ريمكس حمزة نمرة واستعمار الموسيقى الشعبية

منذ أسبوعين، انطلق برنامج موسيقي للفنان حمزة نمرة أسماه ريميكس، يقوم فيه بإعادة توزيع أغان تراثية معروفة. انتشر فيديو الحلقة الأولى انتشاراً كبيراً، لكنه لم يستثر فضولي  لأن موقفي حازم من موسيقى المزج  نشرنا مقال خاص عن نقد موسيقى المزج وإشكاليتها التي أصبحت شائعة يقتات عليها كل من أعوزه الإلهام أو افتقده بالمرة. ما استفز فضولي هو اختيار حمزة نمرة أغنية مغربية كأولى ضحاياه، وهي أغنية إناس إناس (احكوا له) للراحل محمد رويشة.

هذه أغنية مغربية شعبية بامتياز تصدح بها الأسواق الأسبوعية وسماعات باعة الأشرطة ويرددها المغاربة كلهم سواء المتحدثين منهم بالأمازيغية أو بالعربية. هي ليست مجرد نجاح جماهيري عابر يختفي من السوق ومن الأذهان بمجرد ظهور ما يفوقه تمويلاً وتسويقا. كما أن الأمازيغ من مغاربة الأطلس المتوسط تربطهم صلة وجدانية وهوياتية بأغان رويشة، إذ تعد من أهم حوامل وجودهم الثقافي. كان الراحل رويشة من الفنانين القلائل المتحدثين بالأمازيغية، بل قد يكون الوحيد الذي غنى بالعربية وبالأمازيغية معاً. بالتالي نجد المغاربة يغنونه دون اعتبار للاختلاف اللساني، لكن وحدهم أمازيغ الأطلس المتوسط يفهمون قصائده وصورها الشعرية. إناس إناس هي الأغنية التي انتشرت سريعاً عقب وفاة رويشة وشكلت ترسانة مقاومة المغاربة للمد الطافح بالرداءة.

يجدر بنا هنا توضيح أمر هام: إن التعرض بالنقد للبرنامج واتخاذ الحلقة الاولى نموذجاً لهذا النقد لم يأت من شوفينية ضيقة أو تعصب للأغنية المغربية. المقال نقد لمفهوم البرنامج بأكمله، لذلك انتظرت الحلقة الثانية للشروع في كتابته وهي الحلقة التي أكدت الأفكار التي وصلت إليها من الاستماع للحلقة الأولى.

بدأ نمرة البرنامج بمقدمة يتحدث فيها عن سحر الغرابة أو exotism أغاني الفلكلور التي سيعيد برنامجه تدويرها وتوطينها (حسب تعبيره هو نفسه) لتلقى قبولاً لدى المستمع العالمي، أو لنقل بصراحة الغربي. اعتبرها نمرة حدوثة أو موضوعاً “اتحكى” من شخص لشخص، ثم كتبت كلمة على كلمة (مع شوية دندنة) فغناها الناس حتى نسوا أصلها فصارت فلكلوراً. يتابع النمرة ليشرح كيف قرر أن يتبع مسار هذه الألحان ويجمعها ويعرف أصلها ثم يعيد توزيعها ويغنيها مع فرق موسيقية من كل بقاع العالم ليرى ماذا ستنتج. يقول النمرة إن كل ذلك نابع من إيمانه بعالمية ألحاننا وأنها لا تحتاج إلا إلى الموسيقى بدليل العبارة التي يختتم بها مقدمته: “يالله بنا نديها مازيكا.”

هذا كله يعني أن النمرة يتحدث عن الفن الشعبي أو ما أسماه فلكلوراً حسب ما استلهمه من عوالم الاستشراق ومفاهيمه، فاعتبر هذه الأغان حكاية مشاع لا يُعلم لها أصل، تنتقل شفوياً بين الناس دون اعتبار لهوية المبدع، وبالتالي صارت فلكلوراً. فجاء هو ليذكرنا هنا بعبء الرجل الأبيض ليضيف الموسيقى (وهي كل ما ينقص في هذه الأغاني حسب مقدمته) ويعطي هذه الأغاني صفة العالمية.

مر نمرة في هذه المقدمة ببساطة ولا-وعي على تركيز بالغ الكثافة من المواضيع المستسهلة، من جهة، وعبّر من جهة أخرى على كم من الأحكام المسبقة المستأسدة في الخطاب التي تذكرنا بالنبرة الغرائبية exoticism لرواد الوظيفة التنويرية الحضارية للامبراطوريات الاستعمارية والتي تجعل سؤالاً يطرح بإلحاح: هل هي النزعة الاستغرابية (نقيض الاستشراق) التي تميز نظرة الشرقيين إلى المغرب فتجعلهم ينظرون إليه كما نظر الغرب إلى الشرق عامة، “كفضاء ثقافي غريب وغير ودي وعتيق، حيث يستطيع الشرقيون أن يظهروا بعض القوة؟ معارضة لجملة إدوارد سعيد في كتابه 'الثقافة والامبريالية' (ص. ١٣٤ في النص الانجليزي) في سياق حديثه عن أوبرا عايدة ومكانتها وأدوارها في الثقافة الأوربية والتي منها « one of which is to confirm the Orient as an essentially exotic, distant and antique place which Europeans can mount certain shows of forc هل كان نمرة يتحدث بهذه الخلفية كشرقي يكتشف الغريب المغربي أول مرة؟ وهل ما يقوم به فعلا موسيقى شرقية؟ وإلى أي حد ما زالت الحدود قائمة بين المدارس الموسيقية بهذا الشكل الصارم، ومتى كانت كذلك أصلا؟ أم أنه يتحدث كإبن الثقافة الغربية ووريث الهموم المتسلطة للنزعة الامبريالية؟

فيما يلي سنستخرج من مقدمته ومن الخطاب الذي استخدمه طيلة الحلقة وأعاد التأكيد عليه في الحلقة الثانية أربعة محاور يدور حولها هذا الخطاب، والتي هي صلب الإشكالية التي نرصدها.

السحر

تساءل معد البرنامج حول سر السحر الذي يوجد في أغنية اناس اناس، كما استغرب من شهرة رويشة في مدينة خنيفرة بحيث أن القاصي والداني يدلونك على بيته دون أي شعور بتمايز بين الوسط الشعبي والفنان. السحر نوعان: إذا كان يقصد نمرة السحر بمعناه الاستشراقي، أي أنها منظومة مغلقة تتجاوز حدود إدراك الإنسان المتحضر لأنها غير عقلانية، فالأغاني أو الفنون الشعبية ليست ساحرة على الإطلاق لأنها نتاج بشري أبدعت في إطار مفتوح من التفاعل بين الفنان والمجتمع وتخضع لسيرورة تاريخية. أما إذا كان يقصد به السحر الذي يميز التعبير الفني عن كل أصناف التعبير في جميع الثقافات فإن هذا القرب الذي تحدث عنه هو في حد ذاته أحد مقومات سحريته. رويشة لم يغادر خنيفرة رغم أنه كان من كبار الأغنية الشعبية في المغرب في عصره وكان بإمكانه أن يختار السكن في العاصمة. عندما سُئل غابرييل غارسيا ماركيز عن سر سحر العوالم التي أبدعها بكتابته، لم يجب بأن بوصلته الفكرية موجهة نحو قبلة أخرى غير الكارايبي، ثم راح يردد الأغاني الشعبية التي يحفظها عن ظهر قلب ليقول بعد ذلك ما مفاده أنه لا يمكن أن تكون كاتبا ًإذا كنت تجهل الثقافة الشعبية لبلدك. من سيرة ماركيز الذاتية: العيش من أجل الكتابة

في كتابه بعنوان ما الفن؟، يقول تولستوي إن ابتعاد الفنان عن وسطه الاجتماعي الذي يشكل مصدر إلهامه واتجاهه، باسم الفن، إلى حياة الرفاهية، هو إفقار للفن. عندما يبتعد الفنان عن وسطه الاجتماعي، سواء كان هذا الابتعاد في الفضاء أو الحيز الجغرافي، أو الفضاء الثقافي، فهو يبتعد كذلك عن كم هائل من المواضيع التي يتحرك حولها المجتمع أو ينتجها بحركيته، كما يبتعد عن محركات هذا المجتمع، وأولها الدين. الموسيقى فن يُسمع، فكيف تكون الموسيقي فناً إذا لم تسمع فيه ابتهالات الناس وصلواتهم وتراتيلهم أيا كان دينهم؟ حسب تعبير تولستوي، فإن العمل الفني هكذا يفتقد “جمال الشكل”. عندما يصدّ الفنان وجهه عن عامة الناس فإنه يفقد تعبيره الفني العفوية والصدق ويصير خطاباً مصطنعاً وغامضاً. هذا هو سر السحر الذي يميز عدداً من موسيقيي ومغني المغرب ومجموعاته الغنائية ناس الغيوان، جيل جلالة الذين تجاوز نجاحهم الحدود الجغرافية، وهو الذي يكذب أيضاً الحكم الشائع لدى القنوات الفضائية ومنتجيها بأن اللهجات المغربية صعبة وأن الغناء بها لن يحقق انتشاراً.

الفلكلرة

استغربت كثيرا سقوط النمرة في فخ الفلكلرة منذ الحلقة الأولى، حيث أصر أكثر من مرة على وصف الاغنية بالقديمة مستعملاً في ذلك المرادف الانجليزي للكلمة التي مدد حرفها الاول طويلاً “ooold “، ليضفي عليها الطابع الغرائبي. يمكن تفسير هذا بعدم قيام معد البرنامج بالمجهود التوثيقي المطلوب أو بضعف في الثقافة الموسيقية المغربية. كما تأكد مع الحلقتين الثانية والثالثة من البرنامج أن الأمر يتجاوز عدم بحث نمرة في الأغاني التي يمزجها وأصولها كما يدعي في مقدمته، إلى إصرار على فلكلرة كل ما لا ينتمي إلى الذات (ذات النمرة أو من يسعى إلى الفلكلرة) أو خارجها ودفعه إلى الغرابة. في حلقتان متتاليتان قدم النمرة أغنيتان اعتبرهما من الفلكلور، ربما لأن لهما امتداداً شعبياً، مع الفارق أنه استدرك خطأه في الحلقة الثانية عندما صرح أنه كان يظن أن الأغنية من الفلكلور لكنه وجد أن صاحبتها مازالت على قيد الحياة! ماذا يعني حمزة نمرة بالفلكلور إذاً؟ هل الفلكلور في نظره هو كل ما فارق صاحبه الحياة، مغنياً كان أو ملحناً أو كاتباً؟ إذن من هذا المنظور، هل كل أعمال الموسيقى الكلاسيكية الغربية فلكلور؟ ألا يعرف أن هذا المصطلح قد يكتسي في الدراسات الأدبية والثقافية حمولة قدحية؟ يقول عبد الله العروي في هذا الصدد: “إن العمل الفلكلوري، أجنبياً كان أم محلياً، يستثمر ميدان اللاقيمة، الذي لا ينشأ ويتحدد إلا بالنسبة لمكان آخر هو موطن القيمة، كما أن حديقة لا تستحق أن تسمى حديقة إلا إذا جاورت بستاناً مختطاً وأبرزت ما يميزه عنها. إن ظاهرة الانتساب إلى مركز خارجي واضحة في أوجه عدة من حياتنا الثقافية.” الايديولوجيا العربية المعاصرة، ص ٢١١

الفلكلرة تنميط والفلكلور هو صورة مجمدة لثقافة قتلت أو ماتت بانفصامها عن مصادرها الحيوية فصارت تقليداً، وحسب العروي فإن الفلكلور يرث من المجتمع أسوأ ما فيه في حين “أن التعبير الفني يهدف من خلال شحذ الوعي إلى جبر النقص من خلال التعبير الفني”. ولكي نفهم المغزى يجب اتباع نصيحة عبد الله العروي وسبر “نفسانية من يتمتع بالفلكلور”. إذا كانت التعبيرات التي تتسم بالفلكلورية قد ظهرت سابقاً خلال فترة الاستعمار حيث هيأت لها الثقافة البورجوازية الجديدة آنذاك الأرضية اللازمة لظهورها من خلال إحياء الرواسب القديمة للمجتمع واسترجاعها في شكل فني يسبغ عليه شكل الأصالة في حين أنه وليد الثقافة الدخيلة، فإن مقدم البرنامج انخرط في نفس الآلية لكن مع أغان معاصرة، فهو فلكلرها ليعطيها صفة السحر والغرابة والهجانة وفصلها عنوة وعن سبق إصرار عن أصلها (يتحدث في المقدمة عن فقدان “أغاني الفلكلور للأصل”) ومنشأها وبالتالي تصبح حقاً جماعياً يمكن لأي كان أن يكتسبه لأنه “أرض خلاء لا مالك لها” جملة استخدمها الإمبرياليون لوصف أراض مأهولة تم استعمارها فيعيد تنقيحه وتجديده ليصير عالمياً. الأمر هنا يتجاوز كثيراً مسألة حقوق المؤلف (وهو جانب لا يمكن إغفاله بأي حال من الأحوال لأن الأعمال التي يتعامل معها لحد الآن مازالت لم تصبح من مجال الحقوق العامة بموجب القانون) إلى إلغاء تام للمؤلف، وهي آلية من آليات الإمبريالية الثقافية التي يتوسل بها حمزة نمرة، ربما بناء على تكوينه السابق في مجال التجارة، لأن الشارع الآن يردد التركيبات التي أنتجها البرنامج ليس بصفتها أغنية لرويشة أو لعوض أحمد ولكن بصفتها ريمكس مزج في لندن، وذلك كاف لتصير مهمة. هذا يؤكد مرة أخرى ما وصفه العروي بظاهرة الانتساب إلى مركز خارجي في الثقافة العربية وحضورها الدائم، وهو ما نلمسه في منتوج برنامج ريمكس الجديد الذي يصير حديثاً أو جديداً (طريقة أخرى لوصفه بالغربي) بمجرد أن تضاف إليه إيقاعات دخيلة (تركية وأمريكية في حالة إناس إناس).

ثم إن الفلكلور يستلزم دائماً مركزاً وهامشاً عبد الله العروي - الأيديولوجيا العربية المعاصرة. صـ ٢١٠، فإذا كنا نعرف أن الهامش في هذه الحالة هو المغرب في الحلقة الأولى والأردن أو اليمن في الثانية وفلسطين في الثالثة، فما هو المركز؟ هل هي مصر باعتبارها بلد نمرة أم الغرب باعتباره الثقافة المسيطرة؟ لماذا يطلب حمزة نمرة من المغنين دائما أن يترجموا له كلمات الأغاني ليفهمها “الناس” (مع العلم أنها بالعربية باستثناء الحلقة الأولى، ثم أنه يجد حرجا في تحديد المخاطب فيسميه “الناس”)؟ لماذا يستعمل دائما قاموساً تبسيطياً لوصف الكلمات والأغاني وعوالمها فتراه يصفها بـ “الحاجات دي”؟ ألم ترتق بعد لدرجة الموسيقى حتى تناسب مصطلحاتها؟ وإذا لم يعلم فإن الصفات التي أضفاها على الموسيقى الشعبية هي نفسها التي أضفاها الغرب الإمبريالي على الشرق وثقافاته (من اليابان إلى المغرب) بحيث تعامل معها على أنها مكون واحد وأضفى عليها من الغرابة والسحر ما يكفي لاعتبارها ثقافة طيعة وبالتالي يسهل إعادة نقلها وزرعها في أي بيئة أخرى.

يالله بينا نديها مزيكا

ينطوي الريمكس على مزاعم كثيرة لا يخفى بهتانها على السالكين في مدارك الموسيقى، أكثرها شيوعاً وسهولة في الادعاء هو التجديد أو العصرنة. هو تجديد لا يختارون له إلا سبيلاً واحداً ألا وهو إدخال آلات موسيقية على الأغنية الممزوجة غير تلك الأصلية. هو إدعاء باطل وضعيف الحجة لأن التجديد أو العصرنة أو التحديث لا يكون على وجه واحد دون غيره، كما أن حصر التجديد في استعمال آلات مختلفة هو ضرب في كنه التحديث لأنه يغلق المسار أمام التعدد. ثانيا عندما يتحدث ممارسو الريمكس بلغة العصرنة فإنهم يحصرون الموسيقى بزمن معين وهذا ضرب لجوهر الموسيقى، والتعبير الفني بصفة عامة، لأنه تعبير لا زمني دائم الصلاحية لم يؤلف ليغنى أو يعزف أو يسمع في فترة محددة ولمجتمع معين وإنما ألفت للناس عامة وحملها لعلامات ثقافة الموسيقي وتاريخه وتاريخ مجتمعه هو أكبر ضمانة لعالميتها ولاختراقها الضروري للحدود. بطبيعة الحال سنجد في كل مكان في العالم من يمزج ألحان بيتهوفن أو موزارت أو فاغنر ويقدمها في ألبوم ينسى بمجرد تسويقه، لكن جمهور المستمعين سيظل يقتني ألبومات الأوركسترات الكبرى ويحضر عروضها دون وقاحة الادعاء بتحديث المقطوعات الكلاسيكية وكأنها قطعة أثاث قديمة اشتريت من سوق المتلاشيات ويجب رتقها. ثم كيف يسوّغ هؤلاء الناس لأنفسهم تجديد أو عصرنة أو تحديث ما لم يبدعوه؟ أليس ذلك تعبير لا واعي عن عقدة الضعف تجاه إبداع مبهر؟ إن التأمل المتمعن في الريمكس أو ما يدعيه أهله تجديداً يفضي إلى الاقتناع بأنه عين التقليد لأنه يفتقر إلى أبسط مقومات الإبداع: الأصالة وقوة التعبير والخصوصية.

يحاول نمرة، بكل غرابة، وإيماناً منه بأن ذلك من الانفتاح والعولمة، تركنة كل الأغاني الفلكلورية (حتى تلك التي يوجد فيها عنصر تركي مثل الأغنية الفلسطينية التي دخلها بفعل الامتزاج الذي حصل بين العرب الفلسطينيين والأتراك إبان الحكم العثماني) لكن ألم يسأل نفسه عن سر قوة ذلك التفاعل في التاريخ بين المكونيين قبل أن يحمل هو عوده المتركَن؟

ما يجهله دعاة نبوءة الريمكس الذين يبشرون التعبيرات الشعبية “المنعزلة” بالحداثة والعالمية هو أن تاريخ الثقافة كله امتزاج ناتج عن حركية المجتمعات بين الفضاءات والأزمنة وليس مزجاً صنع بالرغم عن الإنسان، ولم يُملِه قرار سياسي أو سياسة إنتاج إعلامي أو تسويقي أو حاجة إلى التسلية. إن امتزاج الأجناس البشرية ولغاتها وثقافاتها وفنونها بعضها ببعض ميزة بشرية لا يمكن لأي كان أن يدعي السبق لها دون وقاحة وعنجهية. ليست المجتمعات المنغلقة على ذاتها والتي تقاوم هذا الامتزاج هي وحدها الآيلة للاندحار، بل حتى تلك التي تدعي أنها تقود غيرها أو الإنسانية جمعاء نحو المستقبل من خلال إرغامها على الامتزاج ضداً على حركية الزمان.

الازدراع أو الغرس

لم يكن نمرة محقا وصادقا في شيء مثلما كان عندما تحدث لا وعيه بمصطلح الازدراع Implantation التجاري المحض، والذي يشير إلى التقنية التي ابتدعتها الشركات الكبرى من خلال إعادة توطين شركاتها في مناطق جديدة لتخفيض الكلفة الاستثمارية ومضاعفة الأرباح، قاصدا به العملية الجراحية التي يجريها على ضحاياه من الأغاني التي يفلكلرها والتي يعيد زرعها في وسط الريغي أو غيره بقليل من البزارات التركية، ويا ليته فهم احتجاج عازف الأورغ في الحلقة الأولى الذي امتنع عن الضرب على آلته بمجرد سماع النوتات الأولى وقال:”I’m not hearing Reggae though“!

ألم يسأل نفسه كيف غنى الجمهور العربي مع الرحابنة ومحمد عبد الوهاب وغيرهما ميندلسون وبتهوفن وموزارت وغيرهم وكأنهم من الموسيقى العربية دون إحساس بسطوة عنصر على آخر أو بالدونية بل ودون حتى أن يدعي أحد هؤلاء أنه بذلك يكون رفع الموسيقى العربية إلى العالمية لأنه أدخل عليها عنصراً غربياً.

هل هو فن؟

صحيح أن ما أنتجه نمرة بعد عملية الازدراع التي يجريها على إبداعات شعبية وازنة في ثقافاتها تسير به ركبان اللايك و الشاير share في الفايسبوك وغيره، لكن كل حلقة تُنسى بمجرد بث الحلقة التي تليها وهكذا دواليك حتى آخر حلقة. إذا كان ما يفعله هو مجرد عملية إنتاجية بناء على تعاقد مع القناة أو الجهة المكلفة بالإنتاج تنتهي بتنفيذ كل طرف لما تعهد به فلن يضر ذلك حمزة نمرة في شيء لأنه سيخرج من قاعة العمليات عندما يقبض آخر أجر. أما إذا كان ينتج ما ينتج من منطلق كونه فناناً فإن نسيان هذه المنتجات الازدراعية يفترض به أن يقض مضجعه، لأن الفن وجد لمقاومة النسيان وهو وسيلة البشر للخلود، ولا يستحق الفنان وفنه صفتهما إذا طواهما النسيان.