مراجعات

عن أي اضطهاد موسيقي يتحدث ميكروفون؟

محمد فتحي كلفت ۰۲/۰٦/۲۰۱٤

على خلفية ثورة يناير ٢٠١١ وبالتزامن معها عرض فيلم «ميكروفون»، وشكل هذا عاملا حاسما في احتفاء وليس فقط تعاطف النقاد والمهرجانات والمعلقين والثوريين، بل واعتبره الكثيرون نبوءة فنية إذ يرصد بلا التباس حالة التململ بين الشباب الممنوعين من التعبير عن أنفسهم وممارسة حياتهم وليس فقط من الحراك والتطور – ويفترض أن أحد المشاهد تحية إلى خالد سعيد، ضحية التعذيب السكندري في أحد الأحداث الفاصلة – عشية الثورة، ويوظف بذكاء ظاهرة الجرافيتي في قصته، كطريقة للإعلان عن حفلة، وهو الفن الذي سيصبح أحد الملامح الثقافية البارزة لثورة الجيل السياسية.[Mtooltip description=” انظر مثلا: مراجعتي أورسولا لندسِاي http://www.thenational.ae/arts-culture/music/ahmad-abdallas-microphone-egypt-lightly-fictionalised ونك تشاچر http://www.slantmagazine.com/film/review/microphone/5347″ /]

للوهلة الأولى يبدو كل ذلك طبيعيا ومستحقا ولا غبار عليه. بل هناك ما هو أكثر على مستويات أخرى. ففيما يبدو قطيعة حادة مع تراث طويل في السينما المصرية، غذى وعيا جماهيريا مشوها، تتحطم قصص النجاح الرخيصة للموسيقيين الفقراء الصاعدين على صخرة واقع صلب، لا تزيفه طلبا للسلامة أو تشيح بوجهها عنه طلبا للترفيه سينما جديدة تعيد إلى المجتمع طابعه السياسي، كما تصبح الموسيقى فيها تاريخية ومتواشجة مع صراعاته (وهو هنا امتداد لعملين مختلفين مميزين هما سمع هس، ١٩٩١، وآيس كريم في جليم، ١٩٩٢). لكن نظرة أخرى قد تكشف عن مشاكل فنية وفكرية في سينما وموسيقى الجيل والثورة (المسماتين بالمستقلة والبديلة) تضع مسألة القطيعة هذه موضع تساؤل.

لم يتوقف النقد السلبي للفيلم في بلده كما في العالم العربي والغرب إلا عند الشخصيات المسطحة والحبكات الفرعية الفقيرة، وهي عيوب حقيقية أساسية بالطبع، تطرح للبحث مسألة الشكل والإنتاج، في مجال يزعم استقلاليته واختلافه الجذري لكنه لا يزال يخضع لشروط غير فنية تضر قضيته فيخرج العمل من وثائقيته المثالية المنشودة منذ البداية ويترهل لتحقيق المظهر الاعتباري المقترن بفيلم روائي طويل لمخرج شاب.

لكن العيب الآخر الكبير في رأيي أغفل تماما، وهو الخاص بموضوع الفيلم ذاته، إذا نحينا جانبا كل العناوين العريضة المتزاحمة التي تشي باستمرارية مزعجة أخرى عبر أجيال من صناع أفلام سياسية يريدون أن يقولوا كل شيء، أو بالأحرى يعدوا قائمة بكل شيء، بمنطق كمي وانفرادي (التزلج بالألواح مثال آخر على هذا في الفيلم)، وهو موضوع القمع الموسيقي، أو الاضطهاد الثقافي بمعناه الأوسع.

ينقلنا هذا مباشرة إلى الملاحظة النقدية المشتركة الأخرى في المراجعات، وهي التأثر الواضح بفيلم «لا أحد يعرف عن القطط الفارسية» (بهمان قبادي، 2009)3، وإن لم يُرَ في هذا أمر سلبي كما يوحي دفاع المخرجالكاتب4 الذي يزعم ابتعاد عمله عن مغازلة الغرب على عكس الفيلم الإيراني،5 بالرغم من أنه بعد مرور وقت عبر عن اهتمامه بنظرة العالم لنا وارتياحه إلى عدم وقوع الفيلم في محلية مفرطة.6

لكن المقارنة بين العملين تكشف الكثير عن موضوع «ميكروفون» ومشكلته.7 ولنبدأ بمقارنة الظروف. ففي حين عرض «ميكروفون» في دور السينما التجارية الكبرى في العاصمة والعاصمة الثانية، بدون اعتراض رقابي واحد، وفاز بالجائزة الأولى في مهرجان السينما الرسمي التابع للدولة ببلده، وعرض بعدها مئات المرات على قنوات الأفلام الفضائية العربية، نفي قبادي خارج إيران، وكانت مؤلفته أثناء ذلك في السجن بتهمة التجسس، وبالطبع لا مجال للحديث عن عرض الفيلم أو فوزه بأي جوائز في بلده. وينقلنا هذا التباين بين الحريات المتاحة لصناع السينما في البلدين إلى مقارنة مماثلة بين مجتمعي الموسيقى المستقلة أو البديلة أو السفلية. والكلمة الأخيرة منطبقة حرفيا على المشهد الموسيقي المعني في إيران، وتتوالى في الفيلم مشاهد لقاءات الموسيقيين، الذين يجهلون بعضهم ويجاهدون للتواصل والتعاون، في الأقبية المظلمة أو مواضع حقيقية ورمزية في هامشيتها معا بعيدة عن الأعين، في الخلاء أو على أسطح العمارات السكنية ومع حرص مشدد خشية إبلاغ الجيران للشرطة.

ففي الوقت الذي يتعرض فيه الفنانون بل والمستمعون الإيرانيون إلى الاعتقال والسجن بالجملة، أقيم في مصر المهرجان الموسمي SOS (نداء استغاثة يعني أنقذوا أرواحنا!” [من الموسيقى السائدة]) الذي كان من ضمن رعاته في دورة 2009 شركة ڤودافون وجمعية أهلية على علاقة وثيقة بالدولة والمنظمات الدولية نشأت من مؤتمر السكان والتنمية، كما استضافته مكتبة الإسكندرية وشاركت فيه من فرق الفيلم على سبيل المثال «مسار إجباري».8 ومن المثير للاهتمام، إذا كانت ذروة الفيلم المصري هي منع إقامة حفلة في الشارع، أن مهرجان شارع أقيم بشكل متكرر بدءا من 2005 بأحد أرقى أحياء القاهرة تحت رعاية سوزان مبارك، وشاركت فيه فرقة وسط البلد مثلا وأحد مؤسسيها هو أحد أبطال الفيلم الممثل والموسيقي هاني عادل.9 وهذا فضلا عن توفر عدد من المنافذ الثقافية الخاصة والأجنبية وفرص التمويل المدني والأجنبي لحفلات وألبومات هذه أو تلك من الفرق المستقلة.10

لنجعل آباءنا يروننا نعزف ولو مرة،هكذا تقول نِجار بأمل ومرارة وهي تسعى مع رفيقها أشجان بعد خروجهما من السجن إلى إكمال المطلوب من أعمال وأعضاء جدد وأوراق للخروج من السجن الأكبر للأداء في أوروپا وربما البقاء هناك. فالانتماء هنا للفن، والنبذ والغربة كاملين، والاستقلالية دون أي ميوعة بالتالي. وفي ترديد مشوه لهذه التيمات يقحم «ميكروفون» على موضوعه الوثائقي الأصلي بطله خالد العائد من السفر وصاحبته السابقة التي ستسافر وهكذا—وهو يتقاطع في رحلته مع رحلة ثنائي آخر مقحم من طالبي سينما في علاقة حب أكثر غموضا وخواء دراميا، وتصبح حبكة موقع الإنترنت المصطنعة مكملة لحبكة فيلمهما المتعثر لعدم تفاهمهما، ويضاف التصوير في علبة الحذاء كإيحاء ضعيف آخر بالسرية والمعاناة، والنتيجة ككل هي ادعاء بائس للنضال والمقاومة وتوسل بكل وجه شبه بعيد مع «القطط الفارسية» التي لا يعرفها أحد حقا وتعامل معاملة الحيوانات النجسة المحرم وجودها في المجال العام. (ألم تكن مشاهد محاولة إبقاء السمكة على قيد الحياة مثالا آخر على المحاكاة الساذجة؟)

ولكنك هنا لا يمكنك أن تلعب أي نوع من الموسيقى،يقول أشجان، في مشهد مع نادر المخلّصاتيوالموسيقي هو نفسه والذي يكشف لنا في خط تراچيكوميدي دهاليز وتشابكات النظام بطريقة تتواضع أمامها أكثر شخصية المسئول الحكومي المضخمة بشكل كاريكاتوري فج في «ميكروفون»، مشهد يذكرنا بالسامزدات في الاتحاد السوڤييتي، حيث متابعة الاهتمام الفني وتداول الأعمال نفسه حالة مقاومة ثقافية، على عكس ازدواجية الفنان والمثقف المصري الباحث عن رعاية وحماية الدولة مع ادعاء معارضتها والتمايز عنها في الوقت نفسه،11 والتي يكشف «ميكروفون» دون أن يدري أو يقصد استمراريتها، والبحث عن الجمهور بأشكال تؤدي إلى تنازلات فنية ورقابية، وكل هذا يجرد مفهوم الموسيقى السفلية، أو حتى المستقلة أو البديلة، من معناه، ويمكن سحب ذلك على كل إنتاج فني وثقافي جماهيري مماثل.

إن الرقابة في مصر، الأكثر توحشا مع الوسائط الأكثر جماهيرية من الكتاب12، ليس هناك ما يقلقها في فيلم عبد الله، وقد قنع هو وزملاؤه فيما يبدو بأن غاية الطموح هي تسريب كلمات مثل خراوتشفير الألفاظ البذيئة (مثلما في مشهد الشتيمة الموجهة على الحائط إلى المسئول الحكومي)، بل وستتكفل الرقابة الذاتية باستبعاد اللازمة المشفرة لأغنية ألف حا هيه” (اختصار أرفض حدوث هذاوفقا للفريق). لكن هذه ستكون أسبابا إضافية كافية لزهو شباب الجيل الذي يغازله عبد الله بانتصاره الطفولي لهم.

وفي القاهرة كما في الإسكندرية، فالفيلم لم يقنعنا بخصوصية ما للأخيرة، لا يجد الموسيقيون السفليونغضاضة ليس فقط في رعاية الشركات العالمية الكبرى والاستعانة بالظهور في السينما والمسلسلات التجارية بل يصبح بعضهم مادة دعائية (إن لم يشاركوا في إعلانات تقليدية حتى)13 في عصر أصبح فيه رأس المال تحت لافتة الدور الاجتماعي يسوق شخصية ثقافية لنفسه تستقطب جمهورا شابا يتميز على عكس الأجيال السابقة بميوعة فكرية تحت لافتة الرحابة. وينقلنا هذا التشوه إلى إعلان موبينيل الذي زعم عبد الله اضطراره إليه لدعم مشروعه التالي «فرش وغطا»14 (لم تكن تنازلات «ميكروفون» كافية إذن!) ولتحليل الإعلان بعدان فيما يخص موضوع بحثنا: الأول هو حدود الطابع المستقل/البديل/السفلي للموسيقى المعنية، والثاني اتصاله المباشر بوعي المخرجالكاتب الخاص بقضية الاضطهاد الثقافي الموسيقي في بلده.

ففي تحية اعتذارية واضحة، وإن كانت مشوهة تماما، تزيد الطين بلة وتمثل ذنبا جديدا، يبرز الإعلان أنواعا موسيقية محلية مثل السمسمية والبدوية السيناوية والنوبية (إلى جانب، طبعا، تكنوشعبي قاهري وهِپهوپ في ترام الإسكندرية). الرسالة الجامعة في الفيلم الإعلاني القصير هي التأكيد على الوحدة الوطنية والتنوع مع قيم شركاتية مستوحاة من خطاب التنمية الذاتية، حيث تظهر صورة مصر مصقولة مثالية بشكل تعبوي ليبرالي جديد (ويزيد الأمر سوءا في اللحظة الثورية باتخاذه أبعادا مضادة للثورة تذكر بقصيدة بريخت عن احتياج الشعب الثائر إلى العمل كي يستعيد ثقة الحكومة). ويتكرر الاعتذار الكاشف عن الإحساس المستجد بالذنب في «فرش وغطا» في لقطة وثائقية لشهادة أحد مقموعي الموالد.

يلاحظ سامي السلاموني بأسى كيف انحرف وتدهور مخرجون مصريون واعدون وكبار بسبب رضوخهم لشروط السوق،15 ويبدو أن الفارق بين تلك الأجيال والجيل الجديد بمخرجيه الأوسع حيلة أن الأخيرين بينما يدّعون اقتصار التنازل على مجال خارج الفن نفسه فإن خطابهم الفني وتأثيرهم في المجال العام يصبح في أفضل الأحوال مشوشا ومزدوجا، ولا تعدو تطهريتهم الفنية16 إلا ترديدا لازدواجية عتيدة تذكرنا برد نجيب محفوظ على جمال الغيطاني عندما لاحظ الأخير اختلافا بين ما يقوله في أدبه وفي الصحافة: “صدق إذن العمل الفني.”17

ومن المفيد أن نتذكر هنا كيف حوّل الشيخ إمام أغنية لسيد درويش (الحاضر في الفيلم وفي المشهد الموسيقي الشبابي السكندري، وهو ما يستدعي مقارنة أخرى تخص المحتوى والهم الاجتماعي والتجربة والتطور الفني والاستقلالية بين درويش وأحفاده)، لتصبح سالمة يا سلامةعبارة ترحيبية ساخرة بكوكاكولا جات بالسلامةفي مطلع الليبرالية الجديدة. وبعد أكثر من ثلاثة عقود، يمارس عمرو دياب رقابة ذاتية (إن لم تكن رقابة شركاتية سافرة) فيمتنع عن ذكر كلمة كوكاكولافي أغنية رصيف نمرة خمسة18 من فيلم «آيس كريم في جليم» الذي سبق إلى تناول موسيقى الشارع وتحكم المنتجين بفنية وواقعية أكبر رغم اعتماد الفيلم على المغني الرائج آنذاك.

ويضعنا كل هذا أمام السياق التاريخي والاجتماعي المحجوب في «ميكروفون» (ولعله لو اختار مسارا مختلفا لاتزن بالمقارنة مع «القطط الفارسية»)؛ ففي فيلم يوسف شاهين «العصفور» (1972) كما في مشاريع تخرج معهد السينما عبر عقدين على الأقل، يذكر الشيخ إمام باسم إمام عيسى إرضاء للرقابة وتحايلا عليها. (وبالرغم من تخفيف القبضة كثيرا في سنوات مبارك الأخيرة بفضل الإنترنت جزئيا – بل ومبكرا باعتبار المسرحية الغنائية «الملك هو الملك» 1986 التي عرضت إعادة إنتاجها في العقد التالي على القناة الثقافية الرسمية وهي من أشعار أحمد فؤاد نجم، الصنو الشعري لإمام – لم يظهر فيلم عنهما إلا في أعقاب الثورة، بغض النظر عن انتهازيته التجارية.)

ولا تتوقف المسألة أبدا عند قمع الموسيقى السياسية الصريحة، وهو ما يمكن أن يصل كما حدث في بلدان أخرى إلى اغتيال المغنين (الراپجي باڤلوس فيساس في اليونان مؤخرا بعد إبراهيم قاشوش في سوريا، ويذكر في الماضي ڤكتور چارا). وتتخذ المسألة في مصر بعدا إثنيا في حالة النوبيين مثلا بمضايقات الشرطة لخضر العطار في عقد 1980 لأدائه أغنيات مناهضة للتهجير في الأعراس—في الوقت الذي كانت فيه الموسيقى البديلة/المستقلة في القاهرة تعلن بكلمات فؤاد حداد الشيوعي المعتقل من قبل عبد الناصر وعلى لسان محمد منير ومن ألحان أحمد منيب النوبيَيْن رجع يا نوبة عنواني / كوم امبو رايقة وأمينة“.

وما يثير الاستغراب هو إذا كان عبد الله لم يشأ أن يصنع فيلما عن مأساة المتّيلة (مستمعي الميتال) التي شهدها في مراهقته19 (وهذا الوصم بـالشيطانيةمأساة معاصرة في «القطط الفارسية» بل جدّد فاصل قصير النسخة المصرية من المأساة في القاهرة بعد صعود الإسلاميين20) فلماذا لم يربط بها أو حتى يشير إليها مجرد إشارة في «ميكروفون»؟ هكذا يضيع فرصة ذهبية لإكساب عمله اتزانا في الشكل والمضمون، إن كان شباب الجيل هو ما يعنيه حقا، ولتفادي إحراج مواطنيه (الأسماك) أمام الإيرانيين (القطط)!

لكن ما يغيظ بالفعل هو تضخيم الاضطهاد الثقافي المزعوم لموسيقى جيل يحاول أن يهجن ويبدع في بلد موسيقاتها الأصلية هي المضطهدة. والمفارقة الساخرة (وربما فرصة الربط الضائعة الأخرى، والواهية) وجود أغنية زارفي الفيلم، ما يحيلنا إلى موسيقى مقموعة شيطانيةأصيلة (ويلفت انتباهنا إلى خلط الأغنية بين الزار والمولد الشعبي، لأغراض القافية ربما). والسمسمية حالة أخرى لتحالف الليبرالية الجديدة مع السلطة والنخب معا في الحرب على الثقافات الموسيقية الوطنية21، وتعد الحرب على الموالد الشعبية مثالا كاشفا أكثر من غيره فيما يخص تحالف الشرطة والقوى الدينية22 وهو تحالف ألمح له الفيلم على استحياء.

وتتعمق انعزالية صناع الفيلم وأبطاله على السواء – وهم يمتعضون من الاهتمام بمعيدي أغاني أم كلثوم على حسابهم – إذا أضفنا معاناة الموسيقيين النقابيين23 والتي أبرزها فيلم «هستيريا» (1998)، وهو انفصال يشتد غرابة بعد الثورة التي يفترض تجاور مطالب الشباب فيها مع مطالب العمال. فأي معنى يبقى لجذور الميكروفون على أفيش الفيلم؟—إذا نحينا تهويمات الفيتيشية السكندرية التي تأخذ سابقتها في «هليوپوليس»، فيلم عبد الله الأول والأفضل بمراحل، إلى مستوى أعلى تماما يتضافر فيه البصري مع شريط الصوت في أغنية عن الإسكندرية تعيد إنتاج قصائد الفخر القبلي التي عفت عليها القرون مقابل بيان سياسي بديع من الراپ في «القطط الفارسية» عن قبح وظلم طهران، المدينة الحية دون نوستالچيا.

صراع أجيال—هذا هو كل ما يراه فنانو الجيل الصاعد في مصر. وضيق النظرة الجيلية هنا يتواضع حتى بالمقارنة مع ما يرويه بعض ضحايا حقبة ملاحقة المتيلة عن طرد آبائهم لهم من المنزل (وهو صراع اجتماعي وسياسي يتخذ شكلا جيليا ليس إلا)، فنجد عوضا عن ذلك قصة هلامية ماسخة عن اتهام شاهين بسرقة مصوغات خالته وهروبه من الشرفة. وهو في مشهد آخر يرتل راپه على والد خالد، وهو موسيقي معتزل مكتئب، فيطالبه الأخير بالإبطاء. وهذه اللمسة الكوميدية الذكية كانت تقبل التطوير لمعالجة الفروق الثقافية. وفي «القطط الفارسية» مثلا لمسة موازية تتضمن السخرية من الذات والآخر عندما يشكو عامل المزرعة من توقف الأبقار عن در اللبن منذ بدأ عزف موسيقى الميتال هناك. ليست المسألة اختلاف الأجيال فقط، ويقدم لنا عدم اعتراف نينا سيمون مثلا بالراپ (الأصلي)، إبداع بني جلدتها، مثالا غنيا عن التناقضات الثقافية والعرقية والطبقية عند مغنية تعتبر الزواج من الرجل الأبيض تنازلا مرفوضا بينما تتقن الپيانو الكلاسيكي لتبزّه في ميدانه.24

والإمكانات المجهضة في «ميكروفون» كثيرة. أولها التضحية بقوة القصة الأساسية التي ضاعت في الزحام وهي لجوء فريق من الفتيات إلى ارتداء أقنعة خشية أهلهن وأصحابهن، وحتى المشهد المشحون في السيارة مع صاحب إحداهن يختزل بعجلة واقتضاب غريبين ومحبطين—واسم ماسكارادمج بليغ بين معنى القناع ودلالات التجميل النسائي. لكن الإمكانات تشمل أيضا ما كان لوثائقي أو شبه وثائقي أن يبحثه من خبرة الموسيقيين الجدد في التجريب والتهجين (في «القطط» جملة حوارية عن الإنديروك الكردي، لكنه بالطبع يركز على خط القمع الحقيقي) وماهية التطوير الذي تم على أيديهم بعد ثلاثة عقود من ظهور الچاز أو الروك الشرقي على أيدي جيل أساتذتهم. ويجدر بالذكر أن عرضا موسيقيا أعيد إنتاجه مرارا منذ أواخر عقد 1970 استلهم مقابلات ستادز تركل مع العمال وهو يسجل تاريخا شفاهيا عن العمل. وهذا جسر حقيقي مفقود بين الموسيقيين والمشاهدين كجماهير غفيرة من العاملين بأجر. وينبهنا حوار في «القطط» عن السوداوية في الأغاني إلى جانب مهمل آخر هو الاتجاهات المتنوعة العدمية والأناركية وغيرها عند الجيل والمتناقضة مع استمراريات وطنية ورومانسية ومحافظة أطلت برأسها في أغاني الفيلم.

هل كان الفيلم وصفة جاهزة واستهلاكية تستغل جاذبية شكلية للجديد؟ يمكننا على الأقل أن نتعشم في ألا تكون هذه عملية واعية (أم من الأفضل يا ترى أن تكون واعية؟!) ومما يستحق التشجيع اتجاه المخرج إلى التجريب بالكاميرا الرقمية الخفيفة دون سيناريو يذكر25، وإن كانت مرونة السيناريو لا تبرر خفة الرؤية. وفي الأفلام الثلاثة في مسيرة المخرج يبشرنا المشترك الفني بأن عالمه السينمائي آخذ في التكون ويشي بحساسية جديدة تؤكد على التفاصيل الإنسانية والفردية المرهفة. لكن الإقناع الفني يتطلب من الجيل العمل على مزيد من الربط والتحليل والاهتمام بسردية أغنى، بما سيخدم السلاسة والتدفق شكلا ومضمونا عوضا عن الارتباك الحادث. وربما على الجيل أيضا مراجعة تناقضاته الأيديولوچية، من قبيل السينيكية التي تجعل كل شيء قابلا للسخرية دون ضرورة أحيانا—مثل إصدار حكم أخلاقي عابر غير مفيد للقضية على المسئول الحكومي من خلال زلة لسان سوفتوير والا هاردكور؟للإيحاء بأن الرجل المتشدق بالأخلاق يشاهد الأفلام الإباحية.

والمراجعات المطلوبة تشمل نقاش الشكل والمضمون، والصنعة والفن، ومعنى الاستقلال الفني وتحديد

مَن الجمهور ولماذا، في زمن تتأكد فيه في آن واحد تناقضات وإمكانات الاستنساخ الآلي للفن التي رصدها پول ڤاليري وڤالتر بنيامين، أي إضفاء التوحيد القياسي الصناعي عليه، وانفجار أشكاله المحتملة في الوقت نفسه بما يخدم المضامين الثورية.26

إن «ميكروفون» كفيلم سياسي مدجن يئول إلى إعلان غنائي ترفيهي طال فوق الحد لأسباب إنتاجية ومظهرية بلا دراما ولا أفكار ولم يكن يفترض بهذا أن يحدث أبدا. لكنه على أي حال ومن حيث لا يدري يكشف اختلالات محتوى الجيل الغارق في تمجيد الذات والتمحور حولها وفي الوقت نفسه إعادة إنتاج خطاب خصومه.

4انظر مثلا: محادثة بين المخرج ويسري نصر الله على تويتر https://twitter.com/ahmada2/status/233563022789079040

5حوار مع المخرج في الشروق الجديد، سبق ذكره http://www.masress.com/shorouk/333588

6حوار مع المخرج في موقع دويتشه ڤيلله، سبق ذكره http://dw.de/p/12C0u

7انظر: مقارنة إليز ناخنكيان http://www.slantmagazine.com/house/2011/29/new-directorsnew-films-2011-microphone وهو يعتبر الفرق بين «ميكروفون» و«القطط الفارسية»، بعد اعتبار الأول مشابها بشكل لافت للثاني، بالفرق بين حمام سباحة أطفال وآخر عميق.

10انظر مقال رامي أبادير في الموسيقى المستقلةhttp://www.ma3azef.com/node/264 وردّ شارل عقل http://www.ma3azef.com/node/267 وتعليق أيمن حلمي http://www.ma3azef.com/node/269 والتي ظهرت جميعها على معازف. أنظر أيضاً مقال أحمد ناجي في أخبار الأدب عن المؤسسات الثقافية المستقلة http://www.dar.akhbarelyom.com/issuse/detailze.asp?mag=a&field=news&id=7965

11للاطلاع على مناقشة تفصيلية لهذه القضية انظر: «بين كتبة وكتاب: الحقل الأدبي في مصر المعاصرة»، ريشار چاكمون، ترجمة بشير السباعي، دار المستقبل العربي، 2004

12المصدر السابق.

13تناقضات الموسيقى المستقلة، رامي أبادير http://www.ma3azef.com/node/264

14محادثة مع المخرج على تويتر https://twitter.com/ahmada2/status/279391954863812608

15«الأعمال الكاملة: الجزء الثاني»، سامي السلاموني، إعداد: يعقوب وهبي، الهيئة العامة لقصور الثقافة، 2001

16في المحادثة السابق ذكرها مع المخرج استخدم كلمة مقدسة“: https://twitter.com/ahmada2/status/279391954863812608

17«نجيب محفوظ يتذكر»، جمال الغيطاني، أخبار اليوم، 1987، القاهرة، ص 9، مذكور في «بين كتبة وكتاب»، مصدر سبق ذكره.

18انظر: تعليق محمد خير http://www.al-akhbar.com/node/182498 وفيه: “بمفردات بسيطة، تتناول الأغنية أيضاً القسوة الاجتماعية وعبد الله رشدي المحامي القدير/ بيرفع قضية في باب الوزير/ على عم فكري بتاع البليلة/ عشان مرة زعّق بصوته الجهير، ثم تصف هوس الانفتاح: “بقالة الأمانة ونصحي السروجي/ عاملين لي شركة في مشروع بوتيك/ ونادوا لعبده الفرارجي يشاركهم/ فردّ بألاطة ما احبش شريك، قبل أن تتطرّق إلى مآل الحياة في ظل المجتمع الاستهلاكي: “تبزنس تعيش لآخر حياتك/ ولو باعوا فرخة هاتاخد عمولة، وصولاً إلى مجتمع يملأ شوارعه أطفال عجايز/ في مهد الطفولة/ وأفلام قديمة وإعلان كاكولا”.ومنذ أيام، فوجئ مشاهدو الڤيديو المحمّل على يوتيوب الذي انتشر بسرعة على فايسبوك، بـ«الهضبة» يغنّي المقطع الأخير من دون أن يذكر كلمة «كاكولا». لكنّ الخطوة ليست صدفة، فقد كرّرها النجم المصري مرّتين، مكتفياً بإشارة من يده، في ما بدا احتراماً أكثر من اللازم لتعاقده الإعلاني مع پيپسي (المنافس الشرس لكوكاكولا في سوق المشروبات الغازية)، وخصوصاً أنّ كوكاكولا استخدمت في الأغنية في سياق انتقادي.”

22“Downswing: Moulids are under pressure from all sides,” Jennifer Petersen, Cairo Magazine, 2, 10-16 March 2005, pp 14-9. (لمطالعة نسخة: www.scribd.com/doc/138499456/Downswing-Moulids-are-under-pressure-from-all-sides)

23انظر شهادة مسجلة للطبال الشهير خميس حنكش: https://www.youtube.com/watch?v=j9iLiVdTOU8

26“The Work of Art in the Age of Mechanical Reproduction”, Illuminations, Walter Benjamin, Routledge, 2001.

المزيـــد علــى معـــازف