fbpx .
بحث | نقد | رأي

محمود الشريف: نهوند الفقراء | الجزء الأوّل

سمر محمد سلمان ۲۰۱٤/۱۲/۲۱

نشر هذا المقال في مئويّة محمود الشريف (1912-2012)، ونشر لأول مرّة في مجلة بدايات. يعاد نشره في معازف بالإذن من رئيس تحرير المجلّة: فوّاز طرابلسي.

الجزء الثاني

هو أحد كبار الموسيقى العربية نستعيد من الذاكرة بعضاً من عطاءاته  في الأغنية الشعبية والوطنية والمسرح الغنائي، ونحييها في مئويته، لنجدد العهد ونواصل البحث عن حبات ذلك “العقد الفريد” الذي تلألأ في سماء حضارتنا الموسيقية، لعلنا نمسك بطرفٍ من تراثٍ يهاجر، وذاكرةٍ تهجر.

خاض محمود الشريف غمار عمره بين جمال عبد الناصر وسيّد درويش. وكرّس حياة كاملة بين ثورتين سخّر لأجلهما فنه وابداعاته. عاش محمود الشريف بين الثائر السياسي والثائر الموسيقي مخاض الشوق إلى الخروج والتمرّد على واقع الظلم السياسي والقهر الاجتماعي والفن التقليدي الذي كان حبيس القصور وليالي الأنس التي لا تكاد تلامس أسماع المواطن العادي، ابن البلد المكافح، ولا تمسح عن جبينه ماء التعب في لحظة صفاء أو عند استراحة محارب. هذا الإنسان العادي هو بالضبط من تطلع إليه محمود الشريف بعقله وقلبه، هو من أرّقه وقضّ مضاجع فنه المتوقد. هو الشوق ذاته الذي دفع سيد درويش إلى الخروج والتمرد على القوالب التقليدية السائدة في عالم الموسيقى آنذاك وإلى وضع البذرة الأولى للتطوّر الموسيقي التعبيري- حين أدرك أن الموسيقى أداة تعبيرية لها القدرة على أداء فكرة معينة. بهذا التماهي مع الثورة السياسية والثورة الموسيقية وضع الملحن محمود الشريف إطار تجربته الفنية، ومن بذور ثورتيهما صاغ مئات الأعمال التي خلدته وطبعت بصمته الخاصة في تاريخ الموسيقى العربية المعاصرة وسط رفاق استطاع معهم أنْ يرسم تلك اللوحة الفنية النابضة بالحياة لمجتمع يتحوَّل بعمق.

هذا التوق إلى الانعتاق من أغلال الماضي بكل ما أنتجه من نظم سياسية، واجتماعية، وثقافية، وفنية لم ينقطع بعد سيد درويش، بل واصله كبار الموسيقى العربية: القصبجي، محمد عبد الوهاب، السنباطي، فريد الاطرش، أحمد صدقي، محمد فوزي، ثم الجيل الذي تلاه:  منير مراد، كمال الطويل، محمد الموجي، عبد العظيم محمد، سيد مكاوي. لكن التجديد الذي أحدثه الرواد الأوائل ظل في معظمه حبيس القصور والنخب الثقافية والاجتماعية في المرحلة الأولى، حتى رفعته “ثورة 1952” إلى مقام الشعب بما حققته من إصلاحات جعلت الفنون في متناول الناس، وذلك عبر انتشار الحفلات العامة كأضواء المدينة التي كانت تجوب القرى والنجوع من الاسكندرية إلى أسوان، وتشجيع الإبداع على أنواعه وانخراط الفنانين في ورشة إبداعية لم يسبق ان شهدتها مصر قبل الثورة ولا بعد انحسار قيمها بوفاة جمال عبد الناصر.

التجربة الدرويشيّة

استلهم محمود الشريف التجربة الدرويشية بكافة أبعادها الثورية السياسية والاجتماعية والفنية، فيما اقتصر تأثر الرواد بسيد درويش على فكرة التجديد الموسيقي وحسب، بخاصة محمد عبد الوهاب الذي كان دائم التطلع إلى مواكبة العصر بوسائله وأدواته بما يضمن لفنه دوام الحضور والانتشار. كما استبق محمود الشريف الثورة في التعبير عن نبض الشارع، هو الذي عاش الفقر والتشرد في طفولته بعد رحيل أبيه حين اضطر الى ترك المدرسة للعمل في أسواق الاسكندرية، حيث “فتيات الريف يقبلن في نشاط حاملات اقفاص الطيور بجلابيبهن ذات الألوان الزاهية”، وحيث دكان “عم فرج” بائع الاسطوانات وغرامافونه، وصالون “الأسطى بلبع المزيّن” وعوده.

ينتمي محمود الشريف إلى ذلك الجيل الذي ساهم في صنع النهضة الموسيقية العربية من دون صخب إعلامي، حتى بات بمثابة جندي مجهول يقف وراء أعمال جابت الآفاق ورددتها الجماهير العريضة من المحيط الى الخليج، من دون أن تعرف ان وراءها فنان سكندراني ملهم عمل مع عدة فرق جوالة لمدة 13 عاماً في بداية حياة الفنية، تنقل فيها عبر المناطق والمقاهي الريفية وغنى ومثّل في الموالد والأعياد. دعته بديعة مصابني في بدء الثلاثينيات للعمل في الكازينو الذي يحمل اسمها، فبدأ مرحلة جديدة في حياته مغنياً وملحناً حيث تعرف الى عدد من كبار الفنانين الذين تخرجوا من مسرح بديعة: إبراهيم حمودة، محمود شكوكو، إسماعيل يس، فريد الاطرش، عزت الجاهلي، ومحمد عبد المطلب الذي ربطته بمحمود الشريف صداقة متينة. كان من آثارها زواج محمود من أخت زوجته ثم تعاون فني كبير بين الرجلين بدأ العام 1934 بأول أغنية لمحمود الشريف تلحيناً “بتسأليني بحبك ليه … سؤال غريب مجاوبش عليه”. هذه الأغنية قدمتهما معاً لأول مرة إلى عالم الشهرة، فتم طبعها على اسطوانة لشركة “بيضافون”، ثم أذيعت في الإذاعة المصرية الرسمية بعد افتتاحها في 31 أيار/ مايو  1934 (قبل هذه التاريخ كانت الإذاعات في القاهرة والإسكندرية أهلية خاصة).

كانت بدايات هذا الفنان على مستوى كبير من النضج، فحققت النجاح الباهر، وقدمته لكل الأصوات المعروفة آنذاك وفي طليعتها ليلى مراد، الذي لحن لها العديد من الأغاني، منها: “أطلب عينيه“، “من بعيد يا حبيبي أسلّم“، “اسأل عليّا“. ثم بعد ذلك مع كارم محمود في “على شط بحر الهوا“، و”عيني بترف“. ومع محمد قنديل في “ثلاث سلامات“. والمطربة أحلام التي قدم لها أول أغنية في حياتها أوصلتها بسرعة إلى الشهرة: “يا عطارين دلوني“. ولقاءً واحداً مع نادية فهمي في “آه يا سلام على الهوى“، ومع نجاة “أوصفولي الحب” (سبق أن غنتها شادية في فيلم “الهوى سوا”)، “وطني وصبايا وأحلامي” (لنجاة وعبد الرؤوف إسماعيل)، ومع صباح في “دي سكتي ودي سكتك”، ومع سعاد محمد في “القلب ولا العين“، و”هاتوا الورق والقلم“. ولعبد الحليم حافظ لحن “حلو وكدّاب“، و”يا سيدي أمرك“. ولفايزة أحمد، عندما جاءت إلى القاهرة للمرة الأولى، “يا ليل كفاية حرام” التي تعتبر من أكثر ألحانه حزناً لأنها جاءت إثر وفاة زوجته بمرض القلب الذي لازمها طوال حياتها لكنه لم يثنها عن عزمها على الإنجاب فتركت له طفلة وحيدة: إكرام.

وتعتبر محطة شادية من المحطات الثرية جداً في مسيرته التلحينية التي حفلت بعشرات الأعمال للإذاعة والأغنية السينمائية التي اعتبر مع زميله أحمد صدقي من فرسانها في الخمسينيّات والستينيّات. إذ كانت شادية من أقرب المطربات إلى قلب محمود الشريف الذي أعجب بطريقة أدائها وصوتها، بعدما قام الفنان محمد فوزي باكتشافها وتقديمها ووجد في صوتها تميزاً وفرادة وقدرة على تقديم أعماله بشكل يرضي طموحه ورؤيته الموسيقية، فقدم لها العديد من الألحان فاقت في عددها ما قدمه لسواها، منها: “حبينا بعضنا“، “ليالي العمر معدودة“، “مسيرك هاتعرف“، “أبيض يا وردي“، “حبه حبه“، “يا نور عينيه وأكتر شويّة“، “آه يا لموني“، “يا بنت بلدي زعيمنا قال“، والعديد غيرها.

الأغنية الشعبيّة

إذا كانت الأغنية الشعبية بمفهومها ومضامينها هي جزء من التراث الشعبي المرتبط بدوره بالفلكلور أو بالثقافة المجتمعية المعبِّرة عن الواقع الاجتماعي والثقافي في مجتمعاتها، وعن مدى امتزاج الوجدان الجماعي بالبيئة والأرض وبمفردات الحياة اليومية وأحلام البسطاء وعاداتهم وتقاليدهم، فإن ما قدمه محمود الشريف في هذا المجال لم يبتعد كثيراً عن هذه المضامين التي اتخذت شكلاً آخر غير الأغنية الشعبية بالمعنى الفولكلوري للكلمة، وإن اقتربت أحياناً من مضامين الفن الشعبي التراثي الذي غالباً ما يتحول إلى مأثورات شعبية تتناقلها الأجيال وتضيف إليها وتطغى شهرتها على شهرة صاحبها ومُنشِئِها الأول. هذا بالضبط هو القاسم المشترك بين ما قدمه محمود الشريف في مجال الاغنية الشعبية وبين المفهوم العلمي المصطلحي للكلمة. فمحمود الشريف من القلائل الذين طغت أعمالهم على شهرتهم لأصالتها وقربها من نبض الجماهير وتعبيرها عن روح الشعب، حتى بدت بعض أعماله أقرب إلى الفولكلور أو إلى التراث الشعبي الذي غالباً ما يكون مجهول المصدر تتناقله الشعوب جيلاً بعد جيل.

نتوقف هنا عند نموذج شديد الدلالة من نظم أبو السعود الإبياري وهو: “يا حسن يا خولي الجنينة”، باعتبار أن محمود الشريف اقترب كثيراً من إبداع أثر فني شعبي أصبح من كلاسيكيات الموسيقى الشعبية، إذا جاز لنا أن نتحدث عن “كلاسيكية” مرتبطة بالتراث الشعبي، وذلك لا من حيث تصنيفها بالتأكيد ضمن المدارس الموسيقية، وإنما من حيث قدرتها على تجاوز الزمان والمكان وعلى إيجاد مكانتها الخاصة في لوحة التراث والذاكرة الموسيقية العربية ومكانها المميز كمرجعية موسيقية يستدل بها، ونماذج يهتدى بها لتكون انطلاقة ونقطة ارتكاز لمسار تغييري أصيل من نسيج الهوية ومن روح البيئة الطبيعية التي تمنح حضارة ما ملامحها الخاصة. هكذا تولد من هذه الأغنية عشرات التوزيعات الموسيقية بتنويعات متعددة  ورؤى موسيقية مختلفة كما استخدمت كموسيقي تصويرية في عدد كبير من الأعمال الدرامية السينمائية والتلفزيونية والمسرحية المعبرة عن الواقع الشعبي. حين قدم محمود الشريف هذه الاغنية للتراث الموسيقي أتراه كان يدرك أنها ستجوب الآفاق شرقا وغربا يتغنى بها الناس وتغنيها الأمهات لكل “حسن” في أفراد أسرتها وأبنائها؟ يحملنا السؤال الى إشكالية فنية توقف عندها نقاد الأدب والموسيقى طويلاً، وهي جمالية التلقي وإسهام المتلقي أو المستمع في بناء النص أو اللحن أو العمل الإبداعي وتلك العلاقة الوثقى بحركة العواطف والمشاعر والانفعالات التي تنمو وتصطخب في أرواحنا مخلفة أثرا جمالياً يستعصي على التفسير.

“وله يا وله”

كان لهذا الغناء الشعبي فرسانه من المطربين الكبار في مقدمتهم محمد عبد المطلب وعبد الغني السيد اللذان قدم لهما محمود الشريف مجموعة كبيرة من الأغنيات الشعبية منها على سبيل المثال: “يا بو العيون السود” و”بياع الهوى” لعبد المطلب. و”عالحلوة والمرة” و”البيض الأمارة” لعبد الغني السيد. وتستوقفنا بشكل خاص أغنية “وَلَه يا وله” الشهيرة التي غناها عبد الغني السيد من نظم أبو السعود الأبياري، وهي نوع من التشبيب الشعبي المعاصر بالحبيبة على طريقة أولاد البلد:

“يا بتاع التفاح فين تفاحك راح؟ في خدود ست الكل

يا بتاع الياسمين مين يندهلك مين؟ واحنا معانا الفل

دي حورية يا وله والنبي يا وله، يا وله”

إذ تبرز هنا الدلالات الكامنة وراء تلك الكلمات المنتقاة من قاموس التشابيه البلاغية في تراثنا الأدبي التي تحيل إلى جسد المرأة وعطرها إلى ذلك التكوير الذي يلف قوام الأنثى الشرقية واستدارة تضاريسها في صياغة تميل إلى الخجل اللفظي عن طريق تخيل بائع افتراضي يحاوره الشاعر العاشق  ليقارن بين بضاعته وجمال محبوبته. هذه الصيغة في اعتقادنا ابتدعها المؤلف لا للمقارنة بين بضاعة و”بضاعة”، بل هي محاولة للهروب من التشبيه المباشر والإشارة الواضحة لمناطق حساسة في جسد المرأة بما يحترم التقاليد والأعراف والقيم. ثم هذه المنافسة المحببة بين الفل والياسمين هي في صميم الحس الشعبي في مصر وانتصار زهرة الفل في النهاية ربما لأن الياسمين أسرع الى الذبول لوهن وريقاته. هو هنا يتحدث عن امرأة مكتملة الأنوثة تجمع بين الجمال والقوة والنضج مما يجعلها أقرب الى زهرة الفل المكتنزة. برز أيضاً نص أبو السعود الإبياري في غاية  العمق والجمال والبساطة الملائمة للغة البسطاء وأولاد “الحتّة”  التي لا تخلو من بلاغة ورمزية عميقة في التراث العربي الديني والأدبي ولا تنفصل، في الإحساس العام المتوارث، عن ادراكهم وانفعالاتهم الحسية والمعنوية والروحية.

يستهل محمود الشريف الأغنية بلازمة من مقام النهوند الذي يظللها من بدايتها الى نهايتها، نهوند بطعم يختلف عن ذلك الذي ألفناه في أغاني الخيال والرومانسية التي تحلق في أعالي الروح وفي أجواء ترفل بالنعيم. نحن هنا أمام نهوند الفقراء: نهوند شعبي شجي يعبر عن إحساس القلوب البسيطة وأحلامها وطموحاتها المتواضعة وعشقها الواضح والمغامر أحياناً. نهوند قد يثير دموعك لروعة شجنه والشحنة العاطفية التي يحملها لكنك تحتار في مصدر هذه الدموع، أمن الفرح هي أم من الحزن. هذا الالتباس الجميل لعله يعبِّر عن حالة حب يكون فيها المعشوق “قريباً على بعد، بعيداً على قرب”، أو ربما هو حالة من العشق الممنوع بين ابن البلد وإحدى “الغوازي” وهو اللقب الذي كان يطلق على الراقصات والمغنيات الرُّحل اللواتي يجلن الأرياف والمدن لتقديم فنهن طلباً للرزق. فيما اختار الشريف مقامي الرست والهزام بشكل متداخل للكوبليهات التي تتحدث عن أوصاف حسية مباشرة كالعيون والفم والضحكة والجبين الوضاء، توليفة واقعية مناسبة للأوصاف التي تبدو ماثلة أمام ناظري المستمع على إيقاع مقسوم يناسب أجواء الرقص المصاحب للأغنية التي قدمها عبد الغني السيد في مشهد تمثيلي غنائي في فيلم ” شارع محمد علي”. ثم ينتقل الى الجزء الثاني من الأغنية التي تتحدث عن باعة افتراضيين جوالين يبيعون التفاح والرمان والفل والياسمين كأنك  في حارة أو سوق شعبي. هنا تتراجع الموسيقى التي تعزفها الوتريات ويبقى الإيقاع والصوت الميلودي الجميل والنهوند المسيطر على جو الأغنية  ليضفي عليها مسحة من الشجن والرقي الذي يبلغه الإنسان العاشق بغض النظر عن ثقافته أو بيئته أو طبقته.

يمكننا اعتبار هذه الأغنية نموذجاً للأغنية الشعبية التي تدلّل بوضوح على إحدى خصائص محمود الشريف الفنية في تناوله لمضامين الأغنية الشعبية، هذه الخاصية تكمن في كونه هبط بالحب من الأجواء الأثيرية والحدائق الغناء في “ليالي الأنس في فينّا” الى الأرض ليحاكي أشواق وأحلام وأحاسيس الطبقات الاجتماعية الفقيرة التي زاد  تهميشها في التراث الفني الموسيقي بشكل عام، وذلك قبل أن ينتبه سيد درويش وقلة من تلاميذه على رأسهم محمود الشريف وكوكبة من الشعراء الذي آمنوا بضرورة الالتفات الى هذه الفئات المهمشة من الشعب المصري التي ظلت على الهامش تماما في مجمل النتاج السينمائي والفني والثقافي عموماً. فبعد أن كانت الأغنية العاطفية تعبر عن الحب المخملي، حب أبناء الذوات والأغنياء، أصبحت مع محمود الشريف وناظمي تُعبِّر عن حب أبناء الأحياء الشعبية، حب الحواري والأزقة والمقاهي الشعبية، وعن حوار المشربيات والنوافذ المتلاصقة. هذه المفردة “وله” نابعة من أعماق اللغة الشعبية في الأحياء والحواري والازقة، هي إذاً الأغنية الشعبية ببعدها الطبقي- لا بالمعنى الفولكلوري للكلمة، ولو أن محمود الشريف اقترب كثيرا من روح الفولكلور في بعض أعماله كما أسلفنا. كذلك كان محمود الشريف من أساتذة الأغنية الشعبية بمعناها الدارج الذي يدل على شكل معين من الأشكال الغنائية الموسيقية التي هي غالبا ما تكون أميل الى الطقطوقة أو الأغنية ذات المذهب والكوبليهات. هذه القدرة على النفاذ إلى روح الشعب وأشواقه كانت من أهم مميزات الفنان محمود الشريف وإحدى خصائصه بين مبدعي جيله.

“البِيض الأَمارة”

هذه الأغنية من العلامات الفنية الكبيرة في مسيرة محمود الشريف التلحينيّة، والتي حققت نجاحاً جماهيريّاً واسعاً على الرغم من أنها عملاً راقياً ورفيع المستوى ويحتاج الى ذائقة فنية خاصة، وقد يفسر لنا ذلك الرواج رهافة الحس الفني الفطري والذائقة الفنية الرفيعة المستوى  لدى الشعب المصري في ذلك الزمان. إذ صاغ محمود الشريف لحنه هذا أيضاً من مقام النهوند الأثير لديه باستثناء جملتين في الكوبليه الثاني كأنه أراد الحفاظ على وحدة الحالة الشعورية التي تتأرجح بين الأسى والحسرة وصولا الى اللوعة وتسير بخطى متئدة، كأنه يستعذبها على ايقاع  مقسوم بطيء مع غياب شبه كامل للتوزيع الموسيقي رغبة في عدم تشتيت المعاني التي تنبعث من روح اللحن لكي يضاعف تأثيره في النفس.

تنويعات تعبيرية خمس من مقام  النهوند في الكوبليه الأول تبدأ من درجة منخفضة من قرار المقام لتحاكي حالة الأسى المقيم التي عادة ما تدخلنا في حالة من الهدوء هي أقرب الى الاستسلام منه الى الرضى، ثم يتدرج صعوداً الى مرحلة الحسرة واللوعة التي استدعت نداء الى القمر بعد أن تعذر الحل على الأرض عله  ينير قلب المعشوق ليعود عن ظلمه:

“يا بدر تحت سماك عليل وعز دواه

أمانة تبعت ضياك للي ظلمني هواه”

وهنا لفتة جميلة وعميقة من الشاعر سيد مرسي الذي صاغ  ببلاغة وعمق العلاقة بين ضياء القمر وظلم المحبوب فألمح بشكل ضمني الى أن الظُّلم ظلام في النفس لا ينقشع الا بضياء الانصاف والوفاء. ثم يواصل صعوده:

“بلّغهم سلامي وادّيهم أمارة

أشواق وهيامي وليل الحيارى”

ويعود الى هدوء أساه ليعبر، في شجن، عن حكمة الذي اختبر الضنى وعذاب الهجر على خلفية من الغناء الشجي للكمنجات. فإن الحزن ابن المعرفة:

“كاس الزمن بيدور ما حد غاب عنو

اصبر على المقدور فين راح تروح منو”

ثم تنويع تعبيري خامس على النهوند:

“البيض جرحوني راحوا وفاتوني ده بعادهم خسارة”.

تبرز التنويعات التعبيرية على المقام الواحد بانتقالات عامودية كالحفر في باطن المقام لإخراج نفائسه وكنوزه، لذا تراه في كثير من الأحيان أكثر عمقاً في مستوى التعبير وأنفذ سهما في القلب وأشد أثراً في النفس. وهذا لا يمنع أن الإنتقالات الأفقية بين المقامات المختلفة قد تحدث التأثير ذاته اذا وظفت في خدمة المعاني وصيغت في إطار من السلاسة التي لا تعتمد انتقالات فجة أو مفتعلة بلا مبرر لمجرد التنويع السطحي والثراء الكمِّي.

يستهل محمود الشريف الكوبليه الثاني بمقام الحجاز مواصلا به سرد حكايته مع ظلم الحبيب، الذي يراه الشاعر في الواقع ظلم الحب نفسه بغض النظر عن  لون المحبين، معبراً عن التعجب والاستغراب من الجحود، “السمر لاقوني اصون الوداد… بإديهم سقوني مرار البعاد”،  في تدرج نغمي صعودا يهيء المناخ للحظة الذروة الشعورية التي عبر عنها خير تعبير مقام الكورد الدرامي الشديد التاثير:

“قولولي أسأل مين على اللي راح مني

وفين ديارهم فين يا مين يوصلني”.

النهوند والحجاز والكورد ثلاثة مقامات، تخللهما موال من ارتجال المطرب الكبير عبد الغني السيد الذي تنقل فيه بين النهوند والبياتي في إطار نهوندي مسيطر، صنعت من هذا العمل الفني الشعبي تحفة موسيقية ساهمت في تعزيز مكانة فن الطقطوقة وارتقت بالأغنية الشعبية الى ذرى تعبيرية لم تكن لتبلغها لولا هؤلاء الملحنين الكبار. فيما اليوم، وبعد عقود على هذه الأعمال المتطورة الناضجة، اتخذت الطقطوقة شكلا بدائياً جداً ليس فيه جهد ولا خيال، جملتان أو ثلاث على الأكثر تتردد من أول الأغنية الى آخرها، مما أدى إلى تجرؤ كبير على هذا الفن واستسهال التلحين إلى درجة جعلت الدخلاء على المهنة أكثر من أصلائها والى تراجع التلحين لصالح التوزيع الذي أحتل الصدارة في تنفيذ الأعمال الموسيقية، للتغطية على ضعف المستوى الفني لدى الملحن وعن خواء في الخيال الموسيقي الذي ترك للموزع مهمة استحضاره لترقيع فراغات اللحن الفادحة.

“البيض الأمارة” عمل فني شعبي جميل يكاد يخلو من التوزيع لصالح الميلودي الثري جداً الذي من خلاله صال محمود الشريف وجال في واحة النهوند المترامية الأطراف ليعبرعن النص الشعري باخلاص العاشق واحساس الموهوب. محمود الشريف ورفاقه ينتمون إلى جيل النمنمات والزركشات والأرابيسك الموسيقي القادر على ابتداع تلاوين وأشكال لا حدود لها تجمع صنوف الخيال التعبيري في لوحة واحدة خلقت من هذا النوع الغنائي الموسيقي تيارا أو اتجاها أرسى قواعد الأغنية الشعبية في تراثنا الموسيقي وجعلها تحتل مكانتها المرموقة في مسيرة التراث العربي الموسيقي.

“رمضان جانا”

وإذ نمضي قدما في اقتفاء مسيرة محمود الشريف الفنية، يدهشنا مرة أخرى عمل فني بالغ الأهمية ترك بصمته على التراث الغنائي الخاص بالمناسبات الشعبية الدينية. تلك هي رائعته الخالدة “رمضان جانا” من نظم حسين طنطاوي التي لم تعد مجرد أغنية عابرة في ذاكرة المصريين والعرب الموسيقية، بل استحالت جزءاً من ضرورات حياتهم واحتفالاتهم بالحدث الديني الأهم، شهر رمضان الكريم. ببساطة بليغة وسهولة ممتنعة وعشق روحي قدم محمود الشريف رائعته تلك، فإذا بها تتجاوز قيمتها الموسيقية البحتة المهمة الى وظيفتها الاجتماعية.

“رمضان جانا” علامة فارقة وبصمة خاصة في تراثنا الموسيقي العربي، لا من حيث التقنية الفنية والتعقيدات أو السكك اللحنية لهذا العمل الجميل وحسب، بل من حيث قدرته على اختراق وجدان الناس بصدقه وعمق تثيره. فهذه الاغنية ليست بالبساطة التي تبدو عليها، بل هي لحن شديد التنوع والتركيب استهله بمقام العجم المسيطر على “المذهب”، حتى اذا انتقلنا الى الكوبليهات تظهر قدرة محمود الشريف على التنقل السلس بين مجموعة من المقامات المتداخلة في “كوبليه” واحد  بين حجاز وبياتي ورصد ولمسة نهوند، ثم عودة إلى مقام العجم عند الرجوع إلى المذهب، صنع منها جميعاً حالة انسيابية فريدة من نوعها توحي بالسهولة والبساطة على المستوى السمعي والتذوقي، فيما هي مركبة على المستوى التقني الإبداعي.

“رمضان جانا” مدينة كذلك  لأداء محمد عبد المطلب الذي لم يكن يغني لهفته الى الشهر الفضيل، بل كان يزأر بهذه اللهفة، تحديداً عند كلمة “جانا” التي كان يؤديها بكلية صوته الأجش وتمام حنجرته القوية، فتبلغ الشحنة الشعورية منا مبلغا عند نهاية كل مقطع.

المزيـــد علــى معـــازف