عن وردة، ريش النعام وثقافة الإقصاء

كتب اسماعيل فايد في معازف مقالاً بعنوان وردة: تجلّي الكيتش المصري في الأداء“. العنوان كان موفّقاً لحد ما، لأنّه رصد تقارب أداء وردة مع نوع ما من الغناء، أو نسق ما. لكن على عكس العنوان، جاء محتوى المقال بما يشبه المحاسبة لأداء وردة، بتبنّيه وجهة نظر محافظة، وحتى استعلائيّة، تحاول تغييب وجهات نظر أخرى. ووصل الأمر إلى انتقاد طريقة ارتداء وردة لملابسها عندما يقول: يمثّل حضور وردة وأداؤها عناصر الكيتش بشكل أوضح في هذا التسجيل، فنراها مرتدية ريش نعام، وفي ظل غياب الألوان ما زالنا نرى لمعان الفستان الذي ترتديه مع ارتدائها حلي بمثل ذلك البريق أن لم يكن أكثر بريقاً منه. وهو ما يعتبر ذوقاً شخصيّاً لا يهتم القارئ بمعرفته إذا ما كان المقال بصدد مناقشة مكانة وردة في الكيتش المصري: وهو الذي لم يفعله ولم ينتبه إلى أن الأداء (والذي أسهب في تعريفه في مقال سابق على معازف) عند وردة لم يتحوّر ليلائم متطلبات الكيتش المصري، بل أداؤها الشعبوينفسه منذ أن بدأت الغناء في الصالات أو الكباريهات في باريس ثم بيروت.

أقتبس هذا المقطع بداية لأوضّح أن مشكلة المقال الحقيقيّة ليست مع وردة أو مع أي فنان غنّى ضمن الكيتش المصري، لكن مع الكيتش نفسه:

ولكن هذا ليس ما يركّز عليه المقال، فالتركيز هنا على الجماليّات التي يتم استخدامها للتلاعب بالمشاعر بشكل سهل أو فج من دون إعطاء المساحة أو الفرصة لمن يستقبل ذلك العمل الفرصة لفهم أو تدبر ذلك الرد الفعل العاطفي. إذ يرى البعض أن في هذا التساهل والتبسيط إعلاء لقيمة التكرار والتماهي وتمجيد ما هو مألوف وما هو متعارف عليه على حساب قيم الإبداع والتدبّر، ما يمنع تطوّر موقف نقدي تجاه العمل وتجاه موقفنا منه. ومن هنا يظهر التساؤل: هل يمكن أن نستعيض عن مصطلح كيتشبمصطلح بلدي؟ وماذا يمكن أن يكشف مصطلح بلديمن مفاهيم أو أفكار تقارب مصطلح كيتش؟

هنالك نقاط أحب توضيحها بدايةً:

أوّلاً: الحديث عن كيتش مصري ليس دقيقاً، وهذا ما أعجبني في الاقتباس عندما أراد تبديله بمصطلح بلدي، لأن الكيتش المصري متنوّع مثل الكيتش الناصري، والذي كانت أم كلثوم من أهم من رعوا هذا النوع وأبدعوا في الترويج لمشاريعه.

ثانياً: أثار المقال نقطة مهمة تحدّثتُ عنها في مقال سابق على معازف أيضاً، وهي: أن الكيتش كمصطلح لا يعني فقط نسخة مشوّهة أو تجاريّة من عمل فنّي ما. إذ ومع أن هذا الاصطلاح ظهر في اللغة الألمانيّة، لكنّه تغيّر مع الوقت ومع انتقاله إلى لغات أخرى. فالكيتش يستطيع أن يكون سرديّة كبرى، أو كليشيهات كثيرة تصنع وهم شعب حول نفسه مثلاً، مُقصيةً كل ما هو غير مرغوب وغير متعارف عليه، (كيتش الثورة الجزائريًة مثلاً وإدخالها في أي خطاب لاستدرار المشاعر وشلّ التفكير، إذ أن هذا قابل للتطبيق داخل كل أنواع الخطابات). وشل التفكيرهو ما يعني التأثير على جماهير أوسع، و بالطبع من شرائح لم تتربّى على ثقافة وقيم بديلة عمّا تقدّمه السلطة أو النظام الذي يحتكر هذه السلطة بكل أنواعها ويوظفها قبل كل شيء في تشكيل عقول الناس بطريقة تورّطهم في ترسيخ مكانته.

ثالثاً: السنوات التي أعقبت عودة وردة الى الجزائر كانت الأسوأ في حياتها، إذ تزوجّت من جمال قصيري، وهو شخصيّة عسكريّة معروفة وجلست في منزلها. في العام الذي تطلقت فيه، قال لها الرئيس السابق هوّاري بومدين: “غنيلنا في عيد الاستقلال، لكن زوجها لم يعجبه الكلام أمّا هي فصمتت. لكنّها عادت لتتخذ قراراً بالغناء بعد ذلك، منهيةً زواجها، عائدة إلى القاهرة. لا لأنّها فضّلت الفن على بيتها، بل لأنّها تحب الحياة والاستمتاع بها. إذ لم تكن يوماً شخصاً يحب الرسميّات والمظاهر. فعندما جاءت إلى القاهرة، سواءً في المرة الأولى أو الثانية بعد طلاقها، كانت وردة وهذا مهمالفتاة القادمة من تقاليد أخرى وثقافة أخرى حتى ولو كانت باريس أو بيروت. هنا نذكر ما قاله حلمي بكر على قناة فضائيّة ليلة رحيل وردة: “أوّل ما تعرفنا عليها كان بيتها مفتوحاً للجميع وتعامل الجميع بلطافة زائدة، حتى ظن كل واحد منّا أنّها تتودّد إليه“. وهذا يعني أنّها الفتاة المنفتحة القادمة من باريس إلى مجتمع شرقي محافظ، وهذا ربّما ما كرّس النظرة البلديلدى بعض الطبقات، وأيضاً فكرة الفتاة السهلةالتي لم يقلها بكر مباشرة، قبل أن يستدرك: “في النهاية اكتشفنا أن طريقة تعاملها مع الناس كانت كذلك، مع الكل يعني و ليس شيئا تخص به شخصاً معيّناً“.

وردة بنت الخشبة

وردة بنت خشبة. وهذا بالضبط ما جلب التعليقات الطويلة على الأداء والارتجال وعدم احترام الوحدة الموسيقيّة، والتي لن أخوض فيها لأنّه خلط بين أداء وردة الشخصي والذي لم يكن ليتغيّر لو غنت في مكان آخر، وبين تقاليد موسيقيّة يريدها جامدة وقالب يضع فيه الجميع. ولأنّنا وبقراءة شيئين اثنين يخصّان المقال نفهم السبب:

أولاً: في الاقتباس لم تكن والدتي الوحيدة التي نعتت وردة بأنّها بلدي، فلقد اكتشفت بعد ذلك التسمية الشهيرة التي حظيت بها من قطاع ليس بصغير من الناس أنّها مطربة سواقين التاكسي، إشارة إلى ربط الذوق بالمستوى الاجتماعي والاقتصادي، وبالتالي يصبح تفضيل سائقي سيارات الأجرة دلالة على فساد ذلك الذوق لغياب القدرة على تمييز الغث من الرديء.” هنا نجد نوعاً من الاحتقار الطبقي تجاه هؤلاء الناس: سواقو التاكسي والعالم الذي يمثلونه وكيف أنّهم لا يحسنون الاختيار. وهنا نطرح نقطة أخرى، وهي أنه كان من الأوجب عدم ربط وردة بالكيتش المصري، فهذه مغالطة، بل كان يجب العودة إلى أصول هذا الكيتش لدى أوائل المطربين الذين أنزلوا الفن من القصور إلى الشارع (بما أنّنا نتكلم عن مصر)، حيث أنهم هم –حسب وجهة نظر المقالالمسؤولين عن إفساد الذوق. وهذه مسائلة غير ممكنة، لأن السؤال الذي يقول: لماذا خلق العامةفنّهم وقوسطوهم (القوسطو كلمة اسبانيّة تعني المزاج)، هو سؤال عبثي.

ثانياً: نفهم في المقال السابق في معازف عن نظرية الأداء عند أم كلثوم وويتني هيوستن أنّنا بصدد مقارنة شيئين مختلفين: نموذج المطربة المصرية الكلاسيكيّة الراسخة في ثقافتها الإقصائيّة:، وأخرى أجنبيّة دخلت إلى هذه الثقافة وفرض عليها تعلم اللغة واللهجة. وكما قالت في إحدى حواراتها: “كنت أقولهم أغني في الفيلم وما اتكلمش، أصلي ما كنتش أتكلّم مصري كويّس“. تفاعل وردة مع جمهورها وإفراطها في استعمال الكيتش (استدرار المشاعر واللطخ كما في المقال) لم يكن لأنّها هي كيتش (المعنى الثاني: نسخة مشوّهة)، بل لأن الناس والصناعة كانت مهيّأة لذلك، والجمهور كان يريد أن يبكي ويتأثّر كما تأثّر وتأوّه هو أو غيره مع أم كلثوم مثلاً. والانتقاد الحاد لعالم الكباريهات، بل والكلام عن الجمهور بصفة إقصائيّة (انتقاده للجمهور غير الرتيب والجاد)، وحتى أدائها هي عندما يقارن تفاعله مع تفاعل أم كلثوم قائلاً أن هذا الأخير كان تقنيّاً وفنيّاً. زِد على أنّ هذا المقال يناقض ما جاء في المقال السابق، حيث أن الأداء حسب ما ورد مرتبط بأشياء كثيرة منها الحالة الاجتماعيّة والسياسيّة. ورغم ذكر لحالة وردة الاجتماعيّة، إلّا أنّه لم ينتبه كثيراً لتأثيرها على شخصيتها، ومن ثمَّ أدائها.

يعني، مرة أخرى: لا يمكنه محاسبة طبقة سواقين التاكسيعلى ما يستمعون إليه، لأنّ ذلك سيحيلنا إلى سؤال أوسع: لماذا أنتم هكذا؟ أو لماذا لستم مثلنا؟

وفي النهاية، الكيتش المصري (أو مصطلح بلدي“) شيء حقيقي وموجود منذ عقود حتى لا نقول قرن، يمكن لأي شخص مساءلته لكن داخل حدود الفن، حتى يوضح ما هو أصيل وما هو زائف، أو ما له جذور وما يلعب على الكليشيهات. لكن مساءلة الأذواق وتحويل النقد الى أداة تمييز طبقي، والتضحية بشخص لمساءلة نسق كامل يعتبر مغالطة. لأن الكيتش، مرة أخرى، كاستدرار للعواطف والمبالغة، موجود قبل وبعد وردة، والأخيرة ساهمت في تاريخ هذا الكيتش، ولم تكن كيتش بمعنى نسخة مشوهة، لأن الصدف وحدها من جمعت وردة بالكيتش المصري.

كان من الممكن أن تواصل وردة مسيرتها في فرنسا، وتصطدم بالكيتش الفرنسي، مؤدّية الشونسونات la chansonnette، لتركّز فقط على إفراح وترقيص الناس. فهل يصبح العنوان آنذاك، حسب الكاتب، وردة: تجلي الكيتش الفرنسي؟

المصادفة هي من جعلت وردة تأتي للمشرق، تحب الطرب العربي، أن تعمل في مصر، تعرف بليغ، يتركها بليغ أو يفترقان، تعمل في مجال الغناء في بلد ليس بلدها، هي التي لم تعرف استقراراً في بلد معيّن. قال أحد مغنيي الشعبي الجزائري عن اللون الذي صار يغنيه في فرنسا، وهو جزائري يهودي طرد بعد الاستقلال: كنت مجبراً على تغيير نوع الغناء والدخول الى ثقافة أخرى: أكل الخبز، وترقيص الناس.