.
قبل الإنترنت، لم يكن لدي وأصدقائي من مراهقي التسعينات الكثير من الخيارات لمتابعة عالم الموسيقى. كنا نلجأ لأصدقاءٍ أكبر منّا سنًّا، فيحدّثونا عن البيتلز والرولينج ستونز وبينك فلويد. كانت معرفتهم بالموسيقى مبنية على بعض أساطير نجوم ماضي الروك وكاسيت مهترئ لألبوم ذ وول The Wall | Pink Floyd، ذاك الجدار الذي لم يخرج منه رأس العديد. الأكثر حظًّا منا كان على تواصل مع أصدقاء يأتون من خارج البلاد مع كاسيتات لفرقٍ جديدة مثل نيرفانا وميتاليكا وبعض مجلّات الروك. يمكن القول إنّه كان بيننا وبين الموسيقى مسافتين، أولى زمنيّة في نوستالجيا لروك الماضي، وأخرى مكانيّة في اغترابٍ للروك الحديث الذي بدا لنا بعيدًا عن واقعنا الرديء. بين اشتياقٍ لزمنٍ لم نعشه وتعلّق بحاضر لا نفقهه، جاءت إم تي في، دخلت إلى غرفنا وفتحت لنا بابًا على الحاضر، وجعلتنا أبناء عصرنا.
صيف ١٩٩٥ و إم تي في يوروب MTV EUROPE لا تغيب عن التلفاز. في ذاك الصيف، دخلت إلى حياتي أغنية كانتري هاوس لـ بلور.
“هو يقرأ بالزاك، يخبط بروزاك.“ he's reading balzac knocking back prozac
لم أكن مستعدًّا يومها لأن أسمع اسم فرانسوا بالزاك في أغنية بوب. لم يكن هنالك خانة في رأسي لمؤلّفي روك وبوب يقرؤون الأدب الكلاسيكي – أو يقرؤون في المطلق. أثارت تلك الجملةً حشريتي كطفحٍ جلديّ ما زلت أحكه حتى اليوم. منذ ذلك الوقت والبحث والحكّ ما زالا جارِيَيْن عن هؤلاء الذين يحملون في كلماتهم وألحانهم ثقل فنونٍ أخرى، فيؤلّفون موسيقى بوب وروك وهم تحت تأثير الفنون التشكيليّة، الأدب والفلسفة، السينما، السياسة والفكر. علمت بعد وقتٍ أن ما اكتشفته يومها ُيعرف بالآرت بوب وأنّ فروعه طالت الروك ثمّ البانك.
مضى أكثر من عشرين سنة على تلك اللحظة، ولديّ الآن في مخيّلتي مساحة مفرغة لهم. أحب أن أتصورها حديقة مليئةً بتماثيل لـ رولاند إس هاورد، باتي سميث، جون ماوس، بي جي هارفي وغيرهم. بعيدًا، في أفق الحديقة، تمثالٌ ماردٌ لـ سكوت والكر، الأب الروحي للتجريب في البوب روك. يتوسّط هذا الفردوس المتخيّل تمثال دايفد بووي – الأكثر جمالًا طبعًا – ويختبئ في ظلّه منحوت قاتمٌ لوجهٍ شابّ، صرحٌ لذاك الذي عزف بعضًا من الألغاز وغاب سريعًا: سِد باريت، شاعر الآرت روك الملعون.
سِد باريت، أحد مؤسسي بينك فلويد، لا يحمل في رصيده سوى الألبوم الأوّل للفرقة، وأسطوانتي سولو بعد نفيه منها أثناء تسجيل ألبومهم الثاني. ظلت حالة سِد باريت جزءًا من عالم بينك فلويد في كلّ مراحل مسيرتهم. يمكن الحديث مطوّلًا عن سيرة باريت القصيرة موسيقيًّا والدور الكبير الذي لعبه طلل أفكاره على بينك فلويد وفي تطوير موسيقى جيله، لكنّي أفضّل التطرق إلى أثره على بعض الفرق الحديثة مثل أُف مونتريال وفلايمنج لِبس وطبعًا، المزيد من بلور.
لا ينكر جراهام كوكسن، أحد أعضاء بلور، دور باريت في تشكيل صوت الفرقة. فجيتار كوكسن يعيد تدوير أفكار باريت منذ أوّل إصدارات الفرقة وفي كلِّ أعمال كوكسن الفرديّة. يتحدّث كوكسن في مراجعة له لمعرض رسومات باريت عام ٢٠١١، واصفًا أعماله بـ “رسم صوتيّ.“
في ألبومهم الأجمل والأكثر انحناء للتجريب الصوتي، ١٣، يتجلّى أثر سِد باريت كصرحٍ للحب المفقود والسبايس روك Space Rock. فرع من موسيقى الروك انتشر في السبعينات في بريطانيا. من أشهر فرق السبايس روك بينك فلويد وHawkwind معًا، كما لو أن الفضاء المرسوم هو الفضاء الداخلي، فضاء قلب دايمن ألبارن Damon Albarn المفطور.
كانت كل ألبومات أُف مونتريال التي سمعتها مخيبة للآمال. بين ما تقترحه من أنغام تذكِّر بعالم السبايس الروك والسايكديليا إلى رقّة الأداء الغنائي الملطّف الذي أصبح معيار ولعنة موسيقى الإندي. هناك دائمًا أغنيتين ممتازتين أو ثلاث، تظنها عند استماعٍ أوّلي محوريّة لألبوم يطمح أن يكون شعرًا متخفّيًا داخل ألبوم سايكدلي ـ بوب. يتّضح لاحقًا أنها مجرد أغاني بوب لا بأس بها وأن صانعها ذواق له قدرة على قليل من التجديد والكثير من المعادلات القديمة والآمنة. يتشابه الألبوم والفرقة مع حالة باقي فناني الإندي-روك: ألحان وكلمات جميلة تنصاع بشكلٍ كاملٍ للماضي.
لكنّ هنالك شيءٌ في القلق الذي يدفع عضو الفرقة الرئيسي كيفن بارنز إلى إنتاج تلك الخيبات، يجعلني أتابع أعماله رغمها. قد يكون نوعًا من الأرق أو الميزانثروبيّة كره البشرية، أو بحث عما يجعله ينجلي في بعض الأغاني الصائبة كنسخة متخيّلة للمنسي سِد باريت. يُصبح بارنز لمدة بعض الكلمات والألحان بعضًا مما أتمناه لباريت، لو أنّه امتطى غيمة البوب التجريبي بصحبة دايفد بووي بدل أن تخطفه سحب الذهان وهو محاط بمجموعةٍ من الهيبيين الرديئين.
أقترح أغنيتين مضادتين تحملان قطبي موهبة بارنز، الاعتراف بالهزل أمام الحب، والمناجاة بالجريمة أمام المهزلة الإنسانيّة، هما بلاك لايون ماساكر ووي ويل كوميت وولف مردر. قد يكون طيف سِد باريت قلقًا هائمًا بينهما.
هذا الطيف الإنجليزي الأنيق، الذي قال دايفد بووي إن “مشاهدته عدّة مرّات على المسرح أقنعتني بإمكانيّة غناء البوب والروك بلكنة إنجليزية”، في وقت كانت عادة الجميع فيه ادّعاء لفظ همومهم بلكنة اليانكي، تيمنًا ببوب ديلان وجوني كاش ومادي واترز. هما الآن معًا، بووي وباريت، وراء الشمس، حيث قذف واين كوين ـ الرأس المدبّر لفرقة فلايمينج لِبس ـ كلماته في ليلةٍ، لعق فيها الأرق جفونه، منذِرًا بتدهور صحّة رائد فضاء آخر. أغنية “هل يحتضر دايفد بووي؟“ التي تحمل أثار موسيقى سِد باريت وشخصيّة بووي كندبات تخلّفها أنياب الوقت القارسة.
“لطالما أملت أن ألتقيه يومًا. ذهبنا إلى كامبريدج (حيث يعيش سِد) عدّة مرّات، وتمنّيت دومًا أن تمر سيّارتنا صدفةً بجانب منزله فيكون في الحديقة و أُلقي عليه التحية فقط. لكنّ هذا الحلم لن يتحقّق أبدًا.” قال واين كوين راثيًا باريت.
أكثر ما يجذبني إلى موسيقى فلايمنج لِبس هو ذلك الشعور الملتبس بين فقدان الذات والسيطرة الكاملة. تقف موسيقاهم على عتبة المجهول دون الانغماس فيه، كمن يضع رأسه في سائلٍ من السايكدليا دون الشرب منها، منتظرًا إخراجه لاحقًا للبوح بما رأى، ثمّ الغوص مجدّدًا. أغاني فلايمنج لِبس صدى رحلة سايكدلية، وعندما تزيد صدى على أنغام الجيتار، يظهر السبايس روك.
في هذا الذهاب والإياب، غيابٌ ثم حضورٌ لباريت، تتنقل فيه الفرقة بين ما تقترحه ذهانيّة باريت من انغماس في الفضاء الداخلي وما تعلمّه الموسيقيون من بينك فلويد في السيطرة على التركيب الموسيقي والصوتي. من الصعب ألّا يُدهشنا مشاهدة فيديو عزف فلايمنج لِبس نسختهم الخاصة من ألبوم بينك فلويد دارك سايد أُف ذَ موون، ومن الصعب ألّا يخطر لنا حين نستمع إليه أنّ جزءًا مما يقوم به الألبوم هو استحضار روح باريت ثم قذفنا إلى كوخه الصغير الذي بناه في غابةٍ مظلمة تقع على حافة العالم.
أُنهي بآخر ما رصدته من داء سِد باريت المُنْسَل في أغنية براين ووش لفرقة سوونز Suuns الكنديّة. إلقاءٌ رقيق لبضع تساؤلات عاطفية تحيطها نقرات جيتار قبل الولوج في إيقاع سينثي مضخّم.
تذكّر الأغنية بـ جاغباند بلوز، آخر عمل لباريت مع بينك فلويد، والأغنية الوحيدة من تأليفه في ألبومهم الثاني. أغنية قاتلة عن مغنٍّ يفقد القدرة على الوعي الذاتي. قاتلة، خاصةً في سياق حياة سِد الشاب وسقوط عبقريّته في الذهان.
معظم أصدقاء المراهقة أحبّوا “بينك فلويد ما بعد سِد باريت“ و“ما بعد بعد-سِد باريت“. قلّةً منهم شاركوني بُغضي لـ روجر واترز ومشاريع بناء منظومة سياسية داخل ألبومات مكوّنة من ألحان مرفّهة وسولو جيتار لا ينتهي. يبدو أنّه بالنسبة لهم، هناك الكثير من الفوضى وبعض السذاجة في مؤلّفات سِد باريت. أوليست تلك صفات الشعر؟