.
نطرح مفهوم ما-وراء-الموسيقى في هذا المقال بعد كنا قد تحدثنا في المقال السابق الخاص بموسيقى برامز عن موسيقى-الموسيقى. يعني ما–وراء–الموسيقى كسر حائطها الرابع، أي انتقال المستمع من موقع الجمهور إلى موقع المؤلف، وتسلله إلى كواليس الفن، ومشاهدته للعمل في مراحله التكوينية عن طريق العمل نفسه، الذي يتمتع بإمكانية إبراز هذه المراحل والأوليات البنائية التي يتكون منها التأليف. كان العديد من المؤلفين في تاريخ الموسيقى الكلاسيكية قد اهتموا بإبراز هذه الخلفيات السرية القابعة خلف العمل مسكوتًا عنها، ومنهم بيتهوفن نفسه في الحركة الأولى من سيمفونيته السابعة مثلاً، التي يتكون لحنها الأساسي فعليًا أمام المستمع بعد الافتتاح المطوَّل، لكن أبرز من قدموا هذا الوجه الكواليسي في مشروع تأليفي كامل هو الموسيقار السوفييتي ديمتري ديمترييفتش شوستاكوڤتش (١٩٠٦-١٩٧٥).
رغم أنه شبه مجهول عربيًا في الكتابات الموسيقية المتخصصة وغير المتخصصة على السواء، فإن شوستاكوڤتش أحد أشهر الموسيقيين الكلاسيكيين المعاصرين شرقًا وغربًا. ليس معروفًا بتجديداته الجذرية التي شكلت الموسيقى الكلاسيكية المعاصرة تشكيلاً كمواطنه ستراڤنسكي، ولا بجمال ألحانه كرحمانينوڤ، ولا بتأثيره على معاصريه كبروكوڤييڤ ومالر، لكنه قد تم تكريمه بإطلاق اسمه – أثناء حياته – على شبه جزيرة شوستاكوڤيتش Shostakovich Peninsula في قارة أنتاركتيكا، إضافةً إلى حصوله على أرفع الجوائز داخل الاتحاد السوفييتي وخارجه، ومنها جائزة ڤيهوري سيبليوس من فنلندا. شوستاكوڤتش هو الموسيقار الأهم في سياق عنوان المقال كما تقدم، وهو قد يكون صاحب أكبر مجموعة من الأعمال السيمفونية الدسمة وأعمال موسيقى الحجرة في الفترة المعاصرة: خمسِ عشرة سيمفونية، وخمسةِ عشر رباعيًا وتريًا، وستةِ كونشرتات (اثنين لكل من البيانو والكمان والتشيللو)، بالإضافة إلى أعمال أخرى لموسيقى الحجرة وباليهات وأوبرات وفوجات، وبالإضافة أيضًا إلى أعماله في الجاز، التي اشتهر منها للغاية الڤالس الثاني مصنف رقم ٩٩، والموسيقى التصويرية السينمائية، التي اشتهرت منها متتالية موسيقى فيلم The Gadfly.
من الصعب بدءًا تلخيص مشروعه التأليفي تحت عنوان المقال؛ فقد مثلت موسيقى شوستاكوڤيتش أهم توجه نحو التركيب على حساب اللحن، أو ما يمكن لنا أن نطلق عليه موت اللحن؛ حيث توازن كل من التركيب واللحن في قائمة شنكر شنكر عالم موسيقي نمساوي توفي عام ١٩٣٥ بعد ان ترك طريقة في التحليل باسمه، وقائمة مثيرة للجدل بأفضل الموسيقيين طبقا لتحليله المعروفة: مِن ب إلى ب، أي من باخ (يوهان سيباستيان) إلى يوهانز برامز، ثم انفرط هذا الزواج المقدس في قاعات العزف بعد برامز – بحسب شنكر – ليميل الموسيقيون جهة التركيب أو جهة اللحن. موسيقى تشايكوڤسكي وروسيني ورحمانينوڤ مثلاً توجه واضح بذاتها إلى اللحن على حساب التركيب، بينما مثل ڤاجنر وبروكوڤييڤ وستراڤنسكي العكس. لكن أيًا من هؤلاء وسواهم لم يصل إلى هذه الدرجة من خفض اللحن ورفع التركيب، ليصل إلى درجة أقرب إلى هندسة فراغية كاملة معقدة، قد تذكر المستمع الخبير نوعًا بالفترة الأخيرة من حياة بيتهوڤن الإبداعية التجريبية، بالذات في رباعياته المتأخرة، بعد أن فقد البقية الباقية من سمعه، وهي الفترة التي درسها شوستاكوڤتش جيدًا بوعي وقصد واضحين Pincus, Andrew L., Musicians with a Mission: Keeping the Classical Tradition Alive, Northern University Press, Boston, P. 204..
ومن الصعب تلخيصه أيضًا لأن موسيقى شوستاكوڤتش مثلت أهم مجموعة من ردود الفعل على حالة ما بين الحربين العالميتين والحرب الثانية وما بعدها، بما يتضمن الغزو النازي للاتحاد السوڤييتي والحرب الباردة، وحالة ما–بعد–الحداثة، على ما في هذه الأخيرة من مفاهيم التفكك واللا نسق واللا مركزية التي يعرفها المثقف العام، إلى جانب تجربة الدولة الشمولية السوڤييتية. الأمر الذي دعا توفيق الحكيم ذات مرة أن يعلل شعبية أعمال شوستاكوڤتش بقدرته على التعبير عن هذه الحال توفيق الحكيم في كتابه تحت شمس الفكر. لهذا جاءت أعمال شوستاكوڤتش الكلاسيكية (سوى الجاز والموسيقى التصويرية) لتعبر عن التفكك والضياع والنهاية، في شكل جروتسكي ساخر متناقض وفوضوي. وهو ما يمكن لنا أن نطلق عليه لحن–الموت.
بالإضافة إلى موت–اللحن، ولحن–الموت، هناك أيضًا موسيقى–الآلة: أي أننا نجد بوضوح في أعماله صوت الآلة Clockwork المشابه لضوضاء الآلات المنتظمة، والتي لا نعتبرها عادة موسيقى رغم انتظامها، رحي عجلات القطار لمعدن القضبان، دوي المدافع أو طلقات الأسلحة الآلية، هدير التوربينات، وصرير المفاصل، أو ذلك النمط الحركي في صوت آلة الخياطة الذي لا يمكن لنا وصفه، والذي يبشّر بعصر جديد. وربما لو كان شوستاكوفيتش قد عاصر عهد الكمبيوتر وأصوات القرص الصلب الخافتة المُوَسوِسة أو مِروَحته اللاهثة لكان صورها ضمن ما صوّر. والحقيقة كما يبدو أن موسيقى شوستاكوڤتش مثلت أهم تجسيم لانتصار الآلة على الإنسان، وأحلت الصناعة في الاهتمام الفني محل الطبيعة. هذا الهمّ الذي أرّق عقل الفيلسوف الألماني هايدجر ليلخص فلسفته التكنولوجية في كتابه الشهير مسألة التقانة Die Frage nach der Technik .
من مناحي اختلاف شوستاكوڤتش الذي منح موسيقاه تميزًا نوعيًا هو أنه ليس موسيقارًا سوڤييتيًا مخضرمًا، أي أنه لم يبدأ التأليف في روسيا القيصرية التي تحولت بعد الثورة إلى الاتحاد السوفييتي، كبروكوڤييڤ وستراڤنسكي ورحمانينوڤ مثلاً، بل عُرضت أولى سيمفونياته عام ١٩٢٠ في عهد لينين. كما أنه لم يهاجر هربًا من الشمولية، رغم ما عاناه من أزمة مزمنة مع السلطات والهجوم الذي تلقاه في البراڤدا الجريدة الرسمية الناطقة بلسان الحزب ا الشيوعي في الاتحاد السوڤييتي التي أسسها تروتسكي لتكون بعد ذلك لسان ستالين! بل واجه شوستاكوڤيتش هذا النقد بشكل سلبي، دون رد من جانبه. لكن حتى السلبية دون انسحاب في هذا الموقف شجاعة، ومن المعروف أن سيمفونيته الرابعة، التي كانت أشد ما أثار حفيظة الحزب، قد اكتملت وعُرضت في الاتحاد السوڤييتي بعد نقدها في البراڤدا، وبرغم البراڤدا Glikman, Isaak, Story of a Friendship, The Letters of Dmitry Shostakovich to Isaak Glikman, trans. Anthony Phillips, 2001, p. xxii. ومن المعروف كيف واجه شوستاكوڤتش مع من واجه حصار ليننجراد، أكبر حصار في التاريخ، وأودع تجربته تلك في سيمفونيته السابعة: ليننجراد. وبالرغم من المبالغة في وصف هذه المعاناة مع السلطات، والتي علينا أن نتوقعها، خاصة وأن أحد أهم مصادرها هو كتاب الشهادة لسولومون ڤولكوڤ، الذي صدرت طبعته الأولى عام ١٩٧٩ في نيويورك، ليمثل نوعًا من الدعاية المضادة للمعسكر الأحمر مستغلاً ذلك التوتر في علاقة المبدع بالسلطة Volkov, Solomon, Testimony, New York, Harper & Row, 1979، وهو ڤولكوڤ نفسه الذي ألف كتابًا آخر مخصصًا لبحث علاقة شوستاكوڤتش بستالين Volkov, Solomon, Shostakovich and Stalin: The Extraordinary Relationship Between the Great Composer and the Brutal Dictator tr. Antonina W. Bouis, New York: Alfred A. Knopf, 2004.. برغم ذلك فإن من غير المبالغة القول بأن شهرة شوستاكوڤتش قد جعلته ولابد هدفًا للسلطة الشمولية، التي تنزعج بطبيعتها من أي دور مدني بارز، خاصةً إذا كان لا يطبق سياستها الموسيقية السياسة الموسيقية مشروع حقيقي وضعه الحزب الشيوعي لتطوير الموسيقى في الاتحاد السوفييتي. للتفاصيل: مثلاً: د. سمحة الخولي: القومية في موسيقى القرن العشرين، سلسلة عالم المعرفة، عدد رقم ١٦٢، ص ٩٩-١٠١. ومن العدل كذلك القول إن المبدع قد انتصر في النهاية عن طريق علاقة جدلية مع السلطة، لا العداء الصريح ولا السلام الدائم، حتى أوفاه الاتحاد السوڤييتي في النهاية حقه بتكريمه بإطلاق اسمه على جزء من خريطة الكوكب، إضافة إلى أرفع الجوائز التي حصل على أغلبها بعد انقضاء العهد الستاليني. وهو مثال بارز آخَر على أن الوقوع ضحية للسلطة ليس حَدًّا أساسيًا في تعريف المثقف والمبدِع في الدولة الشمولية.
إذاً شوستاكوڤتش لم يعانِ ذلك الحنين إلى – الوطن الذي كان ثم لم يعد كما كان – كاللذين هاجرا: رحمانينوڤ وستراڤنسكي. لم يعش شوستاكوڤتش في الفردوس المفقود ليتوق إلى العودة إليه، إذا كانت روسيا القيصرية فردوسًا بمعنًى من المعاني. ومع ذلك فإن من اليسير نسبيًا الوقوف على مفقود شوستاكوڤتش وفردوسه المنصرِم؛ فنظرًا لأن الحرب العالمية الثانية كانت أكبر تغيير مر به العالَم والإنسان بعد طوفان نوح، فإن مفقود إنسان ما بعد الحرب أكبر وأكثر حضورًا منه عند سواه في التاريخ المعروف، إنه الإنسان نفسه والطبيعة، وهو ما يفسّر ذلك الوعي القوي عند شوستاكوڤتش بما أسميناه بـ موسيقى–الآلة في مقابل مفهوم آلة–الموسيقى عند غيره. ونظرًا لأن هذا المقال في الموسيقى أكثر منه في فلسفة الموسيقى، فمن المناسب أن ننتقل الآن مباشرةً إلى السمات الأسلوبية المميِّزة لمؤلفنا، والتي لها أهمية خاصة مع غرابة موسيقاه التي تؤدي فعلاً حتى بالمستمع المحنَّك إلى صعوبة تلقيه، هو صعب لأنه مختلف ببساطة. وإذا كنا قد تحدثنا في هذه الفقرة عن معنى ما–وراء–الموسيقى فإن الفقرة التالية تتحدث عن موسيقاه نفسها، أو موسيقى–الما–وراء.
يمكن إجمال أهم الخصائص الأسلوبية لشوستاكوڤتش في النقاط التالية، التي توظف هذه الخصائص في الوقت نفسه لطرح مدخل للمستمع غير الأليف بموسيقاه.
أ–استعمال التيمة بدلاً من اللحن: لا يستعمل شوستاكوڤتش في موسيقاه الكلاسيكية، أي ما سوى الجاز والموسيقى التصويرية، ألحانًا بالمعنى المعهود. فالمستمع له لن يجد لحنًا مكتملاً يمكن تتبعه، وهو ما يسمى عند بعض النقاد والدارسين باللحن غير مكتمل التجسيم، أشبه بمخطط ثنائي الأبعاد إذا ما قورن بجسم حقيقي مثلاً. فالألحان غير مكتملة، وغير متناسقة، مشوهة عن عمد، أقرب إلى أصوات منها إلى المفهوم التقليدي للمستمع عن اللحن. لكننا مع ذلك نستطيع تتبع أصوات بعينها منها، ونستطيع بسهولة تبين مواضع تكرارها، ومع المزيد من الاستماع والتأمل في العمل يمكن لنا تتبع كيف تبدلت وكيف تم إنماؤها أو اشتقاقها أو الاشتقاق منها في مواضع هذا التكرار. وهذا هو أهم مدخل لهذا النوع من الموسيقى. هذه الأصوات المتكررة، لأن هناك ما هو غير مكرر منها، والتي تأخذ شكلاً شبيهًا باللحن، هي ما يسمى بالـ تيمة ليس فقط للدلالة اصطلاحًا على شبه–اللحن، بل أيضًا للإشارة اشتقاقًا إلى الموضوع. فهذه التيمات تمثل موضوعات أو أشخاصًا بأعينهم، مثل تيمة ديمتري شوستاكوڤتش DSCH وهي الأشهر له والأكثر استعمالاً، وهي من أربع نغمات، يبدأ بها مثلاً أشهر رباعي له (رقم ٨)، وتيمة إلميرا وهي إحدى طالباته Elmira Nazirova وقيل إن علاقة ما كانت بينهما Fay, Laurel E., Shostakovich: A Life, Oxford University Press, 2005, P. 187.، وتيمة ساشا Sascha E♭-A♭-C-B-A التي تظهر في سيمفونيته الأخيرة (رقم ١٥) وهو حفيده. كما اشتق شوستاكوڤتش بعض تيماته من أعمال موسيقيين آخرين، ربما للإشارة إلى أعمالهم أو إلى شخوصهم، مثل روسيني ومالر وڤاجنر ورحمانينوڤ وجلينكا وغيرهم. هذه التيمات تتكرر في العمل الواحد كما تتكرر في عدة أعمال، مما يجعل أعماله الكلاسيكية عمومًا كأنها جزء من عمل واحد، أو تبني أمام المستمع ذلك العالم الذي عاش فيه المؤلف، فيكون من المنطقي أن يعبر عن التيمة الواحدة في عدة أعمال، ما دامت هذه التيمة جزءًا من العالم لا العمل فحسب. كذلك فإن هذه التيمات تتفاعل فيما بينها دراميًا؛ فمثلاً تتفاعل كل من تيمة ديمتري شوستاكوڤتش مع تيمة إلميرا في الحركة الثالثة من سيمفونيته العاشرة تفاعلاً مطولاً. وليس شوستاكوڤتش أول من استعمل التيمة في الموسيقى، فڤاجنر مثلاً قد اشتهر بذلك أيضًا، بل قد شكلت التيمة عند ڤاجنر خيطًا أساسيًا في نسيجه الميلودي، لكن الفارق أن ڤاجنر استعمل كذلك الألحان، كما في افتتاحية تانهويزر مثلاً، أما شوستاكوڤتش فقد بنى موسيقاه الكلاسيكية بشكل كلي بحيث يتجنب اللحن. كما أن نسيج ڤاجنر في النهاية قريب من النسيج الرومانسي المعروف قبله، حيث تسود الهارمونية كقانون عام لخطة البناء، أما في سياق بناء شوستاكوڤتش فإن التيمة تتحرك بحرية أكثر بين أجزاء العمل وبين الأعمال المختلفة، ويصبح لها دور أكثر أهمية ومركزية في بناء العمل، دون أن تضطر للتوافق مع أجزاء النسيج الأخرى. ربما يكون الفرق الثالث هو محتوى التيمة؛ فڤاجنر قد استعمل التيمة للدلالة على حدث أو شخصية في الدراما، أما أغلب تيمات شوستاكوڤتش، إن لم يكن جميعها، فهي واقعية تعبر عن أشخاص حقيقيين. وحين يموت اللحن يحدث أمران: تتنحى الهارمونية أولاً مقابل التناقض، ويسود التركيب أمام اللحن. وبالفعل فإن أظهر خصائص شوستاكوڤتش الأسلوبية هذا الطابع من التنافر وعدم التناسب بين الأصوات والنغمات، بالإضافة إلى عمق وتمدد التركيب بشكل شاهق قد يدهش ويرهق المستمع في تتبعه، وهو التأثير المطلوب؛ فهو لا يقدم موسيقى جميلة، بل يعبر عن عالم أكثر وحشية وغرابة يتجاوز مرحلة الفزع إلى مرحلة الكوميديا وجنون الضحك. وهي ظاهرة سيتم استكمالها في نقطة منفصلة.
ب–الأصوات الميكانيكية: كما سبق ذكره استعمل شوستاكوڤتش الآلات لإنتاج الأصوات الميكانيكية، وهو ما لم يتم – كما قد يتبادر إلى القارئ – بطريقة عزف معينة، أو بالتلوين الأوركسترالي، بل بالتوزيع والتحكم في طول النغمة بشكل أساسي وفي علاقتها بالنغمات المصاحبة، وهي سمة شائعة في أغلب أعماله، وربما تكون الحركة الثالثة من الكونشرتو الأول للتشيللو مثالاً واضحًا على ذلك في التيمة الثالثة منها. الهدف من ذلك إبراز الطابع الميكانيكي للعالم المعاصر الذي عبر عنه هايدجر في كتابه سالف الذكر، والذي عبر عنه ستانلي كوبريك في رائعته السينمائية ا كلُك وورك أورانج. ليست الآلة المقصودة في الموسيقى والفلسفة والسينما في هذا السياق تلك الآلة المادية أو الاختراعات والبنَى المدمرة التي أنتجها الإنسان للقهر والتسخير، بل ذلك التحول نفسه في الماهية البشرية في ظل الهندسة الاجتماعية الشاملة، وقدرة بعض البشر على التحكم في الأكثرية بوساطة الآلة الاجتماعية، بل وخضوعهم هم أنفسهم لما ابتنوه بأيديهم؛ نظرًا لتحول ماهيتهم هم أنفسهم. فلم تعد الموسيقى اللحنية التقليدية بطبيعة الحال قادرة على الوفاء تعبيريًا بسمات الإنسان المعاصر، المحاصر بين الشمولية والرأسمالية والاستعمار المعاصر، والذي تغير جوهريًا عن إنسان القرن التاسع عشر. هذه الخصيصة على المستوى الفني البحت هي ما يمنح موسيقى شوستاكوڤتش طابعًا إكلينيكيًا غريبًا ومخيفًا وقاسيًا.
ج– الكابوس الموسيقي: أخطر جوانب موسيقى شوستاكوڤتش من حيث محتواها التعبيري أنها تعبر فعلاً عن واقع، على ما فيها من طابع الجمع بين التناقضات المستحيلة في ثنائيات معينة، خاصة في فن كالموسيقى يميزه عن الضوضاء النظامُ: التراجيدي/الكوميدي في تعبيره عن العبث، الروعة/الرهبة في تعبيره عن الانتحار، الذي يتضمن إرادة القتل بالذات، التفكك/النظام في التعبير عن الشكّ، الحقيقي/الخيالي في التعبير عن الفصام. فهي موسيقى فصامية قادرة فعلاً أن تصيب مرضى العصاب والذهان بنوبات قد تكون خطيرة. وإذا كان باخ ملهِمًا بالمسيح، وموتسارت بالروح والتوازن، وبيتهوفن بالبطولة والحياة، فإن إلهام شوستاكوڤتش مرض وتحلل وضياع. هذا ليس تأويلاً لبعض أعماله الكلاسيكية، بل هي خصيصة أسلوبية أساسية فيها كلها. مما جعل موسيقاه جديرة بلقب أهم كابوس موسيقي، أو الكابوس المسموع.
د–السرطان الموسيقي: وهو كذلك ليس تأويلاً بقدر ما هو جانب أساسي في البنية العامة لأعماله. ويعني السرطان بشكل عام ذلك التمدد غير المحدود وغير الوظيفي. وهذه هي البنية العامة للتفاعلات عند شوستاكوڤتش؛ فهي إنماءات غريبة غير متناسبة، وبرغم اشتقاقها من المصدر نفسه، فإنها تتنوع وتتكاثر وتتابع بشكل قد يبدو بلا نهاية، وفي اتجاهات غير متوقعة بالنسبة للمستمع التقليدي. والنتيجة: مجموعة شيقة ومخيفة من الأورام السمعية والذهنية المجردة، التي تنتشر وتتحلل في الفراغ، وتسمم الأفكار والتصورات والقيم، بل وتهدد فعليًا وحدة العمل وقدرته على الاحتفاظ بالسامع، وهو مقصود أيضًا. وإذا كان رحمانينوڤ قد استطاع نوعًا التعبير عن ألم السرطان في أعماله التي تحمل دائمًا رقم ٢: المقدمة رقم ٢ للبيانو، السيمفونية الثانية، الثلاثية رقم ٢، الكونشرتو رقم ٢ للبيانو، ذلك الألم النابض والمستمر بإلحاح، فإن شوستاكوڤتش قد استطاع التعبير عن (ديناميكية) السرطان في التشوه الشكلي/الوظيفي المنتشر بجنون حتى ليصل إلى كتل شاهقة غير معقولة في التجريد الذهني لبنية العمل. وربما كان من قبيل المصادفة أن توفي كل من رحمانينيوڤ وشوستاكوڤتش فعلاً بالسرطان، سرطان الجلد وسرطان الرئة على الترتيب.
هـ–النظام الباطني: هذا البناء السرطاني المستفحل ليس مجرد فوضى بلا نظام، لكن النظام عند شوستاكوڤتش حاضر في الخلفية، بشكل مُباطِن لا يدركه المستمع إلا بعد الاستماع المتكرر للعمل الواحد، وهو نظام شامل ومتماسك، لكنه لا ينبع من النسيج الميلودي، بل التركيبي، ولا يتأسس على الصيغ العامة المعهودة في الموسيقى الكلاسيكية كالصوناتا والرقصة والروندو والتنويعات، والتي تتجسد في شكل حركات السيمفونية والكونشرتو والرباعي إلخ، بل في صيغ معدَّلة، كما أنه لا يُفهم إلا مع تفهّم حقيقة أن التناقض والتفكك الظاهريين مستهدفان فعلاً لدى المؤلف، وهو ما يتضح مع زيادة الاطلاع على أعماله وسياقها التاريخي. وينقسم هذا النظام إلى مستويين: كلي في الصيغة العامة للحركة في العمل، مثل الصوناتا، التي يستعملها بشكل جد مختلف، كما سيرد في نقطة منفصلة، وجزئي في أسلوب تركيب الأصوات لصناعة الأصوات الميكانيكية والإنماءات بل والتحللات أيضًا.
و–صيغة الصوناتا المقلوبة والمعكوسة: تتكون صيغة الصوناتا من ثلاثة أجزاء رئيسية: قسم العرض الذي ترد فيه الألحان الأساسية، قسم التفاعل الذي تتفاعل فيه هذه الألحان وتنتج منها الحان أخرى غير أساسية، قسم إعادة العرض الذي تعاد فيه الألحان الأساسية مع تغييرات معينة يستهدفها المؤلف بشكل معين، وهي صيغة الحركة الأولى عادة من كل من الصوناتا والكونشرتو والسيمفونية منذ القرن الثامن عشر، كما قد ترد في حركات أخرى للعمل. وقد اتبع شوستاكوڤتش هذا التقليد بشكل عام، لكنه أحدث تبدلاً كبيرًا في التفاصيل، جعل صيغة الصوناتا لديه صيغة مناسبة للغاية للتعبير عن المحتوى السوداوي الجروتسكي والمتناقض سابق الذكر. تتكون صيغة الصوناتا لديه من قسم للعرض، تعرض فيه التيمات الأساسية بتوزيع أوركسترالي (في الأعمال السيمفونية)، يليه التفاعل الذي يتضمن كما سلف ذكره إنماءات سرطانية موغلة في التضخم والتشتت الظاهر، ثم يعاد العرض بشكل مختلف جذريًا، يحافظ فيه المؤلف على النظام ونقيض النظام، الذي لا يعني الفوضى لديه بقدر ما يعني النظام المعكوس، الذي له درجة التركيب نفسها وعناصر التركيب التي للنظام الأول، لكن مع فارق هام؛ فإعادة العرض لدى شوستاكوڤتش غالبًا ما تكون مقلوبة، أي أنها تبدأ بما انتهى إليه قسم العرض قبل التفاعل مباشرة، وتنتهي بما بدأ به قسم العرض، ويرِد ما بينهما في نظام مقلوب، يمكن التعبير عنه بـ (٥-٤-٣-٢-١) إذا كان العرض هو (١-٢-٣-٤-٥)، وهو ما يعني أن آخر ما يسمعه المستمع في الحركة هو بالضبط أول ما بدأت به. مما يجعل المستمع متشوقًا لمعرفة كيف سيقلب المؤلف النظام الذي ابتناه. ليس هذا وحسب، بل إن إعادة العرض كذلك معكوسة، بمعنى تبادل مواقع الآلات فيما بينها في عزف الجزء نفسه، فمثلاً إذا عزفت الوتريات الجزء (أ) في الوقت نفسه الذي تعزف فيه النحاسيات الجزء (ب) في قسم العرض، فإن علينا أن نتوقع أن هذا النظام سينعكس في إعادة العرض، فتعزف النحاسيات (أ) والوتريات (ب). وهذا العكس ليس جديدًا على الموسيقى في حد ذاته، فقد قدمه بيتهوفن كثيرًا جدًا، لكن أغلب الخصائص الأسلوبية لشوستاكوڤتش هي في أصلها مد خطوط موجودة فعلاً من قَبله على استقامة طويلة للغاية غير واردة عند أسلافه، وهو السبب في عدم دقة الانتقادات التي وجِّهت إليه متهمة إياه بالتأثر بأسلافه. من الهام أيضًا الإشارة إلى الأسلوب الذي تتم به معالجة آخر أجزاء قسم إعادة العرض، فغالبًا ما تنتهي حركة الصوناتا لديه دون كودا منفصلة، أي تنتهي الحركة كما بدأت دون تذييل، لكن هذه النهاية التي تعيد عرض البداية تأتي عكس التفاعل في التكوين؛ فالتفاعل تركيبي والنهاية تحليلية، بمعنى أن النهاية تُفكك العناصر الواردة فيها إلى أوّليات رياضية – صوتية في نسيج ومزيج من الصمت والعزف المتقطّعين pizzicato، وهو ما يساهم تعبيريًا في خلق تصور الانحلال، ويثبت في الذهن صورة العناصر الصوتية وهي تنفصل وتتفكك وتبقى معلقة في الفراغ المظلم، مما يوسوس للسامع بفكرة التحلل ذاتها.
ز–استعمال المقام الكروماتيكي: يختلف المقام الكروماتيكي أو الاثنا عشري عن المقام الثنائي في أن الأول لا يبدل المسافات التي يبدلها الثاني بين المفاتيح على لوحتها (الكيبورد)، بل يعزفها طبقًا لترتيبها في الآلة الموسيقية. هي مرحلة من سيادة مفهوم موسيقى–الآلة على آلة–الموسيقى. هو صوت الآلة نفسها، لا الصوت الذي نتصوره ونفرضه عليها. ومن الطبيعي طبقًا لبنية هذا المقام أن يعطي المستمع غير المتمرس به شعورًا بالنشاز، وهو مقصود أيضًا. لكن القدرة التعبيرية التي يفتقر إليها المقام الثنائي المعهود والأكثر انتشارًا في الموسيقى الغربية هي الإيحاء بالنهاية كمفهوم؛ فصعود المقام الثنائي في العزف يوحي بالتصاعد والاقتراب من الذروة الحماسية، وأهم التصاعدات الثنائية في رأيي تصاعدات بيتهوڤن، الذي كان مهندسًا للصعود، لكن صعود المقام الكروماتيكي في المقابل يوحي باقتراب النهاية والكارثية، كما في قسم التفاعل مثلاً في الحركة الأولى من خامسة شوستاكوڤتش أو الحركة الثانية من عاشرته، هذا بسبب تأثير تصاعد النشاز، عكس تصاعد الهارمونية في المقام الثنائي. طبعًا لم يكن شوستاكوڤتش أول ولا آخر موسيقار يستعمل المقام الكروماتيكي، فهو منتشر فعلاً في الموسيقى المعاصرة، وقد استعمله بيتهوڤن نفسه في سيمفونيته التاسعة: في كودا الحركة الأولى، حيث تعزف الوتريات خلفية كروماتيكية تتصاعد تدريجيًا حتى تطغى على الآلات الهوائية، لكنه لم يستعمل سوى جزء من هذا المقام فيما يسمى اصطلاحًا بـ الأرباع الكروماتيكية Chromatic fourth. يختلف الحال عند شوستاكوڤتش الذي مد الخطوط على استقامتها كما تقدم، فقد استعمل المقام الكروماتيكي كاملاً مستخلصًا منه هذا الطابع الكارثي والناشز.
ح–الجمهور المستهدَف: نظرًا لأنه استعمل بحرية تامة التيمات المشتقة بشكل صريح من أعمال موسيقيين كلاسيكيين سابقين، فإن جمهور شوستاكوڤتش المستهدَف من أعماله هو جمهور الموسيقى الكلاسيكية المخضرم، الذي يعرف فعلاً فاجنر ومالر وبروكوڤييڤ وستراڤنسكي إلخ، ليس بدلالة ذلك على نخبوية موسيقاه، وإلا ما شكلت خطرًا على الحزب، بل على تلاعبها الحر بالموسيقى نفسها كمادة فنية وكموضوع للفن في آنٍ واحد، بما يحيل إلى مفهوم موسيقى–الموسيقى الذي ناقشناه عند برامز. إلى جانب التيمات استعمل المؤلف كذلك كل صيغ المعالجة المعروفة تقريبًا، سواء ما عدله منها كالصوناتا أو ما أبقى على حاله، كالفوجه والكانون والرقصة وغيرها. وهذه النقطة هي ما تمس بشكل مباشر عنوان المقال؛ حيث تعد الموسيقى نفسها موضوعًا للمعالجة الموسيقية، حين يكون موضوع العمل هو تصورنا عن الموسيقى ووعينا بها من جانب، ومن جانب آخَر استعمال التيمات للرمز إلى موسيقيين بأعينهم، ومن جانب ثالث كاستيعاب لتاريخ الموسيقى القريب، خاصة منذ الرومانسية المتأخرة صعودًا إلى شوستاكوڤتش نفسه، الذي صور نفسه في أعماله واشتق تيمات لأعماله من أعمال سابقة له هو، كما سيرد لاحقًا، بحيث يمكن النظر إلى مشروع شوستاكوڤتش بوصفه إعادة تعريف الموسيقى وإعادة بناء لها.
ط–الواقعية: بطبيعة الحال تأسست فلسفة الفن الشاملة في الاتحاد السوڤييتي على مذهب الواقعية الاشتراكية، والتي تقتضي التعبير عن الواقع الاجتماعي على الأقل شرطًا لـ قبول العمل من جهة النقاد والسلطات، بما يستبعد الإيغال في التجريب، وبما يتهم التجريب بالشكلانية Formalism، وهي التهمة التي لاحقت شوستاكوڤتش فعلاً في بدايته ونضجه Wilson, Elizabeth, Shostakovich: A Life Remembered, Princeton University Press, 2006, p. 152. وقد وافق شوستاكوڤتش هذه النزعة في مضمونها العام لكنه اختلف في التفاصيل والأسلوب؛ فموسيقى شوستاكوڤتش معبرة فعلاً عن الواقع الاجتماعي، لكن من منظور مختلف، هو الانهيار والتفكك والفصام وسيادة الميكانيكية كما تقدم، كما أن أسلوبه في تعارضه مع التصور التقليدي عن الموسيقى بين أعضاء اتحاد المؤلفين الموسيقيين المركزي بموسكو، الذي حل محل كل الجمعيات الموسيقية بعد إلغائها عام ١٩٣٢ على مستوى الاتحاد السوڤبيتي، ظل بعيدًا عن الجمهور، غريبًا، وغير مستساغ بسهولة، وربما مثل نقدًا مباطِنًا للحياة في الاتحاد السوڤييتي نفسه، وعصيًا على الترويض أو التأويل المتوافق مع دعاية الحزب. مع ذلك توافقت رؤية شوستاكوڤتش أحيانًا – وقتَ الشدائد – مع رؤية الحزب. السيمفونية السابعة له مثال قوي على التوجه الواقعي التوافقي، التي صورت حصار ليننجراد، حتى انتشرت واحتُفِيَ بها من الاتحاد السوڤييتي إلى الولايات المتحدة، ممثلة نوعًا من التوافق العالمي – الحَلِيفي (نسبةً إلى الحلفاء مقابل المحور)، بينما جاءت أغلب أعماله تجريبية معبرة عن رؤيته الخاصة، والتي لا تتعارض بالضرورة مع رؤية الحزب في كل المواضع والأوقات.
ي–التوزيع والتلوين والهارموني: اعتمد شوستاكوڤتش على ما يمكن لنا أن نسميه بـ التوزيع التخصصي في المؤلفات السيمفونية، كالسيمفونية والكونشرتو والمتتالية إلخ، ذلك التوزيع الذي يعتمد على تخصيص بعض الآلات لعزف أجزاء بعينها، واستثمار صولو الآلات في الأعمال السيمفونية، بما يرسم صورة مختلفة للآلات باعتبارها أبطالاً للعمل، تتحرك وتتجادل، في مقابل التوزيع اللا–مركزي عند غالبية الموسيقيين السيمفونيين، الذي يتعامل مع الأوركسترا بشكل أساسي في الغالب كـ فريق عزف. أعمال بيتهوڤن وموتسارت السيمفونية مثلاً – في رأيي – أهم مثال على اللا مركزة في تاريخ الموسيقى الكلاسيكية ربما؛ لأنها تشرك أغلب آلات الأوركسترا في عزف أغلب أجزاء العمل، لكن التيار النامي في التوزيع منذ المرحلة الأخيرة قبل انقضاء الرومانسية نحا جهةَ التخصيص تدريجيًا، وهو السبب في نموّ الأوركسترا حتى شملت آلات غير معهودة في الأوركسترا السيمفوني كالزايلوفون، والجلوكنشبيل آلة كالزايلوفون لكنها من قضبان أو أنابيب من المعدِن، لأن الأصل أن تكون قضبان الزايلوفون من الخشب، وهو المعنى الاشتقاقي للكلمة اليونانية زايلوفون التي تعني الصوت الخشبي، والماريمبا، والكونج، والبيانو (في غير الكونشرتو)، والدفّ، وغيرها. إضافة إلى التلوين كذلك، فقد خطا التلوين الأوركسترالي إلى مناطق بكر في عالم المسموعات منذ ڤاجنر، حتى وصل عند شوستاكوڤتش إلى درجة عصية على حساب ما أنجزته من التقدم. ولكن الفارق هنا بين ڤاجنر وشوستاكوڤتش أن الأول يستعمل التلوين كـ تلوين، أي لإضفاء ألوان على العمل وإبهار السامع، دون غاية تعبيرية محددة، حتى وصل الأمر – مع هذا التلوين غير المعبر بذاته عن موضوع محدد – إلى تحويل موسيقى ڤاجنر إلى وجه عروس ملطّخ بالأصباغ، أما عند شوستاكوڤتش فقد لعب التلوين دورًا تعبيريًا للإيحاء بأصوات ميكانيكية وحشية معينة؛ نظرًا لاعتماد شوستاكوڤتش على الصوت عوضًا عن اللحن كما تقدم. مع ذلك جاء أغلب التوزيع والتلوين بل والنسيج الهارموني نفسه لشوستاكوڤتش رماديًا غير ممتع بذاته لحاسة السمع، وهو النقد نفسه الذي وجّه في جزء منه إلى موسيقى برامز من قبل، وهو السر في أن المستمع أحيانًا يستشعر خيطًا رابطًا بين توزيع كل من شوستاكوڤتش وبرامز وتلوينهما. لكن الهدف من هذه الرمادية هو الحرص على تقديم موسيقى تتجاوز الأذن إلى العقل، وتتجاوز المشهدية إلى التجريد، معبرة عن عالم كئيب فارغ يكتسب فيه الإنسان فاعلية عبثية. وإذا كان تشايكوڤسكي يمثل أجمل توليفة من الألوان الأوركسترالية في كل موسيقاه تقريبًا، فربما يعد شوستاكوڤتش صاحب أقسى (لا أقبح؛ لأن السياق يتخطى الجَمال الحسي) توزيع وتلوين، في استخراج أصوات معدنية غريبة من الآلات الهوائية الخشبية وغيرها موحية برؤى مشوهة مخيفة. ورغم أن توزيع رحمانينوڤ يترك انطباعًا جميلاً على الأذن حسيًّا، فإن ثمة فارقًا هامًا بينه وبين شوستاكوڤتش في هذه المسألة؛ فتوزيع رحمانينوڤ – كما لابد أن يتضح أمام المستمع الخبير – أقرب إلى توزيع عمل سابق التجهيز، أي كما لو أن المؤلف قد صاغ العمل مكتملاً أو شبه مكتمل، ثم وزعه على الأوركسترا، وهو منطقي في حالة رحمانينوڤ حيث يتسق مع كونه مؤلِّفًا للبيانو بشكل أساسي، وبالتالي للآلة الصولو، أما التوزيع الجيد، والذي يندرج فيه شوستاكوڤتش بدرجة أكبر، فهو تفاعل جدلي بين التأليف وعملية التوزيع، بحيث يمارس كل منهما تأثيرًا على الآخر، حتى يتوازن العمل في النهاية طبقًا لتصور المؤلف. وقد حقق شوستاكوڤتش درجة أكبر من هذا التفاعل، لكن ما يعطي موسيقاه طابعًا رماديًا ليس فقر التوزيع، بل تعمد إنتاج هذا الطابع المقبِض المعدني البارد. توزيع رحمانينوڤ متزن إذا ما قورن بتوزيع ڤاجنر الفاحش، لكنه غير موظَّف موضوعيًا بالقدر نفسه الذي نجده عند شوستاكوڤتش.
كان هذا العمل أهم نقطة صدام بين المؤلف والحزب؛ فقد انتُقد بشدة قبل اكتماله، لكن المؤلف – كما سبق ذكره – قد صمم على إكماله حسب تصوره، لكن لأسباب غير محددة بدقة، قد تكون سياسية أو فنية، فقد سُحبَ العمل بعد نزوله فعلاً في برنامج أوركسترا ليننجراد الفيلهارموني لشهر ديسمبر عام ١٩٣٦ Glikman, Isaak (2001) Story of a Friendship, p. xxii. ولم تعرض السيمفونية رسميًا إلا في ديسمبر عام ١٩٦١ عزف أوركسترا موسكو الفيلهارموني كما هو معروف من تاريخها دون تعديلات. وهي أول عمل تجريبي متطرف في حياة مؤلفها، تخطت تجريبيتها أغلب سيمفونياته التالية، لذلك فهي ليست أفضل بداية لفهم أعمال مؤلفها، لكنها عمل شديد الأهمية في سياق تراكم الخبرة الإبداعية لديه؛ فقد مثلت حتى نهاية حياته مرجعًا ذاتيًا له في كل الجوانب الأسلوبية سابقة الذكر. من أمثلة الدلالة على ذلك تلك التشابهات المحددة بين بعض أجزائها وبين سيمفونيتيه الأهم والأكمل: الخامسة والعاشرة، كما سيلي في موضعه، بالإضافة إلى استعمال تقنيات بعينها منها في أعمال أخرى سواهما للمؤلف نفسه. جدير بالذكر كذلك أنها نقلة مهمة فيما يتعلق بالتوزيع والتلوين بالنسبة لمؤلفها؛ حيث افترضت أكبر أوركسترا استعملها المؤلف فيما استعمل لتوزيع سيمفونياته.
الحركة الأولى في صيغة الصوناتا المقلوبة والمعكوسة تبدأ مباشرة بالتيمة الأساسية، وهي مشابهة من وجه للتيمة الأساسية في الحركة الأولى من سيمفونيته الخامسة. تعزف بالزايلوفون مع خلق لون مع الفلوت، لتصنع الآلات الإيقاعية نبضة الافتتاح، ثم تتسلم الوتريات اللحن، مع نبر نشط سريع يذكرنا بستراڤنسكي، مع النحاسيات والهوائيات الخشبية، في توزيع متوازن، يلعب فيه الزايلوفون دورًا محوريًا غير معتاد. بعد إنماءات مختصرة للتيمة تساهم في إبرازها وتحقيق سيادتها على الأوركسترا، يهدأ العزف مفسحًا المجال للكورنو ليفصل بين التيمتين، وهنا تعلَن التيمة الثانية بالتشيللو والباص ثم بقية الوتريات ثم الكلارينيت. تتم تنمية التيمة الثانية مع توزيع ثري للهوائيات عمومًا، وتسود سريعًا الهوائيات الخشبية مع استعمال الكور الإنجليزي بالذات لإنتاج ذلك اللون المعدني، الذي اعتمد عليه المؤلف كثيرًا في مؤلفات أخرى. يأتي بعد ذلك بقية قسم العرض، وهو يعرض لجدل التيمتين في شكل إنمائين متعارضين متصارعين، نجد فيه بوضوح ذلك الانتشار السرطاني سابق الذكر، لكن بشكل مختصَر، مع اجتماع وانفراط متكررين للأوركسترا، ليختم الكورنو مرة أخرى قسم العرض بالطريقة نفسها التي فصل بها بين التيمتين. ثم تفتتح الهوائيات الخشبية في عزفها المتقطع قسم التفاعل مع نبر للوتريات يتمفصل معها في مواضع معينة، ويستمر العزف المتقطع مع استعادة التيمة الثانية، وبعض فترات الصمت والتجهيز للاحتشاد. يتدخل البيانو والهارب بعد ذلك بشكل أوضح. يليه صولو الكورنو مع استدعاء واضح لتيمة مشتقة من الحركة الأولى من سيمفونية مالر الأولى، لتتفاعل مع تيمة المؤلف الأولى لهذه الحركة. وبعد استعراض التيمة الأولى بالهوائيات الخشبية يأتي الجزء السريع الشهير، الذي يمثل تسرطن التيمة الأولى لتنتشر بسرعة خارقة بالوتريات، بينما تتمفصل معها النحاسيات، ثم تتخذ طابع المارش بعد دخول الإيقاعيات، لتصل إلى ذروة متقطعة. تأتي إعادة العرض مقلوبة ومعكوسة، ومع تصاعدات على المقام الكروماتيكي تستعاد التيمة الأولى في تبلور أكبر وسيادة واضحة. وتبدأ الحركة في التحلل مع استمرار إعادة العرض، ذلك التحلل الذي يتكون من صولو الأبوا ثم صولو الكمان، مع العزف المتقطع، وزيادة مساحات الصمت تدريجيًا، ثم تنتهي الحركة.
تبدأ الحركة الثانية بالوتريات بتيمة مشابهة لتيمة Dies Irae الشهيرة المشتقة من ترنيمة كاثوليكية في القرن الثالث عشر، التي استغلها رحمانينيوڤ في كل أعماله السيمفونية تقريبًا. لكن المؤلف مارس عليها فعل الإنماء بدلا من استعمالها في صورتها الخامة عند رحمانينوڤ، الذي لم يستعملها سوى كمواضع ارتكاز بين ألحان مختلفة، وهو ما يوضح الفارق الكبير بينهما في درجة التركيب. وكما تكونت الحركة الأولى من ثلاث تيمات أساسية، تحضر فيها تيمة مشتقة من أعمال مالر، تحضر في هذه الحركة ثلاث تيمات أيضًا إحداهن مشتقة من أعمال رحمانينوڤ. أما التيمتان الأخريان في هذه الحركة فهما مشابهتان للغاية لتيمتين إحداهما استُعملت بعد ذلك في سيمفونية المؤلف الخامسة، وإحداهما في العاشرة. وبعد تفاعل سريع مختصَر تستعاد التيمات الثلاث، ويأتي الختام مثالاً واضحًا على التحلل الذي يتخذ بنية موسيقى الآلة الميكانيكية.
تبدأ الحركة الثالثة بالباصون، يعزف التيمة الأولى لهذه الحركة، ثم تتدخل الهوائيات الخشبية، خاصة الأبوا، ثم الكلارينيت، ثم تتحول الحركة إلى طابع مارش بطيء فخيم، يقطعه الترومبيت عازفًا نغمات تستدعي طابع المسارح الشعبية، ويستعاد المارش في شكل انتصاري على حركة عدو الخيول. ثم تأتي الكودا في صورة التحلل المفضلة للمؤلف، يلعب فيها البيانو دورًا بارزًا، وهو ما يخصص وظيفة البيانو نوعًا لإفادة ذلك التحلل.
كما قيل من قبل في سياق هذه المقالات: تبرز لدى الموسيقار السيمفوني في مرحلة ما بعد بيتهوفن عادة سيمفونيتان: ما حول موقع الخامسة، وما حول موقع التاسعة أو الأخيرة؛ فأبرز سيمفونيتين لشوبرت هما الخامسة والثامنة، ولدى برامز الرابعة، ولدى تشايكوڤسكي الرابعة والسادسة (الأخيرة)، ولدى دڤورجاك التاسعة، ولدى سيبليوس الخامسة والثامنة (المحترقة التي لم نسمعها والتي تبرز بسبب إعدامها الذي خصصنا عنه مقالاً من قبل) أو السابعة (وهي الأخيرة إذا استثنينا المحترقة)، ولدى مالر الخامسة والتاسعة، وغيرهم. وهذه هي خامسة شوستاكوڤتش.
وهي مناسبة كمدخل للتعرف على أسلوبه بالنسبة للمستمع غير المتمرس بالموسيقى المعاصرة الكلاسيكية؛ لأنها تستعمل التناقض بشكل أقل نسبيًا من الرابعة، مع مساحة أكبر بدرجة ما من الهارمونية، تبدأ الحركة الأولى بالتيمة الأساسية، وهي تيمة مقبضة، تعزف بالوتريات المنخفضة أساسًا، تليها فترة من الهدوء تظهر فيها التيمة الثانية، ثم يتدرج العمل في التفاعل بين التيمتين، ليصل بعد التصاعد إلى ذروة لها طابع المارش مع سيادة الإيقاعيات. ويزيد الاحتدام في بناء درامي أوضح منه في السيمفونية الرابعة، ثم يفَضّ الاشتباك بإعلان تراجيدي قوي. تأتي بعد ذلك التيمة الثانية في صورة مشرقة، لكن التيمة الأولى تعود في تمفصلات هندسية مقبضة، ليسود الصمت لحظة، ثم تعزف الوتريات التيمة الأولى في صورة منذِرة، وتبدأ الحركة في التحلل بمأساوية واضحة، ويلعب هنا البيانو دورًا أساسيًا في تحلل البناء، لتنتهي الحركة بهذه الكودا، التي قد تكون أفضل كودات شوستاكوڤتش.
الحركة الثانية في صيغة رقصة. تبدأ بالوتريات المنخفضة بقوة وانطلاق، يقطعها الفلوت ثم الفاجوت، لتتصاعد الموسيقى إلى ذروة الرقصة، التي تتخذ بسرعة حركة مارش فخيم مع النحاسيات، ثم يليه جزء شبيه بالتريو، مبني أساسًا على لحن الرقصة، يليه استعادة للجزء الأول من الرقصة بطبيعة الحال بشكل متقطع كليةً، وهو ما يذكر بقوة بالثلث الثالث من الحركة الثالثة من خامسة بيتهوڤن. تستعاد الرقصة ثم المارش مرة أخرى لتختم الحركة بشكل عابث. تأتي الحركة الثالثة فاصلاً طويلاً تأمليًا، لتختم السيمفونية بالحركة الرابعة الانتصارية، في تتابع بيتهوڤني شهير من الهزيمة إلى التأمل والمقاومة، إلى النصر. وتعد السيمفونية ككل من أنجح وأفضل أعمال شوستاكوڤتش.
ألفها شوستاكوڤتش خصيصًا تخليدًا لكفاح المدينة ضد الغزو النازي. هي أطول سيمفونياته، حيث يستغرق عزفها في المتوسط ٧٥ دقيقة. تحمل كل حركاتها عناوين محددة هي على الترتيب: الحرب – الذكرى – رحابة الوطن – النصر. الحركة الأولى في صيغة الصوناتا المقلوبة والمعكوسة، تبدأ بتيمة المدينة العظيمة تليها تيمة الغزو، وهو الترتيب نفسه الذي قدمه تشايكوڤسكي في افتتاحية ١٨١٢، مع فارق هام، هو أن الأخير استعمل طابع الترنيمة الدينية للرمز إلى المدينة، وهو الطابع الذي خلا منه عمل شوستاكوڤتش بطبيعة الحال. وكما استعمل تشايكوڤسكي لحنَا فرنسيًا أصيلاً هو مارش المارسلييز لتصوير هجوم بونابرت استعمل شوستاكوڤتش مارشَ ألمانيًا للمؤلف النمسوي فرانز ليار Franz Lehár الذي تم تكريمه في ألمانيا النازية بلقب (آري شَرَفيّ) بسبب أصوله المختلطة. وبرغم أن ذلك اللحن وديع نوعًا في أصله، إلا أن المؤلف يستعمله في هذه السيمفونية بعد قسم العرض بشكل مهدِّد معادٍ، وربما رمز بذلك إلى حالة السلام المتبوعة بالحرب بين بلده والرايخ الثالث. ويعاد لحن المارش عدة مرات في تلوينات مختلفة، بحيث يتم الضغط عليه في مواضع بعينها في كل مرة، ويستعاد في إعادة العرض بصورة مقبضة.
تأتي الحركة الثانية كإنترمتسو غنائي، متبوع بتيمة أشبه بالمارش السابق. وتنتهي الحركة متهاديةً. بينما تأتي الحركة الثالثة مصورة اتساع روسيا الذي اشتهرت به، والذي عبر عنه جوجول في نهاية الجزء الأول من تحفته الهامة الأنفس الميتة، باعتباره أهم ما يميز الوعي الجغرافي–الوطني للروس. تبدأ بجملة فخيمة بالنحاسيات لتصوير عظمة الوطن، وتُصوَّر بعدها مشاهد مختلفة في الطبيعة، وهي حركة هادئة في مجملها، يقطعها جزء سريع في انتصافها، مع استدعاء للحركة الأولى في ختام الجزء السريع. أما الحركة الرابعة فهي صراع وانتصار معًا على مفتاح دو الكبير. وهي أهم حركات العمل من حيث التفاعلات بعد الحركة الأولى.
والسيمفونية السابعة ككل عمل احتفالي – شعبوي، يفتقد الطابع المميز لموسيقى مؤلفها من التناقض والفصام والمزج بين الحلم والواقع. وكما أن هناك فنانين أكثر إبداعًا وحيوية في سياق الخطاب الموجّه فهناك أيضًا من هم أشد انطلاقًا في مساحات التجريب. وربما كان بالإمكان فعلاً تلخيص كل هذا العمل على طوله وتعقيده في افتتاحية قوية مركزة مثل افتتاحية تشايكوڤسكي المذكورة، خاصة وأن مستمع سابعة شوستاكوڤتش لابد وأن يستدعيها غالبًا.
تتوسط هذه السيمفونية المسافة بين الرابعة الموغلة في التجريب وبين الخامسة القريبة نسبيًا من البناء السيمفوني المعهود. هي من أربع حركات، حركتها الأولى لها صيغة الصوناتا المقلوبة والمعكوسة، وتتكون من ثلاث تيمات أساسية، تأتي الأولى في المفتتح مباشرة بالوتريات المنخفضة، التي تردد هذه التيمة في إصرار ونمو سرطاني، وهي تيمة مقبضة تعطي العمل من بدايته طابعًا رماديًا كئيبًا، لكنها لا تلبث إلا أن تتوارى في الخلفية، لتعزف الهوائيات الخشبية التيمة الثانية الحزينة نوعًا، التي تتردد وتتصاعد، ثم تتفاعل مع التيمة الأولى في ذروة نسبية تستمر قليلاً، قبل أن تهدأ الموسيقى استعدادًا لعرض التيمة الثالثة، التي تُنذر بها نغمات مهدِدة درامية، وبالفعل، فالتيمة الثالثة قد تكون أهم تيمات شوستاكوڤتش من حيث تركيبها المبتكر، والمركب نسبيًا مقارنةً بمختلف التيمات التي استعملها، وهي تيمة سامّة مريضة يعزفها الكلارينيت والفلوت، مع نبر إبراز الصوت على مقطع ما سواء كلامياً أو موسيقياً الوتريات، هذا النبر الذي أجاد شوستاكوڤتش استعماله ليمنح تيماته في ترددها أطرافًا متحركة كأنهما هي حشرة تنمو وتتطور بسرعة لتحلق بعدها فوق الأوركسترا، تلتقط النغمات، ثم تبدأ بدورها في ترديدها في توجس يتدرج إلى الفزع. تهدأ الموسيقى مرة أخرى، ليبدأ قسم التفاعل، وتعزَف التيمة الثانية بالكور الإنجليزي والباصون، منتجة صوتًا غليظًا خشنًا، ثم تبدأ الأوركسترا ككل بالتدريج في عزف التيمة الثالثة، حتى تصل إلى ذروة هي قمة العمل، فتعلَن التيمة الثالثة في سيادة تامة وتبسط عنفوانها على الأوركسترا، وتتعاون النحاسيات والوتريات في عزفها، الذي يستمر من ذروة إلى أخرى في انفجارات مخيفة، والتيمة الثالثة تبدل موقعها من الخلفية إلى الأمامية والعكس. ويمكن القول إنه أقوى وأهم تفاعل كتبه شوستاكوڤتش، وهو مشابه من أكثر من وجه لتفاعل سيمفونيته الخامسة. وينتهي التفاعل بعودة التيمة الثانية بقوة بالأوركسترا، ثم يبدأ قسم إعادة العرض كمقلوب للعرض، نستمع فيه إلى التيمة الثالثة التي يعاد عرضها في براعة حقيقية، ويتدرج قسم إعادة العرض من التيمة الثالثة إلى الثانية، ثم إلى الأولى قرب الختام، الذي يأتي على طريقة شوستاكوڤتش المفضلة في تحليل الحركة إلى مكوناتها الأساسية، في دراما الخلق والتطور والتحلل ثم الصمت.
الحركة الثانية سكرتسو السكرتسو رقصة سريعة حلت محل المينويت في الحركات الثوالث من السيمفونيات بدءا من الحقبة الرومانسية وتتميز بطابع ساخر عادة في طابع المارش. تبدأ بنبضات متجهِّمة قوية مقبضة، ثم يتحرك الكلارينيت سائرًا في خطوات المارش بانطلاقة سوداوية، قبل أن تتسلم الأوركسترا النغمات، ويتضح طابع المارش أكثر، وربما كان أفضل ما أبدع المؤلف في شكل المارش. يستغل فيه ذلك الطابع الذي تحدثنا عنه في التصاعد الكروماتيكي الموحي بالنهاية والكارثة. ثم تعزف النحاسيات نغمات أقرب لضحكات شريرة بالغة العنفوان والشرّ، لتبدأ التيمة الثانية، التي لا تقل عن الأولى في المارش ترويعًا للسامع. بعد ذلك نسمع تيمة جنائزية تعزفها النحاسيات، مما يطرح تساؤلاً حول المرموز إليه في هذا المارش الجنائزي العنيف: هل هو ستالين؟ وخاصة أن هذه السيمفونية قد ألفَتْ مباشرة بعد وفاة الأخير، وبحسب ڤولكوڤ فقد استهدفت السيمفونية جزئيًا على الأقل تصوير شخص ستالين، ثم يعاد عرض المارش سريعًا، ليختتم بضربة أوركسترالية قوية عميقة.
تتضمن الحركة الثالثة عرضًا وتفاعلاً بين تيمتي ديمتري شوستاكوڤتش وإلميرا، بينما تأتي الحركة الرابعة انتصارية نوعًا، بما يذكر السامع بالحركة الرابعة في خامسة المؤلف. وقد يستشعر السامع نوعًا من التعجّل في إخراج الحركة الرابعة، التي لم تأتِ على قدر تركيب وأهمية الحركات السابقة، خاصةً وأنها لا تحتوى الحدث الكارثي للحركتين الأولى والثانية إلا بتأويل مبالغ فيه. لكن العمل في مجمله قد يكون فعلاً أهم أعمال المؤلف السيمفونية وأكملها.
هي آخر سيمفونيات المؤلف، وتمثل درجة أكبر من النضج والإتقان في استعمال شتى إمكانياته، كما أنها أهم أعماله من ناحية استثمار تيمات لمؤلفين آخرين، للرمز إلى شخوصهم أو أعمالهم. وهي أوضح ما يمثل عنوان المقال. تبدأ حركتها الأولى بالفلوت والجلوكنشبيل Glockenspiel، مع تنمية بالباصون، عازفةً تيمة ساشا، ثم تتسلم الأوركسترا التيمة وتطورها، خاصة مع دخول النحاسيات، ثم نسمع تيمة مشتقة من افتتاحية وليم تل لروسيني، والتي ترسم جوّ الحكايات الخرافية للأطفال، وبالفعل، فلهذه الحركة عنوان خاص هو مَحَلّ الألعاب. وتتفاعل التيمتان مع تطوير كل منهما، ويصعد التفاعل مصورًا عدو الخيول، الذي استعمله المؤلف كثيرًا في إنماءاته. ويغلب على كل العروض والإنماءات أسلوب العزف المتقطع بتسيكاتو، بالإضافة إلى استعمال شكل الكانون Canon. أما الحركة الثانية فتبدأ بترنيمة شبه دينية أو وطنية ذات طابع حزين هادئ، وتتبادل النحاسيات والوتريات العزف والتطوير. وعند انتصاف الحركة يصنع المؤلف لونًا من مزج النحاسيات مع الباصون والدوبل باصون مشابهًا صوت الأرغن بالذات. يتبع ذلك جزءٌ مطوَّل للنحاسيات والهوائيات الخشبية ثم صولو الكمان. وتنتهي الحركة بالتحلل مع استعمال تيمة الموت الشهيرة لفاجنر من رباعيته الأوبرالية خاتم النيبلونج.
تخلو الحركة الثالثة من أي دور للنحاسيات، وهي تتخذ طابع الفالس في جزء منها، وتعتمد على تيمة مشتقة من الحركة الأولى من العمل نفسه تعزَف بالكمان خاصة. أما الحركة الرابعة فهي أثرى حركات العمل بالمعالجات المتباينة، مع جزء واضح على إيقاع الفالس قرب انتصافها، مع استدعاء تيمة الحركة الثالثة، التي تتحلل فينتهي العمل. والسيمفونية من جهة توحي باستثمار جوّ الحكايات الطفولية الخرافية كمنظور لرؤية عالم كامل، في إطار ثنائية التراجيدي/الكوميدي والجادّ/الهزلي، وهي من جهة أخرى أقرب إلى معالجة استيعابية لإعادة بناء الموسيقى بدءًا من الرومانسية المتأخرة، وهو أيضًا من الأهداف المباشرة لمفهوم ما–وراء–الموسيقى الذي يرتبط – كما اتضح في ثنايا المقال – بمفهوم موسيقى–الموسيقى.
من الصعب لضيق المقام استيعاب حتى أهم أعمال المؤلف، والتركيز على غزارة ما أنتج من أعمال مبتكرة. في هذا السياق يمكن الإشارة إلى بعض أعماله الأخرى المهمة:
أ– كونشرتو التشيللو الأول: وهو من أعماله التي اقتربت نسبيًا من البناء السيمفوني التقليدي، يعتمد على تيمة دائرية، تلف العمل خاصة في حركتيه الأولى والثالثة. يبرز فيه موضع اتصال الحركتين الثانية والثالثة اللتين لا يفصلهما فاصل صامت. تتدرج الحركة الثانية قرب نهايتها لتصنع ضربات أوركسترالية عنيفة تتمفصل معها التيمة الأولى للحركة الثالثة، تلك التيمة التي تنتهي دائمًا بالنحاسيات ثم بالإيقاعيات، ثم تأتي التيمة الثانية للحركة الثالثة في شكل ميكانيكي واضح، ليختم العمل بسيادة التيمة الأساسية التي تستعاد من الحركة الأولى.
ب– كونشرتو الكمان الأول: قد تكون أهم حركاته التي تبين ديناميكية الانتشار السرطاني هي الحركة الثانية، التي تبدأ بتيمة بسيطة بالكور الإنجليزي والباصون، غير أنها تنتشر وتتوغل في سرعة بالغة، ثم تصل الموسيقى إلى ذروتها لعزف تيمة أخرى في طابع ميكانيكي.
جـ– رباعي وتري رقم ٨: قد يكون أهم أعمال شوستاكوڤتش من جهة استثماره لتيمة DSCH، التي يبنَى عليها العمل ككل، وهو عمل ذو شعبية كبيرة، ويصلح مدخلاً جيدًا لموسيقى المؤلف، وهو كذلك من أشد أعماله ظلامًا وكآبة منافسًا في طابع المرثية الثلاثية رقم ٢ لرحمانينوڤ.
د– متتالية The Gadfly: كمثال على موسيقاه التصويرية: وضعها المؤلف كموسيقى لفيلم سوڤييتي بالعنوان نفسه عام ١٩٥٥، يصور كفاح مناضل إيطالي ضد الغزو النمسوي لبلده. غير أن المتتالية نفسها مشتقة من هذه الموسيقى وموزّعة أوركستراليًا بواسطة الموسيقار السوڤييتي Levon Atovmian (+١٩٧٣). وهي من أعمال شوستاكوڤتش اللحنية، التي نجد فيها ذلك الطابع الدرامي الذي ما انفكّ سمةً أساسية لألحان الروس عمومًا.
إذا كان هايدجر أهم فيلسوف من جهة تعبيره عن ذلك التحول التابع لحالة ما بعد الحرب العالمية الثانية في الماهية الإنسانية، وانمساخ الإنسان إلى آلة، أو إلى مادة بشرية، فربما كان شوستاكوڤتش أهم موسيقار في سياق هذا التعبير أيضًا. وانطلاقًا منه يمكن القول بأن مفقود شوستاكوڤتش لم يكن شخصيًا بقدر ما اتسع ليشمل تصوراته عن الإنسان والمجتمع والعالَم، في نظرة واقعية، تواجه ذلك التكوين الفرداني لمفقود رحمانينوڤ، وسياق الفن–للفن الذي انتهجه، والذي انتهجه أيضًا منافس شوستاكوڤتش الأساسي: سترافنسكي. يتجاوز شوستاكوڤتش هذه النظرة الضيقة ليلمّ بهمّ فلسفي، يصوره ويعبّر عنه باستعمال تقنيات موسيقية، ليست جديدة في حد ذاتها، لكنها موظّفة في إطار مختلف، ولأغراض مختلفة، وممتدة إلى حدود التطرف، لتنقل لنا خلاصة من قلب تجربة الدولة الشيوعية الشمولية، وحطام الحرب الثانية. وقد ألهمت الكثيرين بفحواها وأسلوبها، ليس فقط الموسيقيين، بل كذلك الشعراء، ومنهم كاتب هذه السطور، الذي يفضّل أن يختم المقال بمقطع من إحدى قصائده، والتي استلهم فكرتها من سيمفونية المؤلف العاشرة:
“تزوم النحاسيات في نبرة تحذير (أم هو تهديد؟)، ثم يسير الكلارينيت طريقه المظلم منفردًا، لا مباليًا إلى درجة القسوة، ثم يتصاعد الفلوت على مقام كروماتيكي بارد، يبدأ ذلك اللحن الرهيب، في الحركة الأولى من سيمفونية شوستاكوڤتش العاشرة.
العاشرة حَشَرة، لها ذات البشاعة، وذات الأناقة.
لقد ترك هذا اللحن شيئًا في عقل كل من سمعه، شيئًا أقرب إلى ذلك الرخو ساكن القواقع، ربما سكن قوقعة أذني.
لم يسمعه أحد إلا وخفض رأسه في يأس، وأصيبت روحه بالغثيان.
لا أحد يقيء الروح، وهذه لعبة شوستاكوفيتش.
هل تتحول الفيزياء العامة مع الوقت إلى نظرية في الموسيقى؟
إن “الأوتار” أكثر من استعارة.
وإذا كان تطور البشرية في الحقيقة هو سعي لفهم هذه الحقيقة: أن الموسيقى هي خطة بناء الكون، فما مصيرنا لو كانت السيمفونية العاشرة تحديدًا هذه الخطة؟
لها ذات البشاعة، وذات الأناقة!” ديوان آلة الغسَق، القاهرة، ٢٠١٥
المراجع:
1. سمحة الخولي: القومية في موسيقى القرن العشرين، سلسلة عالم المعرفة، عدد رقم ١٦٢.
Pincus, Andrew L., Musicians with a Mission: Keeping the Classical Tradition Alive, Northern University Press, Boston.
Glikman, Isaak, Story of a Friendship, The Letters of Dmitry Shostakovich to Isaak Glikman, trans. Anthony Phillips, 2001.
Volkov, Solomon, Testimony, New York, Harper & Row, 1979.
Volkov, Solomon, Shostakovich and Stalin: The Extraordinary Relationship Between the Great Composer and the Brutal Dictator, tr. Antonina W. Bouis, New York: Alfred A. Knopf, 2004.
Fay, Laurel E., Shostakovich: A Life, Oxford University Press, 2005, P. 187.
Wilson, Elizabeth, Shostakovich: A Life Remembered, Princeton University Press, 2006, p. 152.
Frey, Stefan, Was sagt ihr zu diesem Erfolg. Franz Lehár und die Unterhaltungsmusik des 20. Jahrhunderts, Insel-Verlag, Frankfurt am Main/Leipzig 1999, S. 338.