ملاحظات ومفارقات في شأن برنامج ذا فويس وأشباهه

لا يدرك المرء المعيار الذي يتم على أساسه اختيار لجنة المدربين“. عدا عن الشهرة لا يمتلك بعضهم أصواتاً معتبرة، وليس بالضرورة أن كل من امتلك صوتاً يستطيع أن يدلّ للمشتركين المتنوعين إلى استخدام أصواتهم. في المقابل، يبدو أن تدريب الصوت في حد ذاته متروك إلى مختصين أكاديميين لا يخرجون من الظل إلا قليلاً، ليظل الجمهور مبحلقاً في نجومه القدامى مكتشفاً في كل آن خفتهم وطيبتهم وتصنعهم وتمثيلهم الناجح منه والفاشل. على هذا علّقت الباحثة والمغنية فيروز كراوية بأن على قدامى النجوم هؤلاء أن يدربوا المشتركين لا على الغناء – فكثير منهم قادرون عليه بتميّز – بل على مقومات النجومية وأسرارها. ولما كانت الأسرار، بطبيعتها، أسراراً، فإني لا أدرك كنه مقصودها بذلك، ذلك أن صناعة النجومية في بلادنا خاضعة لمزاجات وعناصر لا حصر لها، بدءاً بالمناخ الشعبي والتفضيلات السياسية إلى العلاقات الشخصية والشللية مروراً بالصرعات والموضات التي على النجمأو النجمةأن يلاحقوها للبقاء في دائرة الأضواء، وقليلون هم من يصنعون هذه الموضات أو يقدرون على صناعة أكثر من واحدة وحيدة منها (ربما كان الاستثناء البارز الوحيد هو عمرو دياب).

وبين ذا فويس وآراب آيدول وسوى ذلك من البرامج على مستوى العالم العربي، أو على المستويات المحلية، يمكن الملاحظة أن هنالك غزارة عارمة في الأصوات الجميلة. ليس الجميع على قدم المساواة بالطبع، فمنهم من يتمتع بخامة جميلة دون تدريب، والكثير منهم مقلدون جيدون، وبعضهم متميز الخامة والشخصية في الأداء. ولا شك أن هذه الغزارة في الأصوات الجميلة ليست مفاجئة ففي كل مرة ظهرت فيها مثل هذه البرامج، كان فيها العديد من المواهب.

ما يلاحظه المرء هو أن هذه الغزارة، السابقة والحالية، لم تؤدِّ في يوم من الأيام إلى صناعة موسيقى جديدة خارجة عن إطار المألوف، سواء الموروث منه أو المستورد. بل إن هذه الغزارة تؤدي إلى نقيض المطلوب منها، أي إلى الشعور بأن جمال الصوت ليس أمراً مهماً في ذاته، بل يكاد يكون من نوافل الأمور وتوافهها، ذلك أن صناعة فن جديد أو تطوير القديم في حاجة إلى مؤسسة متكاملة تكتب وتلحن وتوزع وتسوّق وتحارب لتظهر، وعنصر الصوت أو الشخصية في كل ذاك مهم لكنه ليس بالعنصر الأهم ولا بالكافي على أية حال. أي أن الموهبة الصوتية أضأل العناصر شأناً في تكوين مشروع فني حقيقي، لا ينفصل أصلاً عن مسار اجتماعي يكون هذا المشروع فيه ذا معنى.

كذلك يفاجأ المرء المنقطع منذ سنوات عن التلفزيون أيضاً بخيارات المشتركين. ففي برامج قديمة مثل استوديو الفن، في لبنان، كان واضحاً أن مجال اختبار المشتركين هو الموروث الفني، المصري أو اللبناني، وذلك بغض النظر عن استضافة بعض فناني الحقبة المشهورين آنذاك، كربيع الخولي، الذين سيؤدون أيضاً أغنيات من الموروث. أي أن المقرر المطلوب للامتحان كان دائماً من الموروث الفني. اليوم انتقل المشتركون من الانحصار في خيارات مثل استوديو الفن إلى الانفتاح على خيارات السوق الحالية، أي على مزيج من الغربي والعربي ومن القديم والحديث. وليس من المؤكد أن مثل هذا الخلط مؤشر على انضمام الحديث، كأغاني صابر الرباعي وشيرين عبد الوهاب وأنغام، لتعتبر جزءًا من الفن الأصيلومن الموروث الذي تتلقاه الفئات الشابة اليوم، أم أنه فقط علامة على التنوع الذي تطالب به مثل هذه البرامج مشتركيها لإرضاء أذواق جمهور بات أكثر ابتعاداً عن الانحصار في خيارات ضيقة لا تكاد تتجاوز أسماؤها أصابع اليدين.

ويفاجأ أيضاً من يريد الاستماع، لا فقط النظر إلى المشاركين والمشاركات، إلى ضعف القدرة على التطريب، أي على حياكة نسيج موسيقي متماسك ومفاجئ في مساحة مقامية وإيقاعية ضيقة والتلاعب بها وتوسيعها بذكاء ومهارة. مصدر المفاجأة أن المشاركين والمشاركات يتحدون بعضهم البعض مما يعيد رونقاً وأهمية إلى عنصر افتقدناه لعقود، أي عنصر الارتجال الذي هو أساس مساحة التحدي. غير أن الارتجال هاهنا لا يأتي بدقة الطرب ورقته، بل يأتي بالاستعراض السطحي لقوة الصوت أو لاتساع مساحته، فتكاد تكون أغلب الزخارف الصوتية معتمدة على إبدال النوطة المطلوبة بأخرى أعلى منها، ولكن من ضمن الائتلاف الموسيقي، ومن ثم أحياناً النزول من العالي ذاك إلى النغمة الأساسية، أو على ابتذال الصعود إلى الجوابات بسرعة، بدلاً من الحفر ضمن الجنس الموسيقي نفسه الجنس عادة أربع نغمات متتالية من السلم الموسيقي وإبراز شخصيته ونكهته. كذلك تعتمد أغلب الزخارف على إبراز القوة، وعلى السيطرة بها، بدل إبراز الذكاء في استخدام الصوت والتنفس وتلوين الجمل لدى إعادتها في حساسية لا تعتمد على الفضح بل على الإيحاء واللمسات البسيطة.

أخيراً، كثيراً ما يردد المدربونكلمة الإحساسكمعيار للحكم على المشتركين، فهذا إحساسه عظيم وذاك كتلة من الإحساس وهذه إحساسها عالٍ، وما إلى ذلك. غير أن أحداً بطبيعة الحال لم يقل ما هو المقصود بالإحساس. لكن متابعة بعض المشاركين والتعليقات على أدائهم توضح بأن هذا الإحساس ما هو إلا القدرة على التمثيل“. أي القدرة على تقمص الكلام (الفارغ في أغلب الأغاني على أية حال) والإيحاء بأن ما يغنيه المرء هو ما يشعر به في هذه اللحظة بالذات، ولما كانت أغلب الأغنيات تتحدث إما عن الهجر وألمه أو عن الوصل وفرحه أو عن الشك وقلقه، انحصر التمثيل المطلوب أصلاً في عدد ضئيل من المشاعر المحدودة والمتكررة، في شكل يعيق تواصل المستمع مع الموسيقى التي يفترض بها أن تفتح له آفاقاً جديدة في المشاعر، لا أن تجتر المعتاد منها، مثلما تفتح له انتباهات مختلفة وإنصاتاً إلى المادة الصوتية المبذولة لا إلى تكشيرات أو ابتسامات من يؤديها. وهي لمفارقة حقاً أن حال المغني والمغنية والحكم عليهما باتا خاضعين لا لحاسة السمع بل لمعايير تابعة لحاسة البصر، سواء كان ذلك الوسامة والجمال أو كان القدرة على تقمص نوع رديء من التمثيل الفقير والمفقر!

لا يستوي في ذلك كل المدربينولا كل المشتركين بطبيعة الحال، ويظل يُحسب لمثل هذه البرامج إتاحتها المجال لشباب متنوع للبروز على مستوى العالم العربي في سرعة عارمة لا تقاس بانتشار شهرة الأقدمين ببطء ورسوخ، ولئن كان كثير منهم سيمضون إلى النسيان بعد ذلك، لأن طبيعة صناعة الموسيقى في العالم العربي لا تزال محكومة بمعايير جامدة واختزالية في موضات موحدة كل مرة، لكن سيظل أنهم في مرورهم ذاك، السريع أحياناً، يعيدون تذكير المستمع/المتفرج بأن الجمال، أقله الطبيعي أي الخامة الصوتية، لن ينقرض وبأن الأداء المحفوظ لدينا لأغنية من الأغاني ليس إلا احتمالاً وحيداً من احتمالات أغزر وأغنى يحاول بعض المشتركين اكتشافها ومشاركتنا متعتها عندما يحولون أغنية مشهورة إلى أغنية عليها بصمتهم الخاصة، أي تحديداً العودة إلى زمن ما قبل حقوق الملكية الفنيةوحشر الموسيقى في مجال التسليع الاحتكاري، وهي مفارقة أخرى في برنامج يقوم على تحويل شخصيات المشاركين أنفسهم إلى سلعة.