماً ما كانت تنتهي باختيار جورج ليكون أنيس المجلس بصوته وتوزيعاته التي تحثّ على الرقص الخفيف حيناً، والتأمّل حيناً. وغالباً ما كان أبو وديع يوحّد صفوف الأذواق المختلفة: فلم أمانع.

فاصل سريع

تعتبر سيارة الأجرة عالماً خاصاً تتجاور فيه مساحتك مع مساحة شخص آخر لم تكن لتجمعكم صدفة بديلة للتسامر لمدة ربع ساعة على الأقل. ولا يشابهه عالم آخر مثل الاوتوبيس أو القطار، سائر وسائل المواصلات. إذ انت بالفعل تقفز اإلى عالم شخص ما، فيتحفك بذوقه السمعي والبصري وفلسفة حياته معاً، وسوف يكون عليك تقبّلها ومحاولة التماشي معها لأنّه يتحكم – فعليّاًبحياتك خلال مشوارك، ولأنّه في معظم الأحيان أشدّ منك خطورةً وأكثر حنقاً واختناقاً لجلوسه وقيادته في الظروف الجويّة طيلة اليوم ما يجعل سلطته يد عليا، متحكمة نسبيّاً في مصيرك. وبقليل من التحايل، تستطيع أن تتناقش معه أو أن تختلف معه نسبيّاً، لكن إن تأزّم الحوار، فستتركه يكسب في النهاية بدون الكثير من الفصال. فطالما لم يؤثّر الحوار على مبادئك أو أخلاقك الخاصّة، أو يعارض قناعتك أو إيمانك بشكل مباشر، فلا ضرر من أن يقول أي شيء.

تجد نفسك دائماً في محل تصادم معه حينما يتعدّى على حدودك الشخصية، والحدود الأكثر عرضة للاختراق في هذه الحالة هي الحدود السمعيّة: فدائماً ما تستمع على ذوقه. وأيضاً، إن لم تختلف بشكل خاص مع ممّا تسمعه: كأن تستمع إلى شيخ يشتم دينك أو معتقداتك، أو أن تستمع إلى عبد الحليم حافظ مثلاً الذي لا أطيق الاستماع إليه، فليس هناك اعتراض. وبشكل شخصيّ: يسهل عليّ تجاهل شيخ يشتم عن تجاهل عبد الحليم حافظ. وبنتيجة الاختيارات والتصادمات الكثيرة، تجد أنك تتقبّل بعض الأمور ورافضاً لغيرها من باب المساومة: فلا أعترض على تشغيل القرآن مثلاً، ولكنني اعترض على شيخ شتّام أو عالمخرف. لا أعترض على الموسيقى القديمة مثل وردة وشادية وصباح، وأعترض على محمد حماقي وجنّات. لا أعترض بالطبع على الستوعبد الوهاب واسب الدين إذا سمعت عبد الحليم. وبين كل هذه الخيارات التي – باستثناء الستوقليلين غيرها – لن أسمعها باختياري، وجدت في جورج وسّوف حينما يكون خياراً، ملجأ ً يقرّبني من دنياي الخاصّة، ويذكّرني بمجلسي وأصدقائي، ولا أجده غريبا عنّي بالكامل. ولأنه اجتاح لسبب يطول شرحه سوق الكاسيت المتداول بين سائقي التاكسي، فكان خياراً بديلاً ومتاحاً معظم الوقت إذا شعرت ببادرة خلاف مع السائق، إذ نتّفق دائماً على الاستماع إلى جورج: موحّد الأذواق والطبقات.

رجوعاً

ومن هنا جمع جورج طبقات اجتماعية وثقافية في شدة التباين ليوحدهم في صف واحد تحت راية محبته والطرب لسماعه والإستكانة إلى صوته. رجوعا الى مشهد الكلية، فكنت قد أصبحت أنا من سمّيعة جورج، وهم غالباً من الحشاشين. يوجد في أي كلية في مصر في هذه الحقبة ثلاثة شلل في كل كلية، تلتقي على أساس موسيقي. كلٍ مخلص لفريقه إخلاصا عقائديّاً، أولهم شلة منير، أو المنيرجية، وهم غالبا شلة من الثوار على النظام، تجمعهم كلمات منير كدستور غير منفصل عن حياتهم، ليسو ضد النظام بشكل كامل ولكنهم في فقاعتهم الخاصة على جزء من التصالح مع المنهج التعليمي. هم ليسو متفوقين وليسوا فاشلين بالكامل. ثانياً: هناك شلة بينك فلويد، ويضمون معهم بواقي سميعة الميتال من روافد التسعينيّات وهم على قدر من التشابه مع طبقة سمّيعة منير الثقافيّة، ولكن ذوي توجه غربي ربما اقترن بحالة ماديّة أيسر قليلا، وهم أكثر صلة بالمخدرات من المنيرجية، وإن لم يكن بشكل جاد. سمّيعة جورج هم أغرب الفئات. لا توحّدهم طبقة ولا نوع ولا دين ولا توجّه ولا مستوى دراسي أو اجتماعي، بل هم خليط من مجاميع أخرى، لا يجمعهم سوى حبهم لجورج. هؤلاء، يقتصر حديثهم مع بعضهم على: سمعت كذا؟ أو: عندك شريط كذا؟ تعرف أغنية قديمة بعنوان كذا؟ وحتى بعد سنوات من العِشرة إذا التقيت صدفة بصديق من شلة جورج – وهي ليست شلة بالمعنى الحرفي – فهو لن يجد ما يقوله لك، لأنه لا يعرف عنك أي شيء. سؤاله الوحيد سيكون لسا بتسمع جورج ؟ومن ثم تفترقا مطمئنين.

بإمكان أي شخص، حتى لو لم يمكن منخرطاً في الموسيقى، أو مهتمّاً أو متابعاَ، ليس من الصعب تمييز أعمال لجورج وسوف: إذ تتميّز بغرابة بعض كلماتها، وبالطبع لصوت جورج الأجش المحشرج، خصوصاً في العشرين سنة الأخيرة. هو صوت لا يمكنك ألّا تميّزه. فإن لم تكن تعرفه بالفعل، سيدفعك هذا الصوت للسؤال عن ماهية هذا المحشرج الذي يغني وبدون وجل أو حرج من صوته، ملعلعاً بشجاعة، ومعلناً عن مشاعره الجيّاشة. حتى أمي التي قلما تستمع الى اي موسيقى ما لم يكن بمحض المصادفة لاستطاعت، إن سئلت، أن تذكر على الأقل أغنيتين لجورج. على أقل تقدير طبيب جراحوكلام الناس، وبالتالي إذا عرفت الأولى والثانية، لميّزت صوته بعد ذلك في أغانٍ مثل سلف ودين، واتأخرت كتير، وان لم يكن ضروريّاً أن تتذكر أسماء الأغاني بشكل خاص. ففي إحدى المرّات، تفاجأ بائع الخضار من عدم معرفة أمي بالأغنية التي تلاها على أذنيها محييّاً في تأنيب مصطنع اتأخرت كتير يا حبيبي، فقال لها: “جرى ايه يا دكتورة؟ ماتعرفيش جورج؟ انتوا مفيش في حياتكوا –يقصد معشر الأطباءغير المكروكروم؟“.



حينما قصت أمي المشهد قالت لي أنّها بالطبع تعرف جورج ولكنها لم تستطع فهم لماذا قد يحييّها بائع الخضار بهذه التحية، بل ويستغرب من مفاجأتها. أمي لا تعرف ان سمّيعة جورج ليس لهم خيار في غنائه أو عدم غنائه، وانه لسهولة ألفاظه وتوقّع لحنه وثبات مقاماته يخرج بشكل عفوي وغير اختياري، خصوصاً أن قاموس مصطلحاته هو قاموس من الحياه اليومية في أغلب الأحيان – على طريقة الغناء الشعبي – لذا تجد نفسك تتذكره في كل مناسبة. وأن بائع الخضار كان يقصد عتابها بالفعل على غيبتها وعدم شرائها من عنده لفترة طويلة، فخرج العتاب في أغنية اتأخرت كتيرالتي كانت قريبة لخاطره ولسانه. وثانياً لأن لحشرجة صوت جورج ضماناً يرفع الحرج عن أي شخص يغني أغانيه، ويجعله الاختيار الأول لراغبي التنفيس عن هذا الاحتياج للغناء اليومي. هذا رداً على سؤال لماذا يحييّها مغنيّاً، أما لماذا استغرب من دهشتها، فذلك لأن أبو وديع أصبح أشهر من النار على العلم. ولسبب آخر خفي، وهو أن أمي مكشوفة الرأس، فهي إذا لابد أن تعرف جورج، على الأقل من باب التفاخر بسليل بني جلدتها من المسيحيين.

الطبيب الجرّاح

اكتسب اسم أسطوانة طبيب جرّاحومطلع الأغنية التي تحمل الاسطوانة اسمها شهرة واسعة، فليس من المعتاد بتاتاً أن يصف مطرب نفسه على أنّه طبيب، بل ويحدّد تخصصه. جورج يتبع ذلك، موضّحاً سبب استخدامه لهذه الكناية، ذلك أنّه وجد في نفسه موهبة تداوي قلوب الناس، مما يضعه هو والطبيب الجرّاح على نفس القدر من الأهمية لمداواة آلام القلب. وبالفعل كانت لهذه الأغنية سبباً كبيراً في تساؤل الجمهور المصري عن هذا المطرب. هو لم يكن يغني باللهجة السوريّة أو اللبنانيّة إلا فيما ندر ولكنه لم يكن مألوفاً أن تصدر شجاعة مثل هذه عن مغنٍّ مصريّ، ولا هو من المألوف أن تسمع هذه الحشرجة. عبد المطلب مثلا كان صوته قويّاً وممتلئاً بالشخصيّة، مدويّاً بحروف الـعينوالـحاء، ولكنّه لم يكن متحشرجاً.

كذلك معظم المغنيين الشعبيين، لم توات لشخص بمثل هذا الصوت الفرصة ليصبح مطرباً قبل حقبة وسّوف. جورج فتح المجال لكثيرين من المستنسخين الذين حاولوا تقليده، وأصبح وجودهم مستساغاً في السوق التجاري بمجانيّة. ولكن لا ضرر، فبعد التقليد الأعمى، سوف يعرف البعض أن الفكرة الأساسيّة التي قدمها وسوف في أسطوانات ما بعد منتصف التسعينيّات عندما تغير صوته بشكل ملحوظ كأنه أصاب البلوغ فجأة، هي أن الأداء المؤثّر يغفر لأي صوت.



بالنسبة لسوق الكاسيت في التاكسي والحافلات العموميّة، فسوف أذكر تعليقاً بسيطاً حتى لا أترك أي أمر معلّقاً، طبعا مهنة السائق في طبيعته تجعله في احتياج دائم لرفقة تهوّن عليه بقاءه وراء المقود طوال اليوم، بينما يتغيّر عليه الأغراب. وفي أماكن مثل المواقف الكبرى بكل محافظة يلتقي السائقين من مختلف المناطق، الصعيد أو الدلتا أو مرسى مطروح وسيناء، ويوجد دائماً محل الشرائط ليلبي احتياجات هذا الجمهور المتنوع، أي أن الموقف أصبح بوتقة لإذابة melting pot هذا التنوع الجغرافي، تنتشر فيما بينه الإصدارات الجديدة مهما كان منشأها أسرع مما تنتشر في أي وسيط آخر. ويعدّ ذلك المعبر الذي يتسلل منه الرافدين الجدد في عالم الغناء مهما كانت أصولهم. عرف سائقو الأجرة والحافلات جورج صغيراً بصوته الحاد باعتباره الطفل المعجزة، كبديل أو مكمل للمكان الذي تركه طاهر مصطفى فارغاً بعد إرث متواضع من إعادة إنتاج للكلاسيكيّات المصريّة القديمة.



جورج والإسطوغرافيا

بغض النظر عن شخصيّة أبو وديع وحياته الشخصية، إلا أن هناك شخصيّة أخرى هي التي يقدسها مستمعوه والتي قد تتقاطع وان لم تكن لتتطابق مع شخصيّته الأساسيّة. فدائماً ما يقترن ذكر جورج وسّوف بالكثير من القصص الأسطوريّة والخرافات والطرائف. وتقال العديد من الجمل المحفوظة فقط بغرض الإعلان ووضع النقط على الحروف. إليكم بعض من هذا الخليط الذي لابد أن يكون كل شخص قد اصطدم به أو بجزء منه.

1 – جورج وسّوف أشهر إسلامه.

2 – جورج وسّوف لم يشهر إسلامه.

3 – جورج وسّوف زملكاوي.

4- جورج وسّوف كان في سهرة وشرب كحول بمائتي ألف دولار.

5 – جورج وسّوف يحمل دائماً علبة ممتلئة بكاملها بالكوكايين يتعاطاها طوال النهار، وقال في أحد اللقاءات التلفزيونيّة التي لم يرها أحد سوى ابن عم صديقي: “لولا دا كان زماني بقيت مليونير، مشيراً إلى أنفه.

6 – جورج وسّوف رفض حفلة في مصر لأنها كانت مقدّمة للأثرياء وقال: “أنا عايز سواقين التاكسي هما اللي يسمعوني“.

7- جورج وسّوف مات.

وبغض النظر عن كون أي من هذه الأقوال صحيحاً أو غير صحيح أو يحمل بعض المبالغة أو التصحيح أو الخيال، أو كونه متناقضاً إلا ان الحقيقة لا تهمنّا بقدر تأثيرها وتلقّي الجمهور لها. وقع هذه الحقائق على الجمهور أو سبب انتشاره في المقام الأول.

فتجد مثلا الجدل المثار عن إن كان جورج وسوف قد أشهر اسلامه أم لا. ولسبب ما أشعر باختلاف في هذه الحالة عن باقي الشائعات على نفس الشاكلة. فهذه الشائعة ليست بغرض التسويق الإسلامي، فعلى عكس باقي الشائعات التي تجاهر بإسلام شخصيات معروفة كـسنوب دوغأو مايكل جاكسون أو ملكة جمال البرازيل، هنا الدافع يختلف. فالشائعة ليست خبيثة بقدر ما هي محاولة لإرجاع الأمور إلى نصابها. فصوت عربي مثل هذا، من القلائل الذين يغنون الموسيقى العربيّة، لا بد أن يكون مسلماً، ولا بد أن ترتبط إبداعاته بتأثر من الموروث الاسلامي والإانشاد الديني. هي، إذاً، إشاعة ناتجة عن حبّه وتقديره ومن ثم محاولة ربطه بالثقافة العربيّة الإسلاميّة بشكل أعمق، ومحاولة إيجاد نقط التقاء بينه وبين المستمع العربي غير الرابط الجغرافي، ليمتد إلى رابط عقائدي وإيماني أعمق. لا تحاول الشائعة من وجهة نظر إسلاميّة أسلمة المشاهير لإثبات رفعة الإسلام والتسويق له كمشروع سياحي.

الفصيل الآخر هو فصيل متدين أيضاً، ولكنه أكثر شموليّة، فبعض المسلمين – بحاسة محبّة أيضاً – يحترمون المسيحيّة ولا يجدون فيها عيباً ولن يتعففوا عن سماع جورج لمجرد أنّه مسيحي، بل إن هناك اعتقاد شائع في مصر ومناقض للحس الإسلامي البادي، والذي يرى أن تغيير الدين عموماً – حتى إذا كان من المسيحيّة الى الإسلام – لهو قلة أصل، ولا ينتج سوى عن شخص غير مبالٍ بأهله وبمعتقداتهم المتوارثة. وهو ما لن يقبلوه على مطربهم المفضل. لذا وبغير دليل أيضاً يقاوم هذا الفصيل شائعة إسلامه دون دلائل قوية، وان كان كلاهما معقولاً وقابلاً للتصديق. وقد ظل حارس المنزل المسلم يؤكّد لي مستنكرا باستمامتة أن جورج لن يفعل شيئاً مثل هذا – وكأنه جرم – لأنه بار بوالديه ومخلص جداً لأهله وأصدقائه وبلده، وأن تغيير الدين قد يهدم كل هذا، حتى إذا كان انتقاله للدين الأصح من وجهة نظره. يزيد على هذا موضحاً أنه بإعجابه بجورج وسوف، وفكرة أن مطربه المفضل مسيحي، تؤكد لديه ليس فقط نزاهته واتساع ذائقته، بل وتسامحه الديني أيضاً.

أما عن قصة أن جورج وسوف زملكاوي، فهي وإن كانت حقيقيّة، فأن سبب انتشارها وتداولها، هو محاولة للتجويد في قصة جورج بإضافة خط دامي وهو خط ال outcast “غير اللائق اجتماعيّاً“. فدائماً ما يتفاخر مشجعو نادي الزمالك بأنهم لا يشكّلون ثقافة سائدة، ولا يشجعون فريقا فقط لأنه يكسب، ولا يهللون للفائز لمجرد أنّه فاز في إحدى الجولات، بل يظلوا رغم كل الصعاب متمسكين بانتمائهم المنزّه عن أي أغراض أو مكتسبات مباشرة ومضمونة. وبالطبع فإن المروّج لشائعة مثل هذه هو بالتأكيد زملكاوي. ولكن الإشاعة انتشرت بين الكثيرين من زملكاوية وغيرهم نتيجة لاقتران صورة الزملكاوي بتلك المبادئ المحبّبة والقابلة للتصديق . فهي تضيف إلى الأسطورة بعض الواقعية وتجعل من المستمع – وان لم يكن زملكاويّاً، منزهّاً بدوره من أي أهواء أو مكتسبات من سماعه لجورج وسوف، ويجعل من نجمه المحبب Outcast “غير لائق اجتماعيّاً“. وهو يحبه على أي حال حتى لو لم يكن الأغنى والأكثر انتشارا، مما يترك لديه شعوراً بالرضى عن نفسه.

أما عن قصص شرب الخمور والمخدرات فهذه أرجّح تداولها لسببين، فهي أيضا لم تنتشر بغرض خبيث، وأريد التذكير مرة أخرى أنني لا أناقش الشائعة من حيث صحتها أو خطأها وانما أسباب انتشارها وقبولها. علاقة جورج وسوف بالمخدرات علاقة وثيقة، لا يأتي ذكره إلا ويتندر المستمعون بقصصه مع الحشيش أو الخمر بل والبودرة (الكوكايين تحديداً)، وقد يكون جورج لا يشرب المخدرات من الأصل– وإن كان الأمر مستبعداً – ومن الممكن أن تكون المطربة صباح بتشم كولّة أو أي مغني آخر يتعاطى أي نوع من المخدرات، ولكن لا تقترن سيرتهم ولا سيرة مستمعيهم بنفس قدر العلاقة الوثيقة التي تربط جورج وسوف ومستمعيه بالمخدرات. – فأحيانا حينما تصرح بأنك تستمع الى جورج وسوف يؤخذ تصريحك كأنك قلت أنك حشاش بما لا يدع مجالا للشك. وأرجع ذلك لأن المخدرات عموماً في اللاوعي الجمعي ترتبط بمفهومين إيجابيين مناسبين لوصف أعمال جورج تحديدا:

أولهما وهو قديم، مرتبط بالخمر. هو عبارة مجموعة من القيم مرتبطة بالاحتفاء بالحياة وتأملها في آن. فلا ننسى أن أقدم المجتمعات الإسلاميّة كانت تتقبل فكرة شرب الخمر بالرغم من تعارضها مع مبادئ الدين. نجد هذا متمثلا في شعر الخمريات، والذي غالباً ما ينطوي على تأملات مغايرة للحياة، دون أن يقترن هذا بالكفر بالضرورة. كمثل أشعار عمر الخيام والتي ترجمها أحمد رامي، الذي غنت له أم كلثوم ويدرس شعره في المناهج المدرسيّة، أي انه مقبول ضمن المنظومة الاجتماعيّة ومتفق على قيمته الأدبيّة والفنيّة.

يا تارك الخمر لماذا تلوم
دعني الى ربي الغفور الرحيم
ولا تفاخرني بهجر الطلى
فأنت جانِ في سواها أثيم

لم أشرب الخمر ابتغاء الطرب
ولا دعتني قلة في الأدب
لكن إحساسي نزاعا إلى
إطلاق نفسي كان كل السبب

يا مدعي الزهد أنا أكرم
منك وعقلي ثملا أحكم
تستنزف الخلق وما أستقي
إلا دم الكرم فمن آثم؟

ويقابلها في قصة جورج، تمثيله لهذا النموذج المقبول اجتماعيّاً، وتغنيه المتمحور حول الحب والهجر وانغماسه دنيويّاً في هذه المشاعر دون غيرها. وممارسته للحياة وتقديره للمتعة الحسيّة وما كان يتغنى به شعراء الخمر. فهو على حد قوله يقول وإن قالوا مرة إن الهوى، الهوى بقى ذنبنا، يبقى إحنا عيشنا عمرنا كله ذنوب“.

ثانياً: هي المفاهيم المقترنة بالمخدّر عموماً، وهي مفاهيم حديثة نسبياً، وترتبط بالتغريب والتطوّر والتجديد أو الاختلاف بمفهومه الإيجابي، وذلك نتيجة لبعد المجتمع نسبيّاً عن تجربة المخدرات – مقارنة بالخمر. لذا تجده الفرد يصف أي شيء لا يفهمه، بأن صانعه بالتأكيد في حالة غير طبيعية من الانتشاء بتأثير مخدر ما هو الراجل ده ضارب إيه؟والتي تقال عندما ينبهر المستمع بعمل ما من دون أن يستطيع تحديد مصدر إلهامه أو كيفيّة حصول صانعه على الفكرة لغرابتها وتطوّرها وتجديدها. والتعجب والانبهار غير مرتبطين بالموسيقى أو الكلمات التي يغنيها جورج، لأنها ليست غريبة او متطورة على الإطلاق، ولكنّه إعجاب بشخص جورج ذاته. ينتج هذا التعجب في معظم الأحيان من تأثر جورج الشديد بما يغنيه، والمتمثل بطريقه غنائه أو في تعبيرات وجهه.

مروراً بقصة رفضه لتقديم حفل في مصر ليس لشيء إلا أن كل العروض التي قدمت له جاءت بصيغة تقتصر على نوع معين من المستمعين، وبتطلعات ماديّة كبيرة لم تتوافق مع رغبة جورج في أن يكون جمهوره من العامة. فهو لا يريد إقامة حفلات بتذاكر غالية على الشريحة الأعرض من جمهوره: سواقي التاكسي، كمثال لطبقة مستمعيه الاجتماعيّة، فهنا نجده بطلاً شيوعيّاً، لا يكترث بالربح المادي ولا يكيل فنه بالباذنجان.

وتكلل أخيراً الشائعات بتلك المعلومة التي تتردد كل عامين أو ثلاثة بوفاة الفنان جورج وسوف لتجعل منه بطلاً دراميّاً حقيقيّاً بالنهاية الإغريقيّة. وتقربه إلى الأسطورة منه إلى مجرد شخص حي يأكل ويشرب ويتنفس. ولتكتمل الدراما الضروريّة للتأثر ببسيط كلماته إلى غايتها، الآمرة باتخاذ الحب دون غيره منهجاً واهتماماً. وليسموا مهووسيه على ألحانه الدائريّة كدراويش الموايليّة وهم يتعبدون راقصين، غارقين بالتأثر من كلماته التي سوف تصطبغ بلا شك حينها بمعاني كونيّة، مرددين دور عالقلوب يا حب دور وافرش ظلام الدنيا نور. وتعالى عندي وشوف ما عندي. تلاقيني حواليا، حواليا، بلف وأدور، عالقلوب“.*



لا يعنيني في هذه الدراسة نقد أعمال وسّوف الموسيقيّة عموماً، ولا أحاول إقناع أحد بجودة فنّه أو عدمه ولا أنا بصدد مشروع ترويجي. وبأي حال لا أحب تبجيل أي مقدسات وهمية أو صنع أصنام جديدة. ما سبق فقط هو إعادة استنباط وترجمة للتاريخ المروي عن وسّوف، متضمنّاً التحريف الانطباعي الذي يلحق بسيرته، ومحاولة فهم الصورة المنعكسة لدى المجتمع من شخصه بمنأى عن صحة أو خطأ حقائق وجوده الفعلي. فجورج ظاهرة ضروريّة تكوّنت نتيجة لحاجة ماسّة لتمثيل بعض القيم والحقائق المفقودة. وبتجميع هذه القصاصات الحقيقيّة أو الخياليّة، ينتج عنها صورة متكاملة لأسطورة توحّد الغني والفقير، والمسلم والمسيحي وغير المؤمن، الخفيف والعميق، الفاجر والداعر والزاهد والمتأمل، الأهلاوي والزملكاوي، المصري واللبناني والسوري، القديم والحديث. كما يليق بدين جديد أن يفعل.