.
تنتمي الموسيقى بالنسبة لي إلى حقل التجارب الإيمانية. هي تجربة تصلني بالعالم من داخلي. من ذروة الفردية والذاتية في التجربة الموسيقية، تتبدد خصوصية الترتيب الموسيقي للصوت فيعود صوتاً كونياً متصلاً بكل شيء. الحميميّ لدرجة انكشافه على كل شيء، الخاص لدرجة تقاطعه مع العام كلّه. ما أعظم هذا التراكم المعرفي البشري الذي مكننا من تسجيل الصوت ونقله وبثه ومعالجته وإنتاجه وتركيبه، فيتمكن فردٌ مثلي من التعويل على موروث صوتي موسيقي شعريّ من اليابان إلى المغرب ومن باكستان إلى لندن، لبناء شعائر شخصية حيوية لتوازني، وتراكم قيم ومفاهيم ومشاعر.
هذا أنا، وهذا شيء من حقيقتي الصوتية.
https://soundcloud.com/ma3azef/ysjjcmrnnvpr
هو توفيق المنجد الدمشقي ولكنه في ذاكرتي طرابلسي لكونه مكرّساً في الذاكرة الصوتية الإسلامية للمدينة في المساجد أو في مكبرات السوق خلال شهر رمضان، وذلك مرتبط أيضاً بكثرة زياراته لطرابلس. النشيد من حفلة مشتركة مع سليمان داوود، وفيه يهيم المديح النبوي قناة لإخراج العواطف الرومنسية حيث قد يخيل للمستمع أحياناً أن المخاطب حبيب لا نبيّ فحسب.
صوت الرجل وهو ينشد ابتهالات الفجر يصدح في طرابلس كل يوم منذ عقود. بالنسبة لي هو أبرز صوت غنائي عرفته مدينتي. عساه وهو يقول هذا الابتهال الشائع وبشكل خاص بين أهل الصوفية، يصل ذروة أدائه متضرعاً في “إني قصدتك مضطراً فخُذ بيدي“، مستدعياً رحمة الله ومشهراً ضعفه إليه.
تعرفت على هذه الموسيقى من خلال عازف كلارينت غجري يوناني هستيري شاركني مع أصدقاء آخرين السكن في باريس لمدة عام ثقيل مفيد. الأغنية مأخوذة من الفيلم “رمبتيكو” للمخرج اليوناني كوستا فيراس.
الوحيدة التي تحصل على أغنيتين في لائحتي وفي استماعي اليومي، الستّ عابدة. تغنّي هنا قصيدة نستطيع ترجمة عنوانها إلى “أين الحزن في عشقي لك؟“، وتعود على الأرجح إلى حافظ الشيرازي الشاعر الفارسي الكبير من القرن الرابع عشر: “الآن وقد عزمت الرحيل إليك، سأبحث مهما حلّ بي… لا أطياف ألوان، الأسود فحسب، الرمادي والأبيض. لا أمواج تتبقى. فترى العنصر الأحمر في الأفق فحسب، مغادراً خلف الضجيج“.
مدخلي إلى عالم اللطميات السحريّ، والذي تحوّل في حياتي إلى إحدى الشعائر التي تمكنني مما أسميه “السقوط الآمن“. أي الاستسلام التام لفطرة الحزن برفقة الصوت والإيقاع الذي يضبط السقوط ويطوّع الهبوط. الرادود البحريني حسين الأكرف من ألمع الأسماء في هذا المجال وهو خير من يقود السقوط الآمن، فلا يفرط ولا يبخل.
الإنشاد بالنمط هذا مرتبط في الذاكرة الجماعية بالتيارات الجهادية أو “الثورية” عموماً في الإسلام المسيّس. ولا شك في أن هذه الأجواء جذبتني إلى حد كبير في مراحل متعددة من حياتي، فشكلت جزءاً ثابتاً في الذاكرة، أعود إليه دائماً وتتبدل دلالاته في رأسي. ينتمي هذا النشيد إلى مجموعة الدمشقي أبو مازن مؤسس هذا المذهب الإنشادي، ويغنيه هنا المصري أبو زياد. سأتوسع في مقاربة أبو مازن وهذا المجال بمجمله في مقال ينشر قريباً في معازف عن الإنشاد الإسلامي المعاصر.
لم أنمّ معرفة معمقة في الراب الأميركي إلا متأخراً. مدخلي إلى الراب كان من الراب الفرنسي. وإذا سألتني عن ألبومي المفضل في الراب الفرنسي سأجيبك حتماً بأنه Mauvais Oeil لفرقة Lunatic المؤلفة من المتديّن الثوري علي (كنت أصادفه مراراً في مسجد باريس الكبير)، والأزعر بوبا الذي عرف السجن بعدما سرق سائق تاكسي، وانتقل لاحقاً ليقود حملة تمييع الراب الفرنسي وتغريبه تماما عن واقعه الأصلي. لكن التوازن حينها بين الرجلين والإنتاج الموسيقي خلفهما أنتج راباً دسماً سوداوياً لا تكلف في إيقاعية إلقائه ولا مثيل له باعتقادي.
هناك أمر طريف في علاقة اليابان مع الهيب الهوب، شيء من المشترك في الأزمة مع الـ أميركا بين اليابانيين الذين عاشوا قيامةً رمتها فوق رؤوسهما أميركا، والأفارقة الأميركيين. تعرفت على نوجابس من خلال مسلسل Samurai Champloo للرسوم المتحركة اليابانية وهو مسلسل مبني على الجمع الأناكروني بين ثقافة الهيب الهوب وثقافة الساموراي في اليابان القديم.
في الدرجة الثانية بعد lunatic الباريسيين، Iam من مرسيليا. الأغنية من ألبوم الذروة للفرقة L’ecole u Micro d’Argent الذي صدر في العام 1997.
لا رغبة بهدم الرموز، ولكن صوت فيروز لا يطيب لي إلا في الكنيسة، وتحديداً في عملية التماهي التي تحصل بين صوتها وشخصها والسيدة مريم موضوع الترتيل. هذا النشيد أحد مشاهد التجلي لقدرة الصوت على التصوير الشعائري الكامل. “لا تهملينا أيتها الحنونة.”
يتمتع وديع الصافي بجانب قدراته الصوتية المبهرة بـ flow مميّز، أي أنه يطال الإيقاع من تدفق خاص بين التأخير والإبكار. يعطي هذا التدفق مساحة للّعب، للقفز والرقص. الأغنية لا تحيلني أبداً إلى موضوع البنت الريفية، ولا يبدو لي أن الموضوع ذو أهمية فيها، بقدر ما هي حجة قائمة للهزّ المرح.
لم يكن لهذه اللائحة أن تكتمل دون عبارة “شهبا للانتاج والتوزيع الفني” التي تختزل مرحلة من النمط الشعبي الساحلي السوري الذي راج منذ بداية الألفينيات. لطالما كانت هذه الأغنية الرفيق الأنسب في رحلات الفان (الميكروباص) بين طرابلس وبيروت.
صوت عظيم اكتشفناه مؤخرا عبر يوتيوب. محمد بو جبارة من المنطقة الشرقية في الجزيرة العربية، ويمتلك قدرات صوتية هائلة تضاف إلى مقدرته على أداء انماط عديدة تتراوح بين العراقي وأسلوب البحارة واللطميات الحديثة. هذا المقطع مقتطف من فيديو شاع على يوتيوب لبوجبارة برفقة مغن آخر خلال جلسة ارتجال في الاستديو.
حافظ الشيرازي مجدداً يغنيه مواطنه شهرام ناظري بعد ٦ قرون من كتابته إحدى أجمل قصائده التي تبدأ بعبارة “ألا يا أيها الساقي أدر كأساً وناولها“، والتي ترجمت مرات عديدة إلى العربية. يعد “ألا يا أيها الساقي” تصنيفاً، وهو في المصطلح الفارسي يشير إلى مجموعة من أمهات القصائد الملحنة المحفوظة والمتوارثة.
نعود إلى أجواء الإنشاد من غير آلات موسيقية، إلى التتالي والتناسب بين صوت الجمع وصوت الفرد. تروي التعطيرة النبوية بالإضافة لفعل المديح، ما يحيط بولادة نبي الإسلام، بتصوير ميثولوجي يعززه ابراهيم الفران بأدائه الذي يبلغ طبقات صوتية عالية جداً. يأخذني صوت الفرّان إلى عوالم إسلامية موازية، فيها كائنات غير أرضية وممكنات أخرى.
تشدني إلى أبي بكر سالم بحة في صوته تختلط بتنويعاته النغمية اليمانية فيجعلها رنانة. ويشدني إلى هذه الأغنية على مقام الرست، لحنها السهل الممتنع وتوزيعها المميّز الذي يترك مساحات واسعة للموسيقى دون غناء دون كسر قوة الدفع الايقاعية.
الست عابدة مرة ثانية ولكن هنا بتوزيع تقليدي على نمط القوالي وهي تغني قصيدة للشاعر الباكستاني بوليه شاه.
وجه آخر مديني محدّث للموسيقى الإيرانية، أسمعه هنا مع المطربة مرضية قبل الثورة الإسلامية في إيران. وما يلفتني في هذه الأغنية اللقاء الخاص بين أنماط التوزيع الغربي والخصوصيات الإيقاعية المحلية.
تعرفت على الثلاثي التركي هذا (قانون، كلارينت، وبغلاما) من خلال عازف القانون التونسي خليل شقير، في العام 2006، مما دفعني بعد أشهر قليلة إلى اقتناء البغلاما (الساز التركي) منبهراً بعزف اسماعيل تونشبيلك. تتبلور موسيقى الثلاثي ارتجالياً حول جمل مركبة مسبقاً وتناغم نادر بين العازفين الثلاثة الذين من الممكن الاستماع لعزفهم في الكثير من أغاني البوب العربي. تشبه موسيقاهم مدينتهم وفيها من الحديث ما فيها من العتيق.
ندخل الآن عالم موسيقى البايس وبالأخص في عاصمتها الأولى لندن. يجتمع Foreign Beggars المنتج الموسيقي Eprom، لإنتاج قطعة على تقاطع أنواع الراب والغرايم والنوروكرانك. الفلوات التدفقات الايقاعية في استعراض لعوب مبهج والباص تتغلغل في الصدر.
إسم آخر من عالم البايس وأحد ثنائي Digital Mystikz اللندني (ضاحية نوروود). ونعود هنا إلى مرحلة تشكل الـDubstep بين الـGarage والـ تو ستب 2-step والـ Dub. وريد الإشارة هنا إلى تقاطع موسيقي كبير بين المخزونين الباكستاني/الهندي والكاريبي/الجامايكي في لندن، حيث نجد في هذه الموسيقى عناصر الثقافتين إيقاعياً وفي العلاقة مع البايس.
هنا ندخل في الغرايم Grime مع أحد أبرز أعلامه الحاليين. يتميز Ghetts بذكاء تبديلاته في الطبقة والإيقاع مما يبقي على المستمع مشدوداً. لـghetts وجوه عديدة يظهر هنا أحد أكثرها صدامية وحيوية.
ومع الغرايم مجدداً، بنوع آخر من التدفقات والإحساس الموسيقي.
نعود إلى بلادنا، إلى جبل عامل في الجنوب اللبناني. يعتبر الشيخ جعفر من أول أصوات الإنشاد الديني التي تم تسجيلها وبثها من هذه المنطقة. أورد هنا مناجاة ينشدها قبل دخوله في دعاء كميل الشهير. بين الكنسي والعراقي يعيدنا الشيخ جعفر إلى موسيقى محلية تحمل التعبير الإثني عشري الإسلامي، قبل أن يطغى التأثيران الايراني والعراقي.
الأغنية من فيلم دكان شحاتة. على ذلك، يبدع أحمد سعد في أداء كلمات سيد حجاب عشية الثورة في مصر. أنتظره حتى يقول “مستني لما يمر موكب سلاطينك. مش باقي مني غير شوية كفر بشروقك على شوية رحمة من طينك على شوية صبر من ديني“.
تختلط في هذه الفرقة المغربية عناصر الطرح الثوري والتضامن العربي والهوية الممتدة، لكن التركيبة السحرية التي أوجدوها بين فولكلورات مناطق مغربية مختلفة وحداثة في الأسلوب الأداء، هي المسؤول الأول عن العبقرية الجمالية التي أنتجها ناس الغيوان منذ السبعينيات. تعرفت على موسيقاهم من الأصدقاء المغاربة الوافدين المثلي إلى الدراسة في باريس عام 2002، وطلبت من أحدهم أن يأتي لي بكتاب نصوصهم فدرستها وحفظتها.
ثم جاءت الفرقة المجدّدة بمن تبقى من اعضائها أحياء لتحيي حفلة في باريس، واستضافت إذاعة الشرق في باريس أحد أبرز اعضائها عمر السيد، فاتصلت بالراديو وتعاطفوا مع اللبناني الذي وجد في الموسيقى المغربية عزاء غربته. أهدوني تذكرتين لحضور الحفل وكانت حقاً من أمتع تجاربي الموسيقية رغم افتقاد الكبير العربي بطمة رحمه الله.
في مسرحية شقائق النعمان التي كتبها محمد الماغوط لدريد لحام، يستذكر الأخير خلال أحد المشاهد ليلة طهور رئيس البلدية، وتدخل علينا أغنية علقت في رأسي منذ أيفع الطفولة، فما إن صار لنا يوتيوب حتى بحثت عنها لأثبتها في مجموعتي الموسيقية. الأغنية من تراث مدينة سلمية السورية التي يتحدر منها الماغوط، بصوت وليد زينو. “والريح ما تطفي النار اللي علقناها.”