fbpx .

هدى بركات | الكتابة تعويضاً عن الموسيقى التي فاتتني

معازف ۲۰۱۲/۰۲/۲۵

قراءاتي عن الموسيقى جاءت بمحض الصدف. لا هي كانت ممنهجة، بحثية، ولا من قبيل متابعة اختصاص فنّي. فلم يكن في بيتنا بيانو ولا أسطوانات كلاسيكيّة في مكتبتنا الصغيرة. الموسيقى كانت تعني الأغاني، وتلك المقاطع الطويلة التي تقدّم للصوت الذي يبقى السيّد.

لم أكن أعي أن الموسيقى، حاملة الكلام، هي غير الصوت. وأنّ المغنّي هو تابع الموسيقى ومريدها. لذا اقترنت في إحساسي العميق النوطة بالحنجرة حتى زمن متأخّر. وفي بداية مراهقتي قفز الصوت – وخاصة الكلام، الشعر – إلى الواجهة. كان ذلك في الأغاني الغربيّة بداية، تلا ذلك حقبة الأغاني الوطنيّة ولو أنّ الأخيرة كانت سريعة العبور. كان صوت وكلمات جاك بريل Jacques Brel مثلا – آنذاك – هو الجاذبيّة القصوى، كأنّ موسيقى أغنياته كانت لزوم ما لا يلزم. ربّما كان ميلي لأن أعارض كلّ ما تعلّمته في المدرسة سبباً من الأسباب. أن أجد أنّ الملل المتأتّي من تماريننا على الموسيقى الكنسيّة وإنشاد الآحاد، وكافّة الصياغات اللغويّة حول فعل الموسيقى في تهذيب المشاعروالـ رقيّ بالغرائز الوضيعة” – كلّ هذا كان منفّرا مكرّرا ومضجرا إلى أقصى حدّ. كانت منفّرة أيضاً أغاني – وموسيقى – أم كلثوم التي كانت تستجيب بالنسبة لنا لأمزجة جيل آبائنا والقدماء عموماً.

لم تكن قراءة ليفي ستروس هي ما نبّهني“. لم تنبّهني يوما النظرية غير المقترنة بالحسّ. اتجهت غريزياً إلى سماع الموسيقى متخلّصة مما عداها في بداية الحرب، ومع اندفاع جارف أصابني للهرب من الكلام. أيّ كلام أو كلمات. ومضى وقت توقّفت فيه عن القراءة، ولم يكن يخطر لي في تلك الأيام أني سأكتب يوما. كانت كأنّها حاجة حقيقيّة لنزع أيّ شيء يعلق بالموسيقى، يدخل عليها، يرافقها أو يُثقل عليها. بلا ثقافة أو إرشاد صرت أسمع كثيرا الرومنطيقيين من الكلاسيكيين دون أن أعرف أو أميّز أو أختار. وكان اختراع الووكمن Walkman العظيم ما دفعني إلى شراء الشرائط، وإذن إلى التعرّف الإضطراري على ميزات وأسماء ومناهج. الووكمن كان انتقالا نوعيا في حياتي. كانت الموسيقى تدخل مباشرة في كامل الجسد. كالمصل. وكانت سمّاعاته تفصلك عن العالم تماما، وتستطيع حمله معك خفيفا في الهروبات. وكان هذا نعمة.

لكنّ التصاقي الحسّي بالموسيقى المجرّدة لم يبعدني عن ولعي بالصوت رغم فصلي بين المتعتين. وهو كذلك لم يجعلني أقدّس الموسيقى المهذّبة للغرائز الوضيعة، على نحو ما كانت تقول الأمّ الراهبة. الصوت البشري ظلّ يسحرني تماما، لكن بلا الـ أغاني، أعني تلك الدارجة التي تُبثّ في الراديو أو تدور على الأسطوانات السوداء ثمّ في السي دي. الصوت عاد في سحره إلى العتابا والميجانا، في صوت أبي وأصوات الرجال من عائلتي متخلّصا من الموسيقى المؤلّفة تأليفاصوت الرجال فقط لا أدري الآن لماذا.

الموسيقى الكلاسيكيّة كان درسها طويلا وغير منتظم. لكنّها – حتّى الآن لم تحمل في وعيي أيّة قدسيّة كنت أسمع بها ممّا كانت توصف به ناحيةتلك الموسيقى. لا ورع ولا تبجيل أو خشوع. فقط ذلك الامتزاج الجسدي القويحتّى وقعت بالصدفة على كتاب بعنوان حقد الموسيقى في مكتبة أنطوان. لم أكن سمعت آنذاك بـ باسكال كينيار Pascal Quignard. أعجبني أن أقرأ في ذلك الكتاب : “أستغرب أن يستغرب البعض كون البشر المحبّين لأرقى وأجمل الموسيقى، واللذين قد يبكون من إحساسهم المرهف بها، قادرين على القيام بأعمال وحشيّةالفن ليس معاديا للبربريّةوالفاشيّة ملازمة للميكروفون…” بعد ذلك قرأت بلهفة كلّ صباحات العالم ومن بعده درس الموسيقى لـ كينيار نفسه. وفي رواياتي أثر بائن لقراءاتي هذه، مع ما تعيده الموسيقى المستقرّة باتت في الأعضاء من إضاءات وتأليفات حرّة. ومنها العودة الهانئة، والمنعتقة في المزج والفصل والتركيب، إلى أم كلثوم وعبد الحليم حافظ وصباح وجاك بريل و.. ديميس روسّوس وماريا كالاس. وهاندل وشوبان وليتز وباخ.. وروك وبلوز وجاز

ورغم نفوري من تعبير طقوس الكتابةفأنا لا أسمع حين أكتب، بل قبل ذلك، ولو لوقت قصير غالبا ما يكون عند الفجر. أمّا عن دخول الموسيقى إلى العمل الفنّيفهو ظاهر وباطن. وبائن جدا في كلّ رواياتي، من الأولى إلى الأخيرة، وبقوّة ووضوحوروايتي الأخيرة، ملكوت هذه الأرض، هي حكاية صوت، بكاملها تقريبا

* أقدم ما أتذكّره هو صوت أمّي تغنّي لي لأنام. “يللا تنامقبل فيروز بكثير. أمّا عن مرافقة الموسيقى لحياتي العاطفيّة فهي ترافق حياتي كلّها. حين كنت عائدة من المستشفى بعد أن وُلدت حفيدتي رحت أغنّي في الباصوبعد عودتي من دفن والدي لم يكن هناك سوى موزار وفردي وروكييمات أخرى، وتنويعات الستابات ماتر لتساعدني أمّ يسوع على إخراج الدموعأعتقد بأني لو كنت عرفت الموسيقى صغيرة ودرستها لما كنت اليوم كاتبة. الكتابة عندي تبقى تعويضا عن الموسيقى التي فاتتني.

* للموسيقى وظيفة؟ لا أدري. ربما تكون في وظائف الفنون عامّة. أو ربّما لها وظيفة أكثر حسيّة وفائدة في انتظام حركة الرئتين ونبض القلب. القلب الكاره أيضا. ليست وظائف الموسيقى غير وظائف الجسد، بعصبه الحادّ والناعم أيضا. إنّها وظيفة المحفّز الكيميائي الذي يدفع بك إلى أقصاك. المارشات العسكرية وأناشيد القتل الحزبيّة هي أيضاً موسيقىهي طبعاً موسيقى ولها فعلها ووظيفتها.

* هكذا أيضا للقول إنّ الأغنيات العربيّة والموسيقى الشرقيّة ليست هي من يلعب الدورفي صياغة ما هو سائد في مجتمعاتنا بل العكس. هذه مثلا أيّام تشبه ما تسمعه وتحبّه الغالبيّة من الشعب: أغاني محمد اسكندرلا اعتراض. الاعتراض، لو وُجد، هو أنّ الآخرين يشبهونه كثيراً. أي أن التنويع والاختلاف لم يعد يشي باتساع المشهد ليضمّ التباين واختلاف الأمزجة والأذواق

* بغض النظر عن القيمة الوجدانية وعن محتوى الرسالة السياسيّة النقدية ومستواها وفحواها، هل كانت أغاني الشيخ إمام من حيث التركيب الموسيقي غير ما هي عليه اليوم أغاني شعبولا؟ أهي أغنية أم أهزوجة؟

سؤال آخر: ماذا نسمّي أناشيد داعش على مواقعها الإلكترونيّة، وهي أقوى تركيباً من تراكيب أغاني محمد اسكندر وأكثر فعلا في القلوب؟ وهل نحيل أغاني اسكندر إلى اللهو الخفيف والنسيان؟ أو إلى فعل مقاومة لكلّ ما تدعو إليه أناشيد داعش؟ أم نتساءل حول قدر الحواربين الإثنين، وكيف يولّد واحدهما الآخر؟

مرّة أخرى أربط إجابتي بردّي على السؤال السابق. مفردات أغانينا بما أشرتَ إليه من حب وهجر وانتظار وعذول وليل هي مفردات جميلة في ذاتها. لكن الأغاني التي تتكىء عليها وتكرّر استعمالاتها في فراغ المعاني وتفريغها على خشبات الكاباريه، حتّى الكباريهات العائليّة، لا تجرّ وراءها إلاّ حال ما اخترنا أن نسمع. إنّها نحن والآن. هل نسمّي ذلك انحسارا؟ إنّنا إذن ننحسر“.

المزيـــد علــى معـــازف