رق الحبيب | مشاوير السمع والسماع

ربما لولا أم كلثوم ما كنت اﻵن، بسببها حاولتُ تعلم الموسيقى أثناء دراستي الثانوية وفشلت المحاولة، وبسببها حملت عودًا للمرة اﻷولى في حياتي بعد أن تجاوزت الثلاثين، بسببها حفظت المقامات سماعيًا وامتلأت من نعمة الطرب، سيتفق الكثيرون على دور فاطمة إبراهيم البلتاجي المولودة في أواخر ديسمبر ١٨٩٨ في التاريخ المصري المعاصر، لكني وحدي أنا أعرف أنها سر وجود كاتب السطور بذاته الحالية.

في البدء لم يكن هناك راديو في المنزل، تعطلت إحدى مقاومات دائرة استقبال الكاسيت الناشونال ذي اللمبات الحمراء في الربيع السابق على دخولي المدرسة الثانوية وانشغلنا عن تصليحه بامتحانات الشهادة الإعدادية ومرض والدي بالمياه البيضاء في عينه اليسرى التي سيفقد البصر بها لاحقًا بعد عملية جراحية فاشلة في العام التالي، وكنتُ مستغرقًا في حضور دروس العلم الشرعي والاستماع ﻷشرطة نصر الدين اﻷلباني ومقبل الوادعي، لم يكن المسار لينبئ أبدًا بما تم بعده، حدث ذلك فجأة كأنما بعصا ساحر، في الشهر اﻷول من دراستي الثانوية في خريف ١٩٩٦ توقفت عن حضور الدروس الشرعية وفي الشهر الثاني توقفت عن الاستماع للأشرطة واستمعت لصوت أم كلثوم.

في فوران المراهقة يعيد الإنسان اكتشاف حصيلته السابقة المختزنة منذ الطفولة، كنت ﻻ أستمع بانتباه ﻷم كلثوم رغم مواظبة ستي على الاستماع اليومي لحفلتها في تمام الخامسة من إذاعة أم كلثوم ورغم حفظي لجملة هل رأى الحب سيجارة حسبما التقطتها مسامعي الطفولية أثناء استماع والدتي لها ذات مرة، طوال اﻷربعة عشر عامًا اﻷولى من حياتي لم أستمع سوى مرة واحدة ﻷم كلثوم بانتباه، حين كان والدي يدندن معها “إن مر يوم من غير رؤياك ما ينحسبش من عمري”، لم أكتشفها سوى في مراهقتي أثناء رحلتي لشراء طعام الإفطار لليوم التالي، كانت حفلتها المسائية تبدأ في تمام التاسعة أو في الثامنة والنصف لو كان التسجيل لإحدى الحفلات الطويلة، كنت أسمعها في كل خطوة على الطريق من منزلي حتى بقالة الحاج محمود الشامي، في مسيرة تستمر حوالي نصف الساعة كان صوتها ينبعث من كل راديو ولم أكن أرى أي راديو فكنت أحسب أن صوتها ينبعث من جدران المنازل نفسها.

لم أكن أملك راديو في ذلك الوقت، فكنت أطيل المشوار إذا أردت إكمال اﻷغنية، أذكر متى أطلت مشواري بالتسكع على طول شارع هارون الرشيد في مصر الجديدة حتى نهاية الحفلة، ليلتئذ كانت تُطربني ب “ياما حليت لك آهات قلبي وهي من قساوتك إنت واﻷيام عليا”، مراهقًا كنت ﻻ أعرف كرد النهاوند من كرد الحجاز وﻻ أعرف القسوة من الحنية، لكني شعرت بمس غريب، شيطاني أو ملائكي لست أدري، كانت آهات قلبي الصادرة من صوتها تزرعني عند حملة عرش الرحمن ثم ترزعني أرضًا دونما إبطاء في سرعة السقوط.

في أول النصف الثاني من العام الدراسي انتهزت فرصة نجاحي وطلبت من والدي راديو ترانزستور، وفي غضون أسابيع حفظت خريطة البرامج على إذاعة البرنامج الموسيقي ومواعيد إذاعة أم كلثوم، تذكرت في تلك اﻷيام أن والدي حكى لي سابقًا كيف كانوا يبدؤون وردية المساء في الورشة التي كان يعمل بها الساعة الخامسة مع حفلتها ويختمونها في تمام التاسعة مع حفلتها الثانية،  وأن إذاعة أم كلثوم هي الإذاعة الاحتياطية لمصر في حالة قصف مبنى الإذاعة من دولة معادية ومقرها خاضع للحرس الجمهوري وتعمل تلك الساعات فقط للحفاظ على الموجة، كانت تلك الإذاعة من الزمن السابق في كل شيء حتى في سبب عملها، في أيام الدراسة الثانوية لم أسمع سوى أغاني الستينات، وتعلمت كيف أفرق بين اﻷغاني بمجرد الاستماع إلى المقدمة، أحببت سيرة الحب التي ﻻ أقدرها كثيرًا اﻵن، وكل ليلة وكل يوم التي اكتشفت حفلات أروع لها منها، وإنت عمري التي ﻻ أعتبرها اﻵن سوى مجرد مقدمة وخاتمة وحشو قطع ملصقة دون نظام، وأغاني السنباطي التي ظلت على حالها، حصيلتي الشخصية أثناء اﻻستماع إلى إذاعة الست لم تكن سوى عقد واحد من حياتها، وغاب عنها القصبجي وزكريا أحمد وصبري النجريدي وأبو العلا محمد تمامًا.

كان عامي الجامعي اﻷول في خريف ١٩٩٩، عام الاكتشافات، تحول انتقالي من الدراسة الثانوية إلى الدراسة الجامعية إلى انتقال من مدينة ﻷخرى، من الضاحية الشرقية الراقية نسبيًا في العاصمة للجانب الشرقي من محافظة سوهاج المنسية في الصعيد، ومع اكتشاف الصعيد اكتشفت أغانيَ أخرى ﻷم كلثوم في الجيتو الطلابي المسمى بالمدينة الجامعية، كانت بعيد عنك هي الملكة على تاج الدور الثالث في المدينة الجامعية، وفي القاهرة كان والدي يبكي عند الاستماع لها لعدم اعتياده على فراق ابنه اﻷصغر، تعلمت مع بعيد عنك التفرقة بين الحفلات، شريط حفلة دمشق الأصفر الذي تقدمه بصوتها[i]، وحفلة تونس الذي اضطررنا لفك جزء من بكرة شريط الكاسيت سعة ٩٠ دقيقة ولحم كمالة أخرى بالمانيكير ليتسع لدقائقها المئة.

 كان رمضان عامي الجامعي اﻷول هو اﻷطول على اﻷطلاق، يحلو للبعض السخرية بقولهم بدأ رمضان في القرن العشرين (١٩٩٩) وانتهى في القرن الحادي والعشرين (٢٠٠٠) غافلين أنه بدأ في ألفية وانتهى في أخرى، في ذلك الوقت أذاع التلفزيون المصري مسلسل أم كلثوم، كنت قد غادرت المدينة الجامعية للمذاكرة في منزل أحد أصدقائي في غرب سوهاج في حي يشابه إلى حد ما ضاحية مصر الجديدة التي تربيتُ بها، أثناء الامتحانات كنا نختلس رؤية بعض مشاهد المسلسلات الرمضانية عبر تلفاز قديم يعمل بالصمامات، كنا نشغله ثم نذهب لعمل القهوة حتى تسخن صماماته وتظهر صورته، كان مسلسل أم كلثوم أحد المسلسلات المفضلة لنا، رغم كوميدية تمثيل صابرين للدور التي لاحظتها للوهلة اﻷولى ورغم أخطاء المسلسل التاريخية التي عرفتها فيما بعد، كانت الحصيلة المنسية التي ﻻ تذاع في إذاعة أم كلثوم ويُذكَر أسماؤها في أحداث المسلسل هي الغنيمة الحقيقية حتى لو عرفنا اﻷسماء فقط ولم نستمع لها، في إحدى ليالي ذلك الشتاء استمعت لرق الحبيب أول مرة بصوت عمار الشريعي على عوده، رغم سذاجة تمثيل صابرين وأحمد راتب مستني رعشة  كهربية لم أشفَ منها إلى اﻵن.

كانت رق الحبيب هي عتبة عبوري من السميع بالصدفة إلى حالة الدرويش الملازم للمقام، انتظرت نهاية امتحانات النصف اﻷول من العام للسفر إلى القاهرة والسؤال عن الشريط، سألني بائع اﻷشرطة في فرع صوت القاهرة في ميدان عرابي بوسط المدينة باستغراب “إنت عندك كام سنة؟” حين سألته عن رق الحبيب وشريط أغاني سيد درويش. انتظرت عامًا كاملًا حتى أستمع لها كاملة، لم أحبها من أول مرة، خاب ظني مثل عاشق عجول ينتظر جمالًا براقًا في وجه محبوبته وهو غير مدرك لجمالها الداخلي المبهر، كانت إذاعة اﻷغاني في عامها اﻷول في ٢٠٠١ وأذاعت حفلة النادي اﻷهلي سبتمبر ١٩٤٤ التي أصبحت شهيرة جدًا اﻵن، لم أحب رق الحبيب مباشرة لكني أحببت أنا في انتظارك وحبيبي يسعد أوقاته، ووقف قلبي عند وقفها الجائز في “جعلت في القلب مكانه بس لو يكفيه”.

إذاعة اﻷغاني كانت هي الفاتحة التي معها انتقلت من الاكتفاء بالستينات إلى الاستماع إلى بعض يسير من الحصيلة اﻷقدم، كانت راديوهات محافظة سوهاج تلتقطها بوضوح على عكس إذاعة أم كلثوم المقتصرة على القاهرة الكبرى، في سوهاج انتقل موعد الحفلة من الخامسة مساءً إلى السادسة مساءً موعد حفل إذاعة أورشليم القدس التي كانت تُلتقط بوضوح في الصعيد لسبب لم أفهمه، وعندما أنهيتُ دراستي الجامعية وعدتُ إلى القاهرة كان الموعد قد تغير بفعل فاعلين، روتانا زمان التي نقلت الحفلة إلى العاشرة مساءً مكتفية بحصيلة ﻻ تتعدى أصابع اليدين والقدمين، وإذاعة اﻷغاني التي قدمت وصلة في الثالثة عصرًا من الحصيلة القديمة من اﻷغاني القصيرة ووصلة طويلة في الحادية عشرة مساءً من اﻷغاني اﻷطول.

بالصدفة اكتشفتُ تسجيلات العشرينات، عبر موقع سواري الذي كنتُ أداوم على زيارته للاستماع إلى الشيخ إمام عيسى، فتنتُ بمالي فتنت وقل للبخيلة وأراك عصي الدمع شيمتك الصبر بلحن الحامولي، واكتشفت هو صحيح الهوى غلاب بصوت الشيخ إمام قبل سماعها من الست، معها عرفت معنى مقام الصبا، ومع حصيلة العشرينات عدت مرة أخرى ﻷحب أغاني لم أحبها من المرة اﻷولى مثل رق الحبيب.

تعتمد رق الحبيب على بنية هندسية صعب إدراكها على مستمع معتاد على أغانٍ ذات إيقاع موحد، منذ المقدمة والسؤال والجواب المتكرر في اللحن يفضح القصبجي خطته في بنية المقاطع على أساس التوافيق ما بين المرسل والموقع، مقطع رق الحبيب يبدأ مرسلًا ويختم موقعًا، أما من كتر شوقي فيبدأ موقعًا ويختم مرسلًا، وطلع عليا النهار مرسلًا فموقعًا فجسرًا من الفالس عند هجرت كل خليل ليا للانتقال إلى لما قرب ميعاد حبيبي المرسل بداية والموقع ختامًا، حتى تنتهي اﻷغنية بإرسال كامل عند لما خطر دا على فكري، من المؤسف أن يوصف هذا اللحن ذو البنية المعقدة بالفاشل في مقال على الإنترنت كتبه إما جاهل وإما جهول.

مع ثورة الإنترنت واليوتيوب انتقل السماع من العام إلى الخاص، ومن الخاص إلى التخصص فصار المستمع يبحث عن حفلة بعينها. بوصفي مستمعًا بدأ رحلة الاستماع من حالة الندرة وعبر الطريق وصولًا إلى زمن الوفرة، لم أكن أتخيل أن أمتلك أكثر من تسجيل لرق الحبيب التي ذهبت للبحث عنها ذات يوم وأنا ابن ١٧ عامًا. توفرت اﻵن تسجيلات عديدة للأغنية الواحدة، أصبحت كلمة تفاريد من المفردات العامة لمستخدمي الإنترنت العرب حتى لو أسيء فهمها، غاب السماع الجماعي رغم كل ذلك، وأصبح السامعين كثرة كغثاء السيل، وصار السميعة كحبة اﻷلماس في رمل شاطئ البحر.

[i]على رغم شهرة شريط حفلة دمشق الذائعة لم تغنِ أم كلثوم بعيد عنك في دمشق في أي حفلة مسجلة، كان الشريط  مضروبًا ببساطة ناتج عن مزج أحد منتجي السوق السوداء للكاسيت تقدمة اﻷسطوانة بصوتها مع مقاطع من حفلات أخرى.