في البدء كانت العيطة

لا شيء في الأفق غير صومعة الجامع، البئر، حقول زيتون تتلوى عبرها طرق الضرك أو الصبار والجبال البعيدة. هذا عالم من يعيش في سهول أحواز مراكش كما تراه عينا العابر، لكن من يعيشون فيه يلاحظون اصفرار أوراق الزيتون ويسمعون خلف نباح الكلاب سيل مياه الساقية، منغمسين في حياة يومية تبدو جامدة وبسيطة للمار من بادية العروبية. كذلك غناؤهم وشعرهم، يتبديان جامدين كأنهم ينشدون نفس الأغنيات منذ أن وجدوا هناك، أغنيات لا يسلبها من هذه الحياة شيء ولا يستجد فيها إلا بتفاصيل طارئة يحرصون على التغني بها: ظهور ماكينات الحصاد وهجرات أبنائهم، إلخ. الصوت في سهل ممتد حدث، إنه “عَيْطُ” الفلاحين والرعاة، أي صياحهم. لا تخرج الموسيقى عن دائرة حدث الاحتفال ذلك، فتكون نداء للآخرين للمشاركة فيه. لا أحد هنا يُغني ليُطرب الآخرين، بل ينصهر الجميع في الحدث الموسيقي: العيطة. تفاخر امرأة بابنها في عرس فتدخل دائرة الموسيقى لتغني “الزين والعلو وشكون لي ولدو” (الجمال وعلو الشأن – من أنجبه؟) أو تومئ أخرى لأحدهم حين تسمع لعيون لي كواوني مازالو حيين. فتختلط مشاعر الناس بالموسيقى وحركة الجسد على أرض همُّهم منها الخصوبة ورد العداء وفخر القبيلة والأولياء.

في مثل لحظات الانصهار هذه تولد العيوط، فلا يملكها أحد بل تنقلها الألسن وتقلبها ويدخل بعضها في بعض. تفقد وحدة الموضوع، لكنها لا تخرج من نسيجها الموسيقي كشعر غنائي ولد على فراش الموسيقى، وبذلك يسمى العزف في العيطة الفراش. تتناثر أبياتها مفككة فتسمى حبات أو تكثف وتسمى براول تسمية تستخدم كذلك في الملحون والمالوف التونسي والليبي. فتجد بعضًا منها متفرقًا على شعر أهل الحوز وعبدة ومناطق مختلفة نظرًا لتفتت القبائل والترحال. لكن الدارس لا مفر له من التفكيك والتوطين. لذلك تقسم العيوط عادة حسب مناطق جغرافية وقبلية رئيسية يغلب فيها نوع من القصائد والعزف هي: العيطة المرساوية (منطقة الشاوية) والحصباوية (منطقة عبدة) والحوزية (أحواز مراكش) والملالية (قبائل بني ملال) والجبلية (شمال المغرب) والشيظمية (اقليم الصويرة) والغرباوية (شمال الرباط) والعيطة الفيلالية (منطقة تافيلالت).

حقل للدراسة التاريخية أم موسيقى حية؟

يختلف أغلب الدارسين يحصرها إدريس بن عبد العالي الإدريسي في 'العيطة المرساوية والعيطة الملالية'، أحمد عيدون في كتابه 'موسيقات المغرب' يفصل الحوزي وموسيقى جهجوكة عن العيطة، كما أن حسن نجمي في كتابه 'غناء العيطة– الشعر الشفوي والموسيقى التقليدية في المغرب' يعد تسعة أصناف للعيطة مع الإشارة لصعوبة تصنيف العيطة الزعرية كنمط مستقل مثلا لقلة قصائدها وتداخلها مع أنماط أخرى باختلاف مقارباتهم في تصنيف العيوط بين أنماط رئيسية وفرعية، أو يربطها بتوطين جغرافي ضيق تنفلت منه، مما يجعلنا في حاجة لجغرافيا تاريخية للجغرافيا الثقافية بالمغرب، قصد توطين حدود هذه الأنماط لضبط المساحات والمعطيات المشتركة بينها. وبمقاربة أخرى يقصي البعض من التصنيف الأنماط الأقل تركيبًا سواء موسيقيًا أو شعريًا. فيعتبر الباحث محمد بوحميد الشعر الشفوي والموسيقى التقليدية بالمغرب. حسن نجمي، دار توبقال، ٢٠٠٧. مثلًا العيطة المرساوية التجلي الأرقى للعيطة من حيث تركيب متنها وقربه من تركيب قصائد الملحون، مما يحيل إلى نظرة سايرت تاريخ المغرب تطبع كل ما هو فاسي/موريسكي مستقر بالحواضر الكبرى بالرقي والنخبوية، وتلقي إلى الخلف كل ما أنتجته العروبية المغربية كنتاج ثقافة بدوية متخلفة برزت في المدن.

من هنا يتضح المحرك الأساسي لعدد من الدارسين لفن العيطة، حيث لا تكاد تخلو تدبيجاتهم من الحديث عن هذا الفن كثقافة هامش ينبغي رد الاعتبار لها، ولفنانيها وشيخاتها. تكاد لا تجد أثرًا مكتوبًا عن العيطة في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، سوى في الكتابات الاستعمارية التي تتناوله بعين الإكزوتيكية ودهشة المستشرقين De-odentalizing the Aita and Re-orienting the Shikhat. Alessandra Ciucci في خلط بين الدراسة والرغبة. فيما أن الكاتب المغربي في ذلك الوقت كان يجد في تدوين كلام أو ظاهرة عامية في مخطوطاته حاطًا بقيمة ما يدونه، أو أنه كان يتناول أحيانًا الظاهرة من زاوية الوعظ والإرشاد الديني. بينما لم تبرز أولى الكتابات المهتمة بالموسيقى التقليدية المغربية بشكل أكثر حيادًا عن مشاريع السلطة أو رقابة الدين وأقرب نسبيًا إلى الاهتمام العلمي حتى ستينيات القرن العشرين، على عدد من المجلات الثقافية اليسارية من زاوية حماية التراث وأسئلة الهوية أحيانًا أو من زاوية إنسانية، هي رد الاعتبار لصورة النساء أو “الشيخات” اللواتي كن يمارسن هذا الفن.

هذه الدراسات ولانهماكها في الحفريات والتصنيف وإعادة الاعتبار للثقافة الهامشية العروبية – من البادية بالمصطلح المغربي الدارج وليس العروبة – صنعت هامشًا جديدًا حول فن العيطة يخنقها. وبدل أن تبرز مواطن الاستمرارية والتجديد من العيطة إلى الأغنية الشعبية، اعتبرت العيطة نمطًا قد أقفل تطوره وانتهى ولا يمكن سوى ترديده كما كان، وأن أغاني “الشعبي” اندحار وإعلان نهاية عصر موسيقي ذهبي، إما لتفاهة المواضيع أو بذريعة الانحلال، في محاولة لإضفاء صفة قريبة من الالتزام اليساري على فن العيطة.

صحيح أن متون العيطة تختلف عما يدمجه منها الجيل الجديد من مغني الشعبي مع ما يستحدثونه من جانب البناء الشعري/الموسيقي للأغاني الحديثة. كما من جانب انتهاء المرحلة التفاعلية بين الفنان والجمهور بظهور آليات التسجيل واختلاف أماكن العروض وظهور شركات الإنتاج. مما يجعل من المقبول الحديث عن انتهاء المرحلة الشعرية للعيطة كنص، لكن عنصرها الموسيقي لايزال يقبل التطوير، وكذا المناخ الاجتماعي العروبي الهامشي لا يزال قادرًا على إنتاج نصوص جديدة مختلفة المتن، لكنها تحمل نفس الهوية المتصلة بالأرض بلغة مستجدة. فالآليات المجتمعية التي تنتج غناءً تقليدياً، لا تزال قائمة في المجتمع المغربي داخل الأسواق القروية ومواسم الأولياء واحتفالات الفلاحين، كالشكل الخام الذي يعتمد آلات عزف أولية كالكنبري (آلة وترية من صندوق كدرع السلحفاة مغلف بجلد قوي وثلاثة أوتار) والغيطة (مزمار) الليرة (آلة نفخ. ناي صغير.) الطعريجة والبندير (آلات إيقاع)، والثنائيات الغنائية التي تجول الأسواق والمواسم أو الرباعات (فرق موسيقية نسائية للاحتفالات العائلية الخاصة) أو الفرق والفنانين المحترفين بآلات مستحدثة في الغناء الشعبي كالدرامز أو السّنث أو الكمنجة.

حين كان الوطنيون والمستشرقون يتناحرون الشيخات كن يغنين العيطة

بلهفة المستشرق الذي يخلط فضول الدارس بالرغبة الإكزوتيكية، يصف الباحث الموسيقي الفرنسي أليكسي شوتان الذي شغل مهمة إدارية بمصلحة الفنون الأهلية الخاضعة لإدارة “حماية الجمهورية الفرنسية بالمغرب” عرضًا للشيخات قائلً Alexis Chottin, Les visages de la musique marocaine, Rabat, imprimerie nouvelle ,1928. P. 11ا:

“سألتقي المغرب المتحرر والعاطفي. هذا الوجه ذو الشكل الماكر… المجمل بالكحل حول العينين والمجوهرات المزيفة أو الحقيقية حوله … بين العطور المخدرة التي تصدر منهن. أشعر بالخوف بأن خلف هذا لا يوجد سوى وجه ضامر ومجعد… خلف الأشعار التافهة التي تغنيها توجد دائمًا امرأة عنيفة ترفض أن تقدم شيئًا لمن يطلبها … هذه الموسيقى جد جذابة ومحبطة في نفس الوقت … هذا الضحك والفرح الممزوج بالإيقاع المدوخ، صياح الآلام والحزن؛ كإيقاع جناح مصاص دماء يرف ليخفف من ألم عضته”.

على عكس وصف شوتان الاستعماري وتصوره الإيروتيكي للشيخات والعيطة، رأى محمد بوحميد الباحث في موسيقى العيطة في مرحلة أخرى أن “الفرنسيين يريدون التخلص من العيطة لأنها تستطيع تحريض الناس وحمل رسالة التحرير. وأنهم من نظم المواخير حيث يستطيع الجنود الترفيه عن أنفسهم بالشيخات… هناك حيث حورت لغة العيطة من الاهتمام بالناس إلى لغة إيروتيكية مقترنة بالكحول والجنس”.

من جانب آخر، كانت الموسيقى تتشكل بفضل ظهور تسجيلات شركتي Pathé وGramophone اللتين ظهرتا في العشرينات للمستمع الأوروبي المهتم. ظهرت أيضاً، منذ الخمسينات إلى أوائل السبعينات، في مدينة الدار البيضاء، أسطوانات الخمس وأربعين لفة التي أوصلت العيطة للطبقة المتوسطة القادرة على اقتناء هذه الوسائط السمعية لتنتقل بعد ذلك إلى جمهور أوسع بفضل الكاسيت.

تتحدث فاطمة الزحافة (١٩٣٨-٢٠٠٠) في أغنية سيدي أحمد بلغة إيروتيكية ربما تثير في زمننا الحالي، زمن كثرة الحريات المقيدة للحريات، جدلاً حاداً إن تجرأ أحد على غناء كلمات مشابهة. فتقول مخاطبة حبيبها:

كون تسحابك تمشي مانولفشي (لو علمت أنك ستنصرف لما تعودت عليك)

قرب لي صدرك را الحال درك ( قرب مني صدرك فإن الوقت قد مضى)

عطيني بوسة خلي البال ينسى

لكنها في نفس الحين غنت الزاوية التي تغلب عليها التيمة الصوفية وذكر الأولياء:

لا تكاد تخلو أغلب الدراسات الراهنة من ذكر الزحافة كشيخة طبعت مرحلتها، لكن ذلك يكون عادة بشكل يغيب جانبًا من أغانيها كالواد الواد التي تتحدث فيها عن الخمرة والنساء في مختلف مدن المغرب، مقابل حصر أعمالها في الأغاني ذات التيمة الصوفية أو العيطات.

رغم الانطباع الذي قد يخلقه الاطلاع على بعض الدراسات والمقالات المهتمة بالعيطة، التي تقرؤها بغير معزل عن مآربها السياسية أو تحاول دراستها بنظرة فوقية، وأحيانًا تعتبرها فنًا منقرضًا أو رسالة قد تمت حتى تسهل مهمة إضفاء صبغة معينة جامدة عليها. فإن واقع المغرب الاجتماعي والاقتصادي حافظ نسبيًا على استمرار مختلف أشكال عرض الفن الشعبي ومختبرات إنتاجه. بل وانفتحت أحيانًا شركات التسجيل على مغنيي المونولوج الشعبي مثل عبد الكريم الفيلالي وقرزوز ومحراش وقشبال وزراول الذين يقدمون بآلة الكنبري إلى جانب آلة إيقاعية قصائد هزلية أو ذات طابع إخباري أو حتى مجموعة من العيوط، ينظمونها للحديث عن ظواهر اجتماعية مستجدة أو للوعظ وتبليغ الرسائل.

في قصيدة الهيبي يتحدث عبد الكريم الفيلالي – بعد الصلاة والسلام على رسول الله وفضل العبادة والصلاة ثم علامات الضلال في المجتمع من شرب الخمر والمدام وعقوق الوالدين وتشبه النساء بالرجال – عن ظهور الـ هيبيز في المغرب ويصف أشكالهم ووساختهم قائلًا:

سمعوا مني كلام المعقول شفت الهيبي نحسابو غول (اسمعوا مني كلام للتعقل رأيت الهيبي فظننته غولا)

شعرو مهدهد ومفتول مثل الكعلال في حولينا (شعره مجعد ومفتول مثل الكعل الكعل في لسان العرب ما يعلق في أصواف الغنم ويجف عليه في خروفنا)

مايحمل يغسل ويصبن مايحمل يمشط ويحسن (لا يتحمل أن يغتسل أو ينظف ثيابه ولا أن يحلق شعره)

العفونة كاتجيه أحسن الطهارة تقتلو لينا (العفن يبدو له أحسن فالطهارة تقتله)

وزنتهم بأوزان أفكاري ولقيتهم بلي جميع دراري (وزنتهم بأوزان أفكاري فوجدتهم مجرد أطفال)

مخالفين جميع الأديان وليت فيهوم واحد مزيان

عايشين فأوهام الخيال ماحنا منهم ما هم لينا

عايشين بدون إفادة وكايحلمو بالسعادة

هذا الشكل يمثل (موسيقياً) أداء العيطة بشكله الخام، وقد وجد طريقه نحو التسجيلات التجارية ولا يزال يقدم إلى اليوم سواء في بعض المواسم والأسواق أو حتى التلفزيون. ما يبرزه عبد الكريم الفيلالي على سبيل المثال لا الحصر هو أن نظم أشعار جديدة من ناحية تناول ظواهر مستجدة على المجتمع المغربي بقي مستمرًا. بتجديد طال موضوع العيطة لكنه حافظ على شكل العزف الخام لها، ولم يعجز رغم ذلك عن الوصول إلى سوق التسجيلات، مما يدل على القيمة المضافة في كلماته.

لم تمس الهجرة القروية نحو المدن والتجمعات الصناعية الثقافة البدوية التي حملها القرويون معهم إلى المدن، بل قاموا بإعادة إنتاج صيغ جديدة لعروضهم الموسيقية، تجلت في حلقات الأسواق الشبه قروية التي ظلت متواجدة في هوامش المدن، إلى جانب عروض الموسيقى التقليدية داخل كباريهات قدمت العروض الأقرب إلى التفاعلية التي كانت تقام في حقبة القياد، مثل نادي La Terrasse  بالدار البيضاء الذي كانت تشتغل فيه الشيخة خربوعة وحادة أوعكي وفاطنة بنت الحسين، أو كاباريه نجرسكو الذي ما زالت فقراته مقتصرة على مجموعات شعبية تقليدية ومغنيي الشعبي بشكله الحديث. فمقابل استمرار نفس أنماط العيش الفلاحية في البوادي التي استفادت من أسواق جديدة فتحتها المدن أمامها، استمر الارتباط بين تجمعات سكانية كبرى بقيت أشكال الثقافة المدنية والتأثر الأجنبي فيها محصورة بنخب ضيقة، وبين قرى مرتبطة اقتصاديًا بهذه التجمعات وبالتالي برزت بالضرورة قنوات ارتباط ثقافي بين المدن والقرى في ظل اقتصاد وطني فلاحي، أبقى من جانب آخر على حركة موسيقية بدوية منفصلة نسبيًا عن شركات الإنتاج الموسيقي وساحة الاحتراف بالمدن « Across a Divide:Mediations of ContemporaryPopular Music in Morocco and Spain » Brian Karl. مما جعل من العيطة إنتاجًا مستمرًا، شيئًا نوجد فيه، يجيء صوبنا، وليس موضوعًا من مواضيع الوعي الثقافي التاريخي الذي يتطلب السعي نحوه.

عن الطيف بين العيطة والشعبي

حروشة هو الاسم الدارج لنوع التربة بعبدة قبائل بادية آسفي، ولأن العيطة تنبع من تربة مولدها سميت العيطة العبدية بالحصبة (الحصى الصغير). لذا كان صوت شيخاتها أحرش – خشن – والتحريش في لسان العرب هو الإغراء بين القوم. يقال عن أهل عبدة:

عبدة مشرحين الكبدة

عمر خيرهم ما يبدا

عمر شرهم ما يهدى

عمر ضيفهم ما يمشي فرحان

شاءت الأقدار أن تنجب قبائل دكالة الصوت الذي سيحمل طبع تربة عبدة في غنائها بداية الثلاثينيات. خرجت إلى الوجود فاطنة بنت الحسين التي تأثرت منذ صغرها بصورة الشيخة الغالية حين جاءت لإحياء أحد أعراس منطقتها، بصورة امرأة متفردة ذات كاريزما وعز. أدهش فاطنة بنت الحسين رؤية امرأة تسوق سيارة في ذلك الوقت، وكذلك الاهتمام الذي يوليه الناس لها، فوضعت صوب عينيها هدف أن تصير يومًا ما شيخة مثل الغالية، لتشد الرحال إلى مدينة اليوسفية بعد زواج لم يدم طويلاً وتتلمذ على يد الشيخة خدوج العبدية وزوجها الشيخ المحجوب. كانت تلك أول خطواتها نحو صناعة صورتها كـ ديفا الغناء العيطي. في ما يلي، تكبت الخيل على الخيل، وهي عيطة حصباوية تصور طقوس الفروسية:

بعد عشر سنوات من ذلك، انتقلت فاطنة بنت الحسين  للعمل مع مجموعتها الرئيسية، مجموعة ولاد بن عكيدة: بوشعيب عازف الكمنجة، وميلود عازف العود، وبوجمعة عازف الدربوكة/الإيقاع، إلى جانب الشيخات زينب مسيكة والهاترة وسعاد البيضاوية، والشيخة حفيظة زوجة بوشعيب بن عكيدة والشيخة الطباعة “الرئيسية”. سجلت مع هذه المجموعة أزيد من ٢٠٠ تسجيل لأغانٍ شعبية وعيطات. كانت التسجيلات الأولى مقتصرة على العيوط بمختلف أنماطها التي بينت خلالها فاطنة بنت الحسين أنها ذاك الصوت البدوي القادر على خلق جو العيطة الحقيقي، كشيخة طباعة تطبع الكلم بطبع الأرض رغم أنها لم تكن موفقة في غناء العيطة البيضاوية (المرساوية) كعيطة مدينية تحتاج لصوت أقل حدة وخشونة. ومثالًا على أعمال مجموعة ولاد بنعكيد عيطة حاجتي فكريني من نظم الشيخة والشاعرة خربوشة بصوت فاطنة بنت الحسين:

توقفت فاطنة بنت الحسين عن التسجيل لفترة لكونها سجلت جميع العيطات التي تستطيع تأديتها حسب قولها لكن ولاد بنعكيدة سيدفعونها نحو تسجيل أغانٍ موسمية فاجأها نجاحها بعد ذلك.

بدأت المجموعة بعد ذلك بإعادة توزيع أغاني كانت تؤدى بالكنبري أو أغاني فرق نساء القرى. كأغنية مولاي عبد الله للتهامي السالمي التي تصف طريق وزيارة موسم مولاي عبد الله أمغار نواحي مدينة الجديدة، وتشبه في موضوعها أغنية الليلة الكبيرة لسيد مكاوي التي يصف فيها المولد.

أو أغنية شعيبة يا وليدي التي كان يؤديها الثنائي قرزوز ومحراش والتي تروي قصة القبض على شاب يدعى شعيبة بسبب كمية من الكيف:

لم تخرج هذه الأغاني عن الطابع البدوي رغم توزيعها المختلف وإدماج آلات وتقاسيم مختلفة عن هذه البيئة كالعود والكمنجة. مما يجعلها أغاني شعبية ذات نمط نستطيع أن نسميه إحياءً للنموذج العيطي. ورغم اتساع طيف نماذج التطوير والتأثر في الأغنية الشعبية، لكن فاطنة بنت الحسين بكاريزميتها وصوتها كانت ربما آخر علامات الفخر في الغناء العيطي. فإن كان فخر أوائل الشيخات رمزية مواجهة السلطة أو المستعمر فإنها أبقت على الأقل على فخر وطبع الهوية البدوية الذي يحمله صوتها. بإعتبار أنها بتسجيلها لعدد كبير من العيوط قد نالت الشرعية التاريخية كخزان لحفظ التراث ثم بعد ذلك كنموذج للتطوير بأغانيها الموسمية.

في كثير من نماذج التطور الموسيقي، يكون التمرد الاجتماعي/الثقافي هو المحرك الأساسي للانتقال. لكن مأساة من يختار الثورة على شكل ما بنفيه أنه يجد نفسه في نفس طريقه، في طريق لبناء ثنائية جديدة تنفي الأولى ببناء لشكل جديد وصيغ وقواعد جديدة بدل الخلق. لكن في حالة الشعبي، ورغم أن مسألة التطوير كانت تبدو كتماهٍ مع الأمر الواقع للأوضاع المستجدة، فإنه لم يشكل قط تيارًا موحدًا متماسكًا يشكل نمطًا بسيط الحصر. وبذلك يمكننا القول أنه يمثل تمردًا جماليًا على أشكال العزف القديمة وعلى المتون الشعرية واللغة القديمة والجمود.

تعددت فيما بعد أوجه التطوير في الأغنية الشعبية، ورغم أن اللحن بدأ ينتصر على أولوية الشعر والكلمات فإن الجميع كان يبحث عن شرعية التلفزيون وعن رضى السلطة ليتسم بصفة المغني المحترف. ولد الشعبي لكنه كان مولودًا يبحث عن رمزية ما، سواء في بحث فنانيه عن الشرعية في العيطة بإعادة تسجيل بعض أغانيها أو بالبحث عن شهرة معزولة بأغانٍ تتناول مستجدات مجتمعية، لكن بالحفاظ في نفس الوقت على طابع الاحتفالية والابتعاد عن النقدية أو صبغة الفنان صاحب الرسالة والقضية.

تجارب تجديدية

عبد العزيز الستاتي (العرباوي المشهور بالستاتي لأصابع يده الستة) مثّل مسارًا نموذجيًا في الغناء الشعبي نظرًا لعزفه المتفرد للكمنجة الذي طور فيه أسلوب ميلود المغاري مغني الشعبي الأمازيغي الأصل كما عمل باستمرار على تطوير أسلوب عرضه ومواضيع أغانيه، من غناء العيوط والأغاني الشعبية ذات التيمات البدوية القديمة كالخيل والأولياء كما يبدو في المقطعين التاليين:

مر الستاتي في مرحلة لاحقة لمواجهة مد الراي المهتم بالمواضيع الاجتماعية، ليضفي للشعبي نفس الصفة ويخرج به من دائرة سميعة العيوط والجلسات والأعراس إلى أغنية يسمعها شباب الهوامش، فغنى عن الهجرة وجواز السفر والحبيبة بمعجم معاصر. كان الستاتي في هاته الفترة يعيد بعض أغاني الشاب بوعلام الذي بدا أكثر تأثرًا بموسيقى الراي، فيضفي عليها الستاتي شكلًا أكثر محلية. كأغنية رجال مشات حاركة التي تتحدث عن المهاجرين السريين ومصيرهم في أوروبا، حيث أداها بوعلام بموسيقى يغلب عليها السينت وتوفق الستاتي في إيصالها إلى شهرة أكبر بتوزيعه الشعبي المحلي.

في أغنية حكمت عليها الظروف يتناول الستاتي موضوع الدعارة، لا بنظرة فوقية أو ناقدة بل بتقمص عاطفي لوضع فتاة رمت بها الظروف على حد تعبيره لأن تشرب الكأس وترضي خواطر الآخرين. أن تخلق السعادة وتبقى هي دون خاطر.

أكبر مؤشر على شعبية الستاتي المستمرة هو حضور مائتين وخمسين ألف مشاهد لحفل أقامه بمهرجان موازين ٢٠١٥ في الرباط، رقم لم يحققه فنانون عالميون حضروا نفس النسخة كـ إيجي أزيليا وكريستينا أجوليرا،  أو سعد المجرد الذي يحقق حاليًا أرقامًا خيالية على اليوتيوب.

نموذجا الستاتي وفاطنة بنت الحسين لم يكونا وجهي استثناء في مسيرتيهما أو المراحل التي قطعاها. لكنهما شكلا تركيبًا لمجموعة من التجارب التي عاصرتهما، حيث كان كل منها يتجه نحو نسق مختلف حسب جذوره وتأثره الموسيقي. فمرحلة فاطنة بنت الحسين سواء العيطية أو الشعبية عرفت طيفًا واسعًا من الفنانين لا يتسع سوى ذكر الميز منها من جانب التطوير الموسيقي للعيطة. كالشيخة ضونا التي دست تأثرها بالأغنية المغربية العصرية في أغانيها الشعبية. كما يبدو ذلك في المقدمة الموسيقية لأغنيتها “مادا جريت مادا جاريت” رفقة بوشعيب الجديدي.

سيحتكم مغنو الشعبي في فترة احتكرت فيها الأغنية العصرية التليفزيون في بداياته لتطوير أساليب عرضهم، سواء بتوزيعات أوركيسترالية تحاكي أغاني العصري كلطيفة أمل:

أو بتصوير الفيديو إلى جانب تطوير التوزيع كما فعلت الحمداوية:

المميز في موسيقى الشعبي أنها تستمد هويتها من الارتباط الدائم بالأرض والناس. وبذلك تظل محافظة دائمًا على تطوير يعتمد تركيب نماذج من الموسيقى المحلية، سواء العيطي منها أو الإيقاعات الأمازيغية أو تطويع آلات جديدة كما فعل مسناوة مثلًا مع آلتي البانجو والبزق. حيث أسسوا مجموعة غنائية أقرب لمشهد المجموعات كناس الغيوان وجيل جيلالة شكلا وتوزيعًا، وأقل تعلقًا منهم بالمواضيع والقضايا مقارنةً باهتمام أكبر بالإيقاعات البدوية.

سيجد مغنو الشعبي بعد ذلك أن الجمهور بدأ يتجه نحو أغنية تهتم بالاجتماعي أكثر من الأرض والأولياء، جمهور غيرته هوامش المدن فوجد ضالته في فن الراي، وذلك كان ضروريًا لمسايرة هذا التوجه بكلمات حديثة تتناول الهموم الجديدة للناس. الستاتي كما سبق ذكر ذلك كان أيقونة المشهد، لتوفقه في الحفاظ على صوت أكثر أصالة عكس مغنين آخرين، مثل الشاب بوعلام أو مليكة سيدي سليمان أحد أصوات الغرب التي ورغم وفاتها بسبب حادثة سير في سن مبكر، تركت نموذجًا متميزًا في مزج آداء الراي بإيقاعات الشعبي:

زينة الداودية سلكت الطريق من الاتجاه المعاكس، فبعد محاولات لم تحقق بها شهرة واسعة في غناء الراي تحولت الداودية لغناء الشعبي في بداية العشرية السابقة. بكمنجة فوق ركبتها في شكل يحاكي عروض الستاتي، كان شكلها ذاك لامرأة تحمل الكمان بتلك الطريقة التي احتكرها مغنو الشعبي الرجال كفيلًا بخلق الاستثناء. واصلت الداودية بعد ذلك تطوير أسلوبها بإدماج موسيقى إلكترونية في أغانيها وأساليب تسويق حديثة على النت عجز أغلب مغني الشعبي عن مسايرتها.

العائلات تريد أن ترقص

بخروج العيطة من جلسات الأعيان والمحيط البدوي الضيق إلى التسجيلات والعروض التلفزيونية، انفتحت آفاق جديدة أمامها، لكنها أصبحت خاضعة أكثر لمنطق العرض والطلب. فأصبح مؤدوها مطالبين بأغنية للترفيه ذات إيقاع أسرع، بكلمات خفيفة على اللسان ثقيلة على ميزان الرقص. في وضع يذكر بمشهد لمحمود عبد العزيز في دور تاجر المخدرات الذي يحلم بدخول مجال الأغنية الشعبية في فيلم الكيف، فيطلب من شاعر شعبي كلمات خفيفة وتافهة، حسب تعبيره. لم يعد أحد يريد الإنصات لعيطة طويلة والانخراط في جوها التصاعدي لينتظر الدخول في “الحال” Trance في دقائقها الأخيرة. في مرحلة الساكن التي يختلط فيها العزف بالرقص وأحيانًا ضرب الرأس بآلات حادة والرقص على الزجاج في طقوس لم تعد تلائم هذه الفترة استمر منها الرقص على حوض معدني للتصبين اسمه الجفنة بحركة أرجل تحاكي الإيقاع.

ولأن الجميع يراهن على الجمهور الأوسع وعلى نيل صفة الاحتراف بالغناء في سهرات نهاية الأسبوع على التلفزيون الرسمي، أصبحوا ينتجون غناءً هجينًا يتجنب تأويلات السلطة وتابوهات الجنس والخمر، فغابت الكلمة ونالت الجملة الموسيقية الأولوية على العبارة الشعرية. وكما كان شيوخ العيطة يملؤون التفاوت بين اللحن والكلمات بـ المد، أو كما يسميها أهل الملحون بالنانات مثل (ايلي وايلي، ياهاهياهاه، يانايانا…). إذاً، أصبح يكفي تكرار بعض اللازمات وتطعيم ما تبقى من إيقاع بأصوات غريبة من قبيل “إينيحا إينيحاحا”.

أصبح ما يميز به أحد المؤدين نفسه عن الآخر رقصة أو حركة غريبة يكررها أثناء عروضه، في غياب إضافة تميزه بصوته أو بعزفه، بينما ظهر مختصرو طريق التميز بعملية الكولاج كنوع من المزج و”التطوير” للموسيقى المحلية لـ “مسايرة الأشكال الحديثة”: إقحام عزف غربي على الغيتار أو إيقاع روك خلال أغنية شعبية.

لا ينبغي أن نستذكر العيطة كاسترجاع أدلة تاريخية نفسر بها تسلسل وقائع تاريخية، فنقصي منها ما يعجز عن أداء هذه الوظيفة، ولا اكتراث يرد تاريخنا إلى كلية ميتافيزيقية، بل كاسترجاع لهوية منسية وغير غائبة. ونستفيد من النسيان كحدث إيجابي يجعلنا نتفادى الجمود والتطابق وأن نستفيد من التعدد الذي يسكنها في بناء وتملك أشكال موسيقية جديدة. إن تكريس الصورة المتحفية للعيطة هو أكثر ما يهدد هذا الفن أكثر مما يسمى بمحاولات التمييع والتشويه التي تنسب لامتدادات العيطة المقصود بها الشعبي. التي تبقى محاولات ينبغي متابعتها وإبراز مكامن التطوير الحقيقي فيما تقوم به لبناء نوع جديد من الغناء الشعبي نتملكه ويشكل مشهدًا موسيقيًا جديدًا بالمغرب بدل النغمات المسوقة والمفروضة على أذن المتلقي التي تظهر من حين لآخر، وذلك عبر إنشاء نوع جديد ينهل من العيطة نستطيع رد الاعتبار لهذا الفن بدل محاكاته أو الاكتفاء بجهود حفظ الذاكرة.