محمود الشريف: نهوند الفقراء | الجزء الثّاني

نشر هذا المقال في مئويّة محمود الشريف (1912-2012)، ونشرت لأوّل مرّة في مجلّة “بدايات”. ويعاد نشره في معازف على جزئين بالإذن من رئيس تحرير المجلّة: فوّاز طرابلسي.

الجزء الأوّل

المسرح الغنائي

حين اتجه سيد درويش إلى المسرح الغنائي، كان يحلم بإحداث ثورة فنية عارمة ترتقي بالموسيقى من أداة للتسلية إلى أداة تعبيرية راقية ذات وظيفة اجتماعية وثقافية قادرة على إحداث التغيير. فالمسرح يتيح للموسيقي التعبير عن مضامين وأفكار قد تفوق قدرة الأغنية الفردية بكثير، لا سيما أن التراث الموسيقي العربي لم يعرف الموسيقى المحضة بمفهومها المعاصر إلا في مراحل متأخرة مع ظهور المسرح والسينما اللذين أثمرا نوعاً جديداً من الموسيقى التعبيرية في ما اصطلح على تسميته بالموسيقى التصويرية،  ثم ما لبث أن أصبح للتأليف الموسيقي رواده في مصر من أمثال: أبو بكر خيرت ومدحت عاصم وعزيز الشوان ورفعت جرانه وسواهم. لكن ظلت الموسيقى المحضة موسيقى نخبوية ولم تستطع أن تخترق الوجدان الجمعي في حضارتنا الموسيقية على غرار الأغنية الفردية، لكون موسيقانا  تنتمي بدايةً إلى ثقافة التخت الشرقي لا الى ثقافة الأوركسترا. وبقي المسرح أداة مثالية لتقديم هذا النمط من الأعمال الموسيقية الغنائية المعبرة عن المواقف والكلمات وتلك الموسيقى الخالصة المعبرة عن الأفكار والرؤى. فعلى خشبة المسرح ولدت الأغنية التعبيرية وأطلقت العنان للخيال التلحيني.

عشق محمود الشريف المسرح الغنائي، وكان يعده المحك الحقيقي لقدرة الموسيقي على التعبير وإظهار إمكاناته الفنية وقدرته على إبداع عمل فني متكامل البناء. ومذ تطلع سيد درويش إلى مشاركة الناس آلامهم وأحلامهم عبر توجيه الخطاب لفئات الشعب المهمشة، من عربجيّة وفلاحين وعسكر و”غراسين” وصولاً إلى الحشاشين، من دون حواجز معرفية تحول دون تذوقهم للموسيقى واستيعابهم لجمالياتها، أحدث نقلة نوعية في تاريخ الموسيقى العربية ووظيفتها موظفاً المسرح الغنائي في سبيل هذه الغايات، حتى بتنا نتحدث عن مسرح ما قبل وما بعد سيد درويش. كان محمود الشريف يؤمن يقيناً أن هذا النوع من الفن هو مسرح ذو دور حضاري وتثقيفي، ذاك الذي حلم به وسعى جاهداً لتحقيقه واستنهاضه من جديد. وكيف لا يكون ذلك نهجه وتلك رؤيته، هو الذي اهتدى بأعمال ومسرحيات أستاذه الأول سيد درويش، وداوود حسني، ثم كامل الخلعي (الذي أدركه وهو على فراش المرض). حاول محمود الشريف أن يستلهم هذه التجربة وفق متغيرات جيله ومقتضيات عصره وإبداعه الخاص عبر الاحتضان الموسيقي لأحلام الشعب وطموحاته. لكنه فشل في محاولاته الحثيثة لتكوين فرقة مسرحية غنائية أو الإعداد لعمل مسرحي غنائي متكامل يحقق طموحاته حتى وفاته لأسباب متعددة، رغم مشاركته مع عدد من زملائه في بعض الأعمال المسرحية.

كانت الظروف تعاكس محمود الشريف وتدفن حلمه الكبير في مهده حتى جاء اليوم الذي ارتبط فيه بأم كلثوم، فكان يرى فيها تجسيداً حياً لتحقيق حلم إحياء المسرح الغنائي الذي كان قد إندثر بعد الازمات المالية التي ألمّت بالفرق المسرحية خلال الحرب العالمية الثانية، وانتشار السينما، ورحيل رواده الكبار سيد درويش، وكامل الخلعي، وداوود حسني (باستثناء بعض الأوبريتات الجميلة التي قدمها كل من زكريا أحمد وأحمد صدقي). أقنعها الشريف بأهمية المسرح الغنائي وبضرورة أن تكون المرشحة الأولى للقيام بهذه المهمة القومية والحضارية. وكادت الفكرة تتحقق لكن الظروف حالت مرة أخرى دون ذلك، وكانت فرصته الأخيرة عندما دعته وزارة الإرشاد لتلحين رواية إحسان عبد القدوس الغنائية “هدية الاثنين”، فسارع محمود الشريف بقلب مفتوح ورغبة جامحة إلى تنفيذ هذا العمل مستعيناً بفؤاد الظاهري موزعاً وقائداً للأوركسترا، وبمأمون الشناوي كاتباً للأغاني. لكن الأمنية تبخرت عبر اتصال مفاجئ من وزارة الإرشاد (ممثلة بعبد المنعم الصاوي آنذاك) ترجوه أن يدع هذا العمل للموسيقار محمد عبد الوهاب ويستبدله بمسرحية “مهر العروسة” التي كان مكلفاً بتلحينها موسيقار الأجيال. فاجأه الطلب وأحزنه، إذ كان متابعا في الصحف للمشكلات الكثيرة التي كانت تحوم حول “مهر العروسة” ثم وافق إرضاء لصديقه محمد عبد الوهاب، لكن المشكلات حول المسرحية لم تتوقف ولم يكتب لهذا العمل أن يرى النور. أما “هدية الاثنين” فلم تر النور هي الأخرى حتى لحّنها فيما بعد محمد الموجي. ولم تثن هذه الإحباطات المتتالية عزمه، وظل يحاول دون جدوى، فالأغاني الفردية لم تكن تروي ظمأه وتحقق طموحه، فالتفت إلى ألوان أخرى وجد فيها تعويضاً عن المسرح الغنائي كالاغنية السينمائية والصور الغنائية الاذاعية. وكان الشريف من الاوائل الذين لحنوا الصور الغنائية التي برزت كنمط فني جديد بعد غروب المسرح الغنائي في مصر الثلاثينات، وقدم العديد من الأوبريتات والاوبراليات الإذاعية التي برع فيها إلى حد كبير: “بالوما”، “قَسَم”، “ولد العم”، “الراعي الأسمر”، “عذراء الربيع”، “ريا وسكينة”، “جحا المصري”، “شارع عماد الدين”. ولمحمود الشريف يعود شرف تقديم أول أوبرا مصرية من خلال الإذاعة “روما تحترق” سنة 1942، شارك فيها بالغناء كارم محمود وأحلام وسعاد مكاوي ثم “روميو وجولييت” سنة 1946. وللمسرح قدم الشريف بالاشتراك مع زملاء له أوبريت “القاهرة في ألف عام” التي أخرجها فؤاد الجزايرلي في أواخر الستينيّات، وأخيراً شارك أحمد صدقي وعبد الحليم نويرة و فؤاد حلمي تلحين أوبريت “موال من مصر” في أوائل السبعينيّات، والتي قدمت على مسرح سيد درويش في الإسكندرية ومسرح الصوت والضوء في الهرم وكانت من إخراج زكي طليمات. لم يكن باستطاعة محمود الشريف أن يتصدى للمسرح الغنائي بمفرده، لأن مثل هذه الأعمال تحتاج إلى دعم كبير ومساندة من وزارة الثقافة، لكن ذلك لم يحدث ورحل محمود الشريف وكانت آخر الكلمات: “إنني وأنا علي فراش المرض، أرنو ببصري إلى خمسين عاماً عشتها بين الموسيقي والغناء، اتطلع إلى اليوم الذي يزدهر فيه فن الاوبرا والاوبريت بعدما تم افتتاح دار الأوبرا الجديدة. إنه ذلك الحلم الذي عشت من أجل تحقيقه وودت أن يتحقق في حياتي. فهل أراه يتجسد حياً أمام عيني قبل أن أفارق الحياة؟”. ويبدو أن جل ما استطاعه المسؤولون في حق هذا الفنان هو أن ينفذوا له بأن يدفن في منطقة المنارة، حيث يرقد سيد درويش ومشاهير الإسكندرية.

ولو استعرضنا التاريخ الموسيقي لمحمود الشريف وتوقفنا ملياً عند نتاجه، لعرفنا كم الظلم الذي لحق به نتيجة عزوف الدولة والإعلام عن رعاية هذه العبقرية الفنية بما يليق بها وابراز حقيقة قيمتها مما أدى الى لجم قدراتها الإبداعية، نتيجة لطغيان ثقافة المصالح والمحسوبيات بشكل كبير في عالم الفن والثقافة كانعكاس طبيعي لمنظومة الفساد التي سادت منذ أواخر السبعينيّات حتى وصلنا الى الانحطاط الكامل. واقتصر اهتمامها وأشكال تقديرها على منح الجوائز واقامة المهرجانات التي ساعدت على تبديد الأموال لا على تغيير الأحوال للأفضل. بل لعلها شاركت في مسيرة الانحدار، ونشر ثقافة الابتذال، والفن الهابط، لا في الأغنية فحسب بل على صعيد المسرح تحديداً الذي شهد انحداراً مروعا على كافة المستويات، وطغيان مسرح القطاع الخاص الذي تحول إلى شبه ملاهٍ ليلية في الثمانينيّات والتسعينيّات، وانحسر دور المسرح القومي الذي كان يقدم أعمالاً جادة وكذا المسرح الخاص الذي يحترم تاريخ المسرح المصري بقطاعيه، الذي شهد عمالقة المسرح العربي يوسف وهبي وزكي طليمات. ساهم تخلي الدولة عن واجبها في هذا المجال، واتجاه المبادارات الخاصة القادرة على احتضان اعباء المسرح الغنائي الكبيرة إلى الأعمال ذات المنحى التجاري والمردود المادي السريع، في وأد جميع المحاولات التي وضعها محمود الشريف ورفيقه أحمد صدقي لإنعاش المسرح الغنائي وإعادة إحيائه. واستقالت الدولة تماما من هذه المهمة الحضارية، كذلك لم تعر أي اهتمام جدي حقيقي للبحث العلمي في مجال الموسيقى والفن والثقافة للارتقاء بالذوق العام الذي يساهم في اعلاء القيم الحضارية في مجتمعاتنا، لا على المستوى الأكاديمي المتخصص ولا على المستوى التعليمي في المدارس والجامعات.

الأغنية الوطنية

شهدت حقبة الخمسينيّات والستينيّات نهضة كبيرة للأغنية الوطنية التي قفزت قفزات نوعية في مسيرة تطورها من مجرد أغنية شبيهة بالمارشات العسكرية تتغنى بالوطن الى أغان وأناشيد وأهازيج ذات أبعاد ومضامين سياسية وثقافية واجتماعية وحتى إيديولوجية. فقد عبّرت الأغنية الوطنية في هذه المرحلة عن أفكار الثورة ومشروعها السياسي والاجتماعي والوطني والقومي، وانخرط الجميع مبدعون وجماهير في هذا الحراك الكبير الذي توّج مصر قائدة للأمة العربية على كافة الصعد. فأثناء العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 صدحت الإذاعة المصرية بمجموعة من الأناشيد الوطنية التي كانت نقطة تحول في مسار الأغنية الوطنية، نذكر منها بشكل خاص نشيد نداء العروبة الشهير بـ”وطننا في خطر” الذي أدته باقتدار شديد المطربة نجاح سلام وكتب كلماته الفنان محمد سلمان ولحنه الملحن اللبناني المبدع عفيف رضوان. وكان أول نشيد  أطلقته إذاعة صوت العرب من القاهرة مباشرة قبل أن يتوقف البث نتيجة العدوان ثم أذاعته العواصم العربية وعلى رأسها دمشق التي اطلقت آنذاك صرختها المدوية لدعم مصر “هنا القاهرة من دمشق”. كذلك نشيد “لبيك يا علم العروبة” الشهير من تأليف والحان وأداء محمد سلمان، ثم “دع سمائي فسمائي محرقة” من أداء فايدة كامل وكلمات الشاعر كمال عبد الرحيم وتلحين العملاق علي اسماعيل المؤلف والموزع الموسيقي والملحن الذي كان له الفضل في إخراج غالبية الأناشيد الوطنية لموسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب، وكذلك مجمل الأعمال الوطنية للكبيرين كمال الطويل ومحمد الموجي ولاحقا بليغ حمدي. بل يمكننا القول إن حقبة الخمسينيّات والستينيّات كانت حقبة علي اسماعيل بامتياز في مجال الأغنية الوطنية. ولا ننسى في هذا الاطار الاعمال الوطنية الكبيرة لرياض السنباطي وزكريا أحمد وأحمد صدقي التي قدمتها الأصوات القديرة والبارزة في تلك المرحلة. في هذه الاجواء الحبلى بالانتصارات والأمل، عبّر الفنان محمود الشريف ورفاقه بموسيقاهم عن ثورة 23 يوليو التي حاول البعض التشكيك في ثوريتها ووضعها في خانة الإنقلاب العسكري، غير أن الواقع على الارض والتحولات الكبرى التي شهدتها مصر على كافة الصعد الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والايديولجية، والتقنية التحديثية بين عامي 1952 و1967، لا تحتمل تسمية أخرى.

لم يكن محمود الشريف فناناً محايداً، بل كان واضح الانحياز. فمنذ اللحظة الأولى أعلن انحيازه الكبير إلى صفوف الجماهير بتقديمه الأغنية الشعبية المعبرة عن أحلام الشعب وأشواقه. وقف محمود الشريف بجرأة ووضوح ضد الحكم الملكي وكل ما يصدر أو يعبر عنه، سياسياً وحضارياً وثقافياً. وما أغنيته الشهيرة “يا عطارين دلوني” سوى إرهاص من إرهاصات الثورة التي عشقها وكان لها في نفسه مكانة خاصة. يقول عنها في مذكراته أنها “جاءت رداً على سخف الأغاني التي كانت تردد إسم فاروق بالحب والإجلال والتكريم، بينما الجماهير تهتف بسقوطه في شوارع القاهرة والإسكندرية. هذه الأغنية رددتها كل جماهير الشعب من الإسكندرية إلى أسوان وأحبتها أغنيةً عاطفية، لكنها في الحقيقة كانت تعبيراً صادقاً عن نفاذ الصبر والتوق إلي التغيير الذي كنا جميعاً في انتظار حدوثه. كنت أرددها بعشق خاص وحفرت في نفسي مجرى معادياً لكل ما هو ملكي وكل ما يصدر عن القصر”. وجاءت ثورة 23 يوليو فكان محمود الشريف أحد الأعمدة الفنية الصلبة في تدعيم الثورة السياسية التي غيّرت وجه مصر وانداحت تداعياتها على امتداد الأمة العربية، فقدم مجموعة من الألحان والأناشيد الوطنية الخالدة التي أثرت في مسار الثورة وتأثرت بها. وما زالت الجماهير ترددها حتى اليوم وتستحضرها كلما عصفت بالأوطان المحن.

“الله وأكبر فوق كيد المعتدي”: نشيد الأناشيد

آمن محمود الشريف بالثورة، وقدم لها أعمالا عظيمة توجت برائعته الخالدة عام 1956 اثناء العدوان الثلاثي على مصر “الله أكبر فوق كيد المعتدي” الذي اعتبر قنبلته المدوية ونشيد الأناشيد حتى يومنا هذا. في نشيد “الله أكبر” ارتأى محمود الشريف أن يعود الى نمط الأناشيد التي سادت الأربعينات وبداية الخمسينات وكانت مستوحاة من موسيقى المارشات العسكرية والأناشيد الوطنية الرسمية لان اللحظة كانت تستدعي بث روح المقاومة والثبات وإيقاع المارش يحقق هذه المعادلة. صاغه محمود الشريف من مقام العَجَم، كلمات عبد الله شمس الدين وتوزيع المايسترو والمؤلف الموسيقي عطية شرارة وأداء المجموعة.

لهذا النشيد قصة يجدر التوقف عند مدلولاتها، إذ يروي محمود الشريف: “كان مدير الإذاعة وقتئذ الفنان محمد حسن الشجاعي، فاستمع إلى اللحن، وقرر تنفيذه على الفور، وقد يعتقد البعض أن الأصوات التي غنت النشيد هي أصوات الكورال المحترف الذي يتعامل عادة مع الإذاعة في الأغاني الجماعية، لكن ما حدث كان مفاجئاً،  فبمجرد أن بدأت البروفات التف حول الاستوديو كل عمال الإذاعة وأخذوا يرددون النشيد الذي هز ارجاء الوطن العربي بحماسة منقطعة النظير. لقد أحسست دقات قلوب الجماهير وأنا ألحن هذا العمل قبل أن يرى النور على الشاشات وفي الإذاعات”.

وبالفعل فقد تحول هذا النشيد وقوداً لكل المعارك التي خاضتها مصر والبلدان العربية من المحيط إلى الخليج كما أصبحت موسيقاه السكة الأساسية التي صيغ منها النشيد الوطني الليبي، وأعمال اخرى كثيرة له أبرزها أغنية شادية “يا بنت بلدي زعيمنا قال، قومي وجاهدي ويا الرجال”، التي أصبحت اللحن المميز لبرنامج “ربات البيوت” وكانت خير تعبير عن الموقف التقدمي للثورة من المرأة وحقوقها. ثم قدم بعد ذلك لحن “من الشرقية للغربية”، وسنة 1956 بعد تأميم القناة في 26 تموز (يوليو)، قدم “ارفع رأسك يا أخي” والنشيد الشهير “من المحيط الهادر إلي الخليج الثائر لبيك عبد الناصر”. بعد ذلك عهدت إليه قيادة الثورة بوضع الألحان الرسمية الخاصة بالكليات العسكرية: الطيران، البحرية، الحربية. كما وضع محمود الشريف نشيد اتحاد العمال العرب، وأهدى الثورة الجزائرية عدداً من الأناشيد، ووضع أناشيد خاصة لطلبة وطالبات مدارس وجامعات دمشق، فقلده الرئيس الراحل شكري القواتلي وسام الاستحقاق السوري في مهرجان كبير قدم فيه مقطوعة بعنوان “البطل جول جمال”.

ويتوقف الفنان الكبير عن تقديم الأغنية الوطنية بعد رحيل عبد الناصر باستثناء مساهمات قليلة في معركة أكتوبر 1973، بل ويعتزل التلحين عموماً باستثناء عدد بسيط من الأعمال على فترات متباعدة  كان آخرها على الأرجح “غربتني الدنيا عنك يا حبيبي” لياسمين الخيام سنة 1985.  وكان هذا التوقف يعبر عن موقفه الرافض للواقع الذي آلت إليه البلاد بعد عام 1973. يقول في مذكراته: “اعتزلت التلحين بعدما بدأ الانفتاح يأخذ طريقة ويتغلغل في الواقع المصري، مفسداً أشياء كثيرة، مشوهاً القيم والمفاهيم والثوابت والأغنية المصرية من بينها، فآثرت ألا أقع في مصيدة السقوط الذي أصاب مسار الأغنية، وفضلت أن أظل في القمة التي تربعت عليها منذ زمن”.

وبالفعل لولا التراث الفني الهائل والقيّم الذي شهدته حقبة الخمسينيّات والستينيّات والرعاية الثقافية الرسمية لها  لكان الحال كارثياً. ولا نقطع حبل السياق التاريخي للتطور الموسيقي في مصر والعالم العربي، إذ شكلت هذه الحقبة الفنية امتداداً حضارياً وثقافيا لتراث الرواد الذي وضع لبنة النهضة الحقيقية للموسيقى العربية. ويبقى الملحن محمود الشريف قيمة من تراثنا الفني تستحق الإحياء لا على سبيل محاكاة ما جاء به الأوائل، وإنما للإبقاء على ذلك الجذر الذي يمنح الشجرة خضرتها وقدرتها على النماء والإثمار.