ظلال في الليل | بوب ديلان

أصدرت مجلة Rolling Stone قبل فترة قائمتها لأفضل ١٠٠ كاتب أغاني في التاريخ، ونظراً لإغفال القائمة بعضاً من الأسماء الكبيرة كـ جيمي هندريكس وأعضاء من فرق Pink Floyd وLed Zeppelin، فقد تعرضت لنقد شديد، وشهد قسم التعليقات على القائمة نقاشاً حاداً بين متابعي المجلة حول من استحق الظهور ومن لم يستحق. لكن أحدهم لم يشكك بصواب المجلة باختيار بوب ديلان (٧٤ عاماً) ليشغل المرتبة الأولى.

فرغم ازدحام مسيرة ديلان الفنية، والممتدة لنصف قرن، بالكثير من الإنجازات الإبداعية الجذرية، إلا أن أياً منها لا يعادل الثورة التي أحدثها في كتابة الأغنية الإنكليزية المعاصرة في ستينيات القرن الماضي، الثورة التي اتسع تأثيرها لاحقاً لتشمل كتابة الأغاني في كافة أنحاء العالم. لذلك كان مبرراً تفاجؤ معظم متابعي ديلان الأوفياء عند إدراكهم أن ألبومه الجديد لم يضم ولا حتى أغنية واحدة من كتابته.

بالرغم من ذلك، لم يخرج ألبوم Shadows In The Night عن الشخصية الموسيقية التي اتسمت بها أعماله منذ التسعينيات، إذ أنه على خلاف الستينات الجامحة والسبعينات التجريبية، بدأت أعمال ديلان منذ ألبوم World Gone Wrong عام ١٩٩٣ بأخذ سياقٍ واحد، وقدمت شخصية موسيقية جديدة وثابتة إلى مدىً بعيد: تتراوح بين ديلان مرهف المشاعر وشديد الانفعال، وبين ديلان المسن المرير المنشغل دائماً بإنشاد مرثية مبكرة تشمل الماضي والحاضر والمستقبل في آنٍ معاً.

وفي ألبومه الأخير، يعود ديلان إلى ديوان الأغنية الأمريكية النموذجية Great American Songbook، إلى عصر ما قبل الروك، يختار عشر أغانٍ حرص على أن تكون جميعها قد سجلت من قبل أيقونة الجاز فرانك سيناترا، رغم أن معظم هذه الأغاني لم تكتب خصيصاً لسيناترا، إنما قام الأخير بأدائها في مراحل مختلفة من مسيرته الفنية.

ولم يسع ديلان بهذا الألبوم لتمجيد ذكرى سيناترا فقط، بل أيضاً ذكرى كتاب هذه الأغانِ المؤلفة ما بين عشرينيات ومطلع ستينيات القرن الماضي، حيث واكب مؤلفوها إحدى الحربين العالميتين على الأقل، فامتازت أعمالهم بالصدق والانفعال الحقيقي، سواءً في البحث عن علاقة توفر ملجأً عاطفياً، أو في وصف كآبة الوحدة التي خبروها أثناء وما بعد الحرب.

ويوضح ديلان أنه لا يريد إعادة أداء هذه الأغاني التي تم إعادة أداءها بالفعل من قبل مئات المغنين، إذ رأى أن بعضاً من إعادات الأداء هذه قد أساءت استخدام الأغانِ لعددٍ كبيرٍ من المرات مؤخراً، لدرجة أننا اعتدنا سماعها على هذا الحال. بينما يَعِد ديلان أنيصحح هذا الخطأ، ساعياً لاستعادة الأغان من حقبة ما قبل الروك لتصبح قريبةً للمستمع اليوم دون أن تفقد شيئاً من أصالتها، كما دون أن تسلم من بصمة ديلان الواضحة.

وعمل ديلان على تحقيق هذا الوعد على مستويين. فعلى صعيد الأداء الصوتي، فضَّل ألا يحاول تقمص أسلوب سيناترا الغنائي، بل أن يعيد تقديم الأغاني بأسلوبه الصوتي الخاص، خصوصاً ذلك الذي سمعناه خلال العقدين الماضيين، ولو أنه كان هنا أقل خشونةً وبحّةً وأكثر التزاماً بالنوتات حتى كاد أن يتقنها تماماً. بشكلٍ عام يظهر ديلان في Shadows In The Night مستوىً من النضج والتركيز في أداءه الصوتي لم نسمعه منذ ألبوماته في السبعينيات، كما حرص على تجويد كل كلمة بغنىً موسيقي يكسبها معنىً موازٍ لمعناها اللغوي.

أما على مستوى الأدوات الموسيقية، فابتعد ديلان مجدداً عن عادة سيناترا باستخدام الفرق الكبيرة أوركسترات مصغرة، وأقصى البيانو وآلات الكمان بشكل شبه كلي من الاستوديو، فيما أعاد توزيع الأغاني لتصبح قابلةً للأداء من قبل فرفته الجوالة المكونة من خمس عازفين، حيث قدم دوني هارون أداءً على غيتار Pedal الكهربائي المعدني كثاني صوت رئيسي في الألبوم، لتصنع نغماته المتماوجة ببطء، والشبيهة بموسيقى رعاة البقر في تكساس، موسيقى خلفية حزينة صاحبت ديلان طول الألبوم. بينما رفد الكمان والغيتار الجهوريين بألحانهما المرتجفة في خلفية الأغانِذات المجرى الشعوري المنكسر الذي يصبغ التسجيلات العشر على السواء، بينما أقصي الطبال جورج رِسِلي من الاستوديو سوى مِمَّا أتيح له من نقراتٍ خافتة وشبه مكتومة على طبل هايهاتالنحاسي، حذراً من إزعاج السكينة الجنائزية التي تشيع ماضي ديلان.

ولحرص ديلان على أن تخرج الأغاني بذات الطريقة التي يسمعها برأسه، تولى إنتاج الألبوم بنفسه كعادته في الألبومات الأخيرة، ومنع إحداث أي تعديلات أو تأثيرات لاحقة على مخرجات التسجيل، إذ وصل الألبوم للجمهور بذات الطريقة التي سجل بها تماماً.

يبدأ الألبوم بأغنيتي I’m Fool To Want You وThe Night We Call It A Day، المكتوبتين في ١٩٥١ و١٩٤١ على التوالي، لتحكيا بشكلٍ متكامل إحدى المواضيع شديدة الانتشار في فترة الحرب العالمية الثانية: قصة حب مستحيلة ونهايتها الحتمية. شارك سيناترا بنفسه على نحوٍ نادر في كتابة الأغنية الأولى، جنباً إلى جنب مع الثنائي وولف وهيرون، بينما كتبت الأغنية الثانية من قبل الثنائي دينيس وآدير. وعندما ينشد ديلان بصوته المبحوح بشدة والمشبع بنبرة الانكسار: “غادر القمر السماء، وكذلك فعلت النجوم لكن الشمس لم تشرق فجراً لمداعبة الغيوم، سيتملكك شعور قطعي بأن نهاية العالم قد حلَّت.

أما الأغنية الثالثة Stay With Me، والتي كتبت لفلم The Cardinal ١٩٦١، فتحير المستمع ما إذا كان الكاتب يخاطب فتاةً أحبها حدَّ القداسة، أم أنها رسالة استسلام وبحث عن المغفرة الإلهية والراحة الأبدية، ولا يزيد ديلان المستمع إلا حيرةً عندما يحول الأغنية لترتيلة تعبر عن الإرهاق الشديد تحت وطأة الندم والبحث عن الخلاص: “يتملكني البرد، وكذلك الخوف وأعرف أنني قد آثمت – وأمضي باحثاً عن ملجأ – بينما تجفف الرياح دموعي – وأخيراً أصل إلى النتيجة المفاجأة – أن كل الدروب تفضي لحضرتك – وكل ما أستطيع القيام به هو الصلاة: ابق معي – ابق معي“.

وتجتمع الأغان الأربع Autumn Leaves و?Where Are You و?What’ll I Do وFull Moon And Empty Arms على تناول موضوح واحد: الوحدة المطلقة بعد افتراقٍ قاسٍ. كتبت الأغاني بين ١٩٢٣ و١٩٤٥ في فترة ما بين الحربين وخلال الحرب العالمية الثانية، والأرجح أن ديلان اختار عن قصد أن تتحدث نصف أغان ألبومه تقريباً عن هذا الموضوع في هذه الفترة بالذات؛ علماً أن الأغنية الأولى قد كتبت بالأساس بالفرنسية، ولم تترجم للإنكليزية حتى ١٩٤٧، حيث احتفظت بلحنها بينما تغيرت كلماتها ضمن الموضوع ذاته. ولعل أبرز هذه الأغاني هي Full Moon And Empty Arms، إذ تعد الأغنية الوحيدة في الألبوم التي تنتهي ببصيصٍ من الأمل لم يطفأه صوت ديلان اليائس: “قمر مكتمل وأذرع فارغة – وهذه الليلة سألجأ لسحر القمر لأتمنى أمنية – وربما مع اكتمال القمر المقبل – وفي حال تحققت أمنيتي – ستملئي بوجودك أذرعي الفارغة“.

في Why Try To Change Me Now يستعير ديلان كلمات الثنائي كولمان ومكارثي لرسم بورتريه شخصي: “أنا شخصٌ عاطفي – لذا فأحب المشي في المطر – لدي بعض العادات – حتى أنا لا أستطيع تفسيرها“. ولأن خبرة ديلان في كتابة الأغاني استقرت في حنجرته، نراه بات قادراً على تغيير معاني بعض الفقرات بإبدال كل كلمة بمثلها، بعد إغراقها بصوته المشبع بالأسى والتفجع، فيتحول الشطر الأخير من الأغنية من خطاب عاشق لعشيقته، لخطاب يوجهه ديلان للحياة: “ألا تذكرين؟ كيف كنت دائماً مهرجاً في بلاطك؟ فلم تحاولين تغييري الآن؟“.

وبينما يعود صوت ديلان لتغيير Some Enchanted Evening من أغنية عن ضرورة اغتنام الفرص قبل ضياعها لأغنية عن الفرص الضائعة، التي لم يعد أمامنا سوى التحسر على فواتها، تظهر الأغنية الأخيرة في الألبوم That Lucky Old Sun كخاتمة كانت كافة الأغاني تتحرك اتجاهها؛ أغنية يتذمر بها ديلان عن إرهاقه من الحياة، ويتوسل الإله أن يعطيه وظيفة الشمس التي لا شاغل لها سوى التسكع في السماء والتلصص على الفردوس: “أيها الرب في السموات، ألا تشعر بحنيني؟ ألا ترى الدموع تملأ عيناي؟ ألا ترسل لي غمامةً حوافها فضية – لتصحبني لمثواي في الفردوس؟“.

ومن الواضح أن ديلان قد اختار أغانِ الألبوم بحذر وقصدية، إذ لم يترك الألبوم يبني نفسه بنفسه، بل حرص على نحته بطريقة تحافظ على استمرارية الشخصية الموسيقية التي اصطبغت بها أعماله خلال العقدين الأخيرين، خصوصاً من حيث المناخ العاطفي الذي لم يبتعد كثيراً عن ألبومه السابق Tempest صادر في ٢٠١٢، إذ نرى ذات الإحساس بالفقد والخسارة والوحدة، وذات السمة العامة المشبعة بالكآبة ورثاء الذات، أما الاختلاف فيكمن في انحسار نبرة النقمة والغضب والتمرد التي سادت في Tempest، لتترك خلفها استسلاماً هادئاً وشعوراً بالانكسار نراه جلياً في Shadows In The Night.

أما عن صناعة الألبوم فقد تم تسجيله في شركة كابيتول في هوليوود (وفي استوديو تحديداً حيث سجلت أغاني سيناترا)، وانتهت الجلسات بتسجيل ٢٣ أغنية وصل عشر منها فقط للألبوم، ومن غير المستبعد أن يضيف ديلان أغانٍ أخرى في حال إصداره لنسخةٍ فاخرة من الألبوم، أو ربما يصدر باق الأغانِ في ألبوم آخر ذو سياق مماثل.