أجنبي جديد

نسخة الماضي عن المستقبل | عن المخرج وارِن فُو

عمار منلا حسن ۳۰/۰۷/۲۰۱۷

لو شاهدتم أغنية ذ ستروكس المصورة الأخيرة ثرِت أُف جوي فستكونون قد رأيتم وارِن فُو: جالسًا على مقعد الإخراج، ممسكًا في شماله سمَّاعة رأس بيضاء كبيرة وفي يمينه مكبِّر صوت برتقالي يصيح من خلاله “كَت!”، قبل أن تضع قوات السوات كيسًا أسود على رأسه وتقوم باختطافه.

تواصل وارِن مع ذ ستروكس للمرة الأولى في ٢٠٠٧، كان قد أعد فيديو بديل لأغنية يو أونلي لِڨ ونس التي كانت الفرقة تصورها آنذاك، وأرسلها إلى إيميل إدارة الفرقة بالطريقة التي أرسل بها عدة فيديوهات إلى عدة فرق دون أن يحصل على أي رد. بعد فترة، ردَّت منسقة ذ ستروكس وزوجة عضوها الرئيسي جوليِت كازابلانكاس على وارِن، طالبةً منه إتمام الفيديو وتصميم موقع الفرقة.

بعد أن انحلّت ذ ستروكس مؤقتًا بدايةً من ٢٠٠٧، استمر عازف الطبول فابريتزيو مورِتِّي بالعمل مع وارِن في العام التالي من خلال فرقته الجديدة ليتل جوي، حيث صوَّر وارِن أغنية نو وانز بِتر سايك بأسلوب سبعيناتي، ثم دعاه مغني ذ ستروكس جوليان كازابلانكاس إلى العمل معه على ألبومه الفردي الأوَّل في ٢٠٠٩ كمخرج فنِّي، حيث قام بإعداد اللوجو والغلاف وبعض المواد الترويجية، إلى جانب تصوير أغنية إلڨِنث دايمنشن. تقدم هذه الأغنية المصورة مثالًا واضحًا وتفصيليًا على جماليات الأسلوب الاستعادي-المستقبلي [Mtooltip description=” Retro-Futuristic” /] الذي يسود معظم أعمال فُو [Mtooltip description=” عمل فُو بعد عدة سنوات مع عازف الجيتار الثاني في ذ ستروكس نيك ڨالِنسي حين شكل الأخير فرقة سي آر إكس” /].

الاستعادية – المستقبلية

“أحب نسخة الماضي من المستقبل” وارِن فُو في مقابلة مع ذ جارديان

يشير فُو إلى ٢٠٠١ سبايس أودِسّي لـ كوبريك وسينما پاراديسو لتورناتوري كفيلميه المفضلين. الأوَّل بحسه المستقبلي الموضوعي، والذي يخلو من التعبيرية والشخصية (كسائر، وأكثر من، باقي أعمال كيوبريك) بطريقة مماثلة للأعمال الفلسفية التي رغم امتلاكها حسَّا أدبيًا تلتزم بموضوعية وقورة. والثاني بحسه النوستالجي الحنيني الغامر، والذي عند انتباهه السينمائي الدقيق للتفاصيل المادية والبشرية يكتسب هوية أكثر تحديدًا. بين التيارين، يخرج فُو بأغانٍ مصورة مثل إلڨِنث دايمنشن، جامعًا بين استخدامات الإضاءة الضبابية والمتكسرة في محيطات مظلمة، وبين إضافة عناصر مستقبلية بما تشمله في الكثير من أحيان من ثمات دِستوبية، سواءً من حيث كون المستقبل كهربائي للغاية أو حتى بشكل بحت، أو من حيث كونه على كواكب أخرى قاحلة، بسمائها المغبرة الخانقة وثيابها الوظيفية. بين هذا وذاك يستخلص وارِن السخافة – التي غدت عبر منظورٍ استعادي فكاهية ومحببة – من أفلام الخيال العلمي الأمريكية السبعينية والثمانينية (خاصةً كفيلم ترون)، بميزانياتها المتواضعة وتقنياتها البدائية.

يتفق هذا التوجه الاستعادي-المستقبلي مع أسلوب ذ ستروكس أنفسهم، إذ تتأثر أعمالهم بالسبعينات والثمانينات، وبالأخص مشهدي الپنك والآرت روك في السبعينات والپوست پنك في الثمانينات، ومن موسيقيين عُرفوا على وجه التحديد بمستقبليتهم، كـ ذ ڨِلفِتس آندرجراوند وجوي ديفيجن. أسس هذا الاتفاق لتكرار تعاونات فُو مع ذ ستروكس، حتى أصبح مخرجهم الفني وتولى تصوير بعض أغانيهم منذ ٢٠١١. كذلك اتفق وارِن للسبب نفسه مع الثنائي دافت پنك الذين استعانوا به في عدة مناسبات، أبرزها ألبوم راندم آكسس مِموريز الصادر في ٢٠١٣.

في مقابلة حول دوره في راندم آكسس مِموريز، يقول عازف الجيتار نايل روجرز أن ألبوم دافت پنك الجديد “ذهب إلى الخلف (الماضي) للانطلاق إلى الأمام (المستقبل)” في تعريفٍ شبه حرفي لجماليات التوجه الاستعادي المستقبلي. عاد وارِن مع الثنائي إلى السبعينات والثمانينات، منقبًا إلى جانبهم عن الجماليات البصرية لجيل الديسكو والفانك، ومنتقيًا بالذات الفيديوهات المظلمة المصورة أمام خلفيات سوداء والمعتمدة على أزياء لامعة كما لدى ذ بي جيز وجلوريا جاينور ودونا سمر. تولى فو الإخراج الفني للألبوم، مصممًا غلافه الأيقوني اعتمادًا على هذه الجماليات بخلفية سوداء بسيطة، ثم مجسدًا الجماليات ذاتها في الأغنية المصورة جِت لاكي، إحدى أكثر الأغاني المصورة نجاحًا في عامها بمشاهدات تجاوزت النصف مليار [Mtooltip description=” بناءً على إحصائيات ثلاثة روابط مختلفة على يوتيوب للفيديو ذاته” /]، مساهمةً في النجاح التجاري الهائل الذي جعل جِت لَكي إحدى أكثر الأغاني مبيعًا في التاريخ. استخدم وارِن هذه الجماليات مجددًا خلال تصوير لوز يورسِلف تو دانس، مقتنصًا بحذق الصلة المهملة بين الحوضين المستقبلي والاستعادي المتمثلة في الأزياء، ليقاطع صيحات الموضة الثمانينية بنسخها الأصلية مع نسخها المستعادة في الألفينات المتأخرة من قبعات مستديرة ومعاطف جلدية قصيرة وإكسسوارات معدنية. أعجب ثنائي دافت پنك بعمل فُو إلى درجة دفعتهم إلى تفويضه لتصميم ظهورهم التلفازي الثاني فقط آنذاك، والمتمثل في أدائهم أغنية جِت لاكي إلى جانب ستيفي واندر في النسخة السادسة والخمسين من جوائز الجرامي، قبل أن تفوز الأغنية بجائزة تسجيل العام في نهاية الحفل.

السحر الكامن للسريالية

“كنت أعاني إبداعيًا خلال العمل على تصوير إنستنت كرَش. لكنني قرأت أن العقل يكون في أصفى حالته لحظات الاستيقاظ، حين لا نكون واعين تمامًا بعد بمخاوفنا وشكوكنا الذاتية. اعتاد سلڨادور دالي على الخروج بأفضل أفكاره خلال هذه المرحلة عند الاستيقاظ. لذا حصل معي شيء مماثل عند عملي على إنستنت كرَش، أتذكر نظري إلى الساعة وكانت الرابعة فجرًا…” وارِن فُو في مقابلة مع لُست آت إي ماينر

إلى جانب استخدامه السريالية في العملية الإبداعية، لا تخلو العديد من أعمال فُو من عنصرٍ سريالي بديهي نتيجة تداخل العناصر الاستعادية والمستقبلية. إلى جانب هذا التداخل يلعب فُو على ثمات سريالية بذاتها، كتحجر البشر وتحولهم إلى تماثيل (أو العكس)، كما في الأغنيتين المصورتين إنستنت كرش وآي فيل ات كمنج، تجمع الأولى شريكي وارِن المفضلين: دافت پنك وجوليان كازابلانكاس [Mtooltip description=” علمًا أن فُو هو من اقترح هذا التعاون” /]، والثانية دافت پنك وذ ويكند، حيث يستخدم فيها ثمات ديستوبية استخدمها سابقًا خلال تصوير إلڨنث دايمنشن سابقة الذكر، مع تأثره بسلسلة ستار وورز التي عمل فُو ضمن الفريق الفني في أحد أجزائها.

في تعاونه مع الثنائي ذ تينج تينجز حلال تصويره أغنية هاندز عام ٢٠١٠، أخذ فُو طابعًا سرياليًا أكثر وضوحًا عبر استخدامه ثيمات سياسية لأغراض جمالية بحتة. تجمع الأغنية المصورة بين الموسيقى الإلكترونية الراقصة الدالَّة على فائض الرفاه الرأسمالي، وبين محيط صناعي قاسي بأضواء حمراء (تشير إلى الاشتراكية) وشاشة تتبدل عليها عبارة “عمل، عمل” وعين رقابة أورويلية. لا يسعى الفيديو إلى تقديم أي تعليق سياسي، بقدر ما يتفق مع نظرية فرويد حول إخفاق العقل الباطن بترجمة المجازات. فكما تتحول مجازات يومية مثل “انكسر ظهري شغل” إلى أحلام حول ظهور مكسورة حرفيًا، يترجم فُو بسذاجة متعمدة مصطلح موسيقى صناعية – علمًا أن الأغنية تحمل طابعًا صناعيًا فعلًا – إلى أغنية مصورة عن مسننات وأضواء حمراء وطرق على حديد مصهور.

إلا أن مساهمة فُو الأقوى في السريالية كانت في تصوير أغنية هيومان سادنس لـ جوليان كازابلانكاس وفرقته المساندة ذ فويدز. قدَّم كل من أعضاء الفرقة فكرةً للفيديو في أواخر ٢٠١٣، واستغرق الأمر فُو عامًا ونصف حتى تمكن من وضع شذرات القصص في سياق سريالي بحت، فيه في نفس الوقت سردًا خفيًا يشعر به المشاهد دون منطقته أو تحديده. علاوةً على الجهد المبذول في السياق، هناك آخر لا يقل إبهارًا مبذول في التعديل السينمائي من قص وترتيب للمشاهد، خالقًا إيقاعًا متزامنًا بين الأغنية والفيديو، ومرسخًا السرد السريالي عبر تدفق بصري ضبابي يوهم المشاهد كما تفعل الأحلام بوجود منطق في تتالي الأحداث.

جمالي بحت

“الأغاني المصورة لها أهداف مختلفة. أعتقد أن بإمكان المخرج أن يكون جماليًا بشكلٍ بحت، بلا أهداف سوى أن يخلق تقديمًا جميلًا للموسيقى (…) هذا هو الجمال الحقيقي للأغاني المصورة – ليس هناك أي قواعد. كل ما أبحث عنه هو عمل قادر على مفاجأتي” وارِن فُو في مقابلة مع كومپلِكس

تقوم العديد من أعمال فُو على إدراكه للإمكانيات الجمالية البحتة للأغاني المصورة. في أغانٍ مثل ستيل وانت يو لـ براندن فلاورز [Mtooltip description=” من ذ كيلرز، أخرج وارن ثلاثة من فيديوهات الفرقة” /] وإف آي كود تشاينج يور مايند لـ هايم وسرڨايلِنس كاميرا لـ راي پيلا [Mtooltip description=” تعاون فُو مع راي پيلا وذ غرولرز وهار مار سوپرستار، جميعهم من تسجيلات كلت ركردز المملوكة من قبل جوليان كازابلانكاس” /]، يرى فُو مشروعًا سينمائيًا موازيًا للأغاني لا ثانويًا إلى جانبها، فيتعامل مع نجومه كممثلين لا كموسيقيين: يستجوب مقدراتهم الكريزماتية، يرهقهم في الكوريوجرافي جاعلًا من تصوير الأغنية مهمة لا تقل اجتهادًا عن تسجيلها، ثم يثبت طلاقة في تصوير اللقطات القريبة والمتوسطة، مرسخًا خلال لقطاته أسلوبًا بصريًا قائمًا على ثمات لونية حادة وحس متقن في استثمار الإضاءة، وذوق متفرد في الأزياء.

لا ينكر فُو الدور الترفيهي في معظم أعماله، الضروري لترويج الأغاني تجاريًا، وغير المعيب حتى في سياقات السينما الجادة. حتى يقوم به بشكلٍ ناجح، يستمر فُو بتغذية وتطوير طلاقته وتفرده الجماليين، مدركًا أن ما يقوم به في الأغاني المصورة السابقة قد لا يكون جديدًا من حيث الفكرة، لكن عليه أن يكون جديدًا من حيث درجات الإتقان والشغف.

تعيش الأغاني المصورة اليوم عصرًا ذهبيًا تتحول خلاله من وسيلة ترويج إلى وسط فني مستقل، ولدى وارِن فُو مساهمة ثلاثية في هذا التحول. فمن جهة يكرِّس فُو الأغاني المصورة كوسط مستقل حين الاقتباس منها كما يفعل مع أغاني السبعينات والثمانينات، مشيرًا إلى أن هذه الأغاني المصورة بات لها تراث يمكن العودة إليه والبناء عليه. من جهة ثانية يمنح السرد السريالي فرصة جديدة مع الجمهور العام، والذي كان أكثر نزقًا وتطلبًا من خوض أفلام لووي بونويل وآليخاندرو خودورسكي الروائية، لكنه قد يعيد الاعتبار في جماليات هذا السرد حين تقديمه في فيديوهات لا يتوقع منها سرد منطقي بالأساس، ولا يتجاوز أطولها غالبًا العشر دقائق. من جهة ثالثة يستمر فُو في استثمار الإمكانيات الجمالية البحتة للأغاني المصورة، متملكًا أسلوبه أكثر فأكثر مع كل مرحلة جديدة من أعماله.

المزيـــد علــى معـــازف