يا عليم | البيت العشوائي

يقول قيس رجا، المغني وكاتب الأغاني في فرقة البيت العشوائي، إن الفنانين يقسمون إلى قسمين: الأول يخضع لرغبات الجمهور ويؤلّف على هواه، بينما يحافظ الآخر على صوته الخاص ويبقى وفياً لفنه وما يقتنع به هو. لحسن الحظ، لم تكن هذه العبارة في حالة البيت العشوائي مجرد كليشيه، إذ تمضي الفرقة في ألبومها الأول صدر الألبوم في شهر سبتمبر/أيلول ٢٠١٥ ونشر على Reverbnation و SoundCloud يا عليم نحو تحقيق أصالةٍ طال انتظارها في موسيقى الجيتار – أو الروك – العربية، وإن كان هناك عثراتٍ عدة تحول دون تحقيقها مبتغاها في هذا العمل.

ينجح الألبوم في إيجاد حلول مقنعة لأبرز المطبات التي يقع بها معظم فناني الروك العربي، خصوصاً من حيث الموائمة بين موسيقى الروك الغربية بشكل أساسي، والتي عادةً ما تُنسخ كما هي دون إيجاد موازي شرقي لها، وبين صوتيات اللغة العربية الفصحى أو العامية المحلية على تنوع لهجاتها التي لا تلائم عادةً هذه الموسيقى. وبينما اعتاد فنانو “الروك العربي” على الرمي بهذين النقيضين في أعمالهم تاركين مهمة الموازنة بينهما لأذن المستمع المُرهَقَة، أو الهرب ببساطة للغناء بالإنجليزية حيث لا تصبح كلمة عربيمرتبطةً سوى بجنسيات المغنين؛ يقوم أعضاء البيت العشوائي بتركيب الروك على إيقاع وموسيقى خلفية شرقية، أو التنقل بين الغربي والشرقي بسلاسة مريحة وممتعة، مما يخلق مناخاً موائماً جداً للغناء بالعربية.

يستغل مغني الفرقة قيس رجا هذه المساحة عن طريق التنويع بغنائه ما بين الفصحى ولفحة خفيفة من اللكنة الأردنية، وأحياناً المزج بين الاثنين في آن. يوفّق قيس أيضاً بإصراره على الالتزام بمخارج الحروف العربية الصحيحة، مما يجعل أداءه الصوتي مقنعاً رغم أنه لا يعتمد على خامته الصوتية بقدر اعتماده على أسلوب أدائه الخاص والمراعي للمناخ الموسيقي المحلي، الأمر الذي نلحظه بشكل خاص في أغنية نيل التي تضرب مثلاً يكاد يكون متقناً لأغنية الروك الشرقية المنسجمة لحنياً، حيث يتوافق أداء قيس الغنائي مع إيقاع الطبل والصوت الشرقي للغيتار الرئيسي.

كلامياً، تمكنت الفرقة من كتابة كلمات تسلم من أيٍ من الرضوض التي اعتدنا سماعها في أغاني الروك العربية، إذ ابتعدت الكلمات عن الأغنية الاحتجاجية التقليدية التي تكررت حدَّ السقم في موسيقى الروك والراب العربية في الأعوام الخمسة الأخيرة، كما نجت من رتابة المونولوج الذاتي وصيغة مخاطبة الحبيب اللذان تدمناهما الموسيقى العربية منذ فجرها المبكر. بدلاً من ذلك يكتب كلٌّ من قيس رجا وفراس عرابي بروحٍ صوفية شرقية أصيلة، وإن أبدت مساحةً لبعض التطور. في أغنية مجمع البحرين مثلاً يُنشد رجا في هالزمان من حكم نسيَ عين القلب – ومن ظلم ركز على عين العقل – مع أن الحب هو أساس الأديان – ومجمع البحرين يا علاج الزمان في نسخة أخرى من الأغنية: مذكور بالقرآن، إلى أغنية سندباد حيث تُطرح أسئلة صوفية بنزعة وجودية كـبس في سؤال عظيم وبسيط يا ترى – اسأل نفسك يا عميق يا ترى من أنا، تبدو كلمات الألبوم متفقةً تماماً مع هويته الموسيقية وإن كان يقع في فخ تكرار أفكار مستهلكة أحياناً.

ورغم اجتهاد الفرقة المثمر لإنجاح الجانب الغنائي، إلا أن الألبوم أتى آلاتياً بشكلٍ كبير، إذ اقتصر ظهور صوت رجا على أسطر قصيرة في معظم الأغاني، أو أُقصي تماماً كما في أغنيتي شمس، وقمر، الآلاتيتين بالكامل.

وبالحكم على الألبوم كعمل آلاتي ذو أغانٍ طويلة نسبياً متوسط طول الأغنية خمس دقائق ونصف يُظهِر أعضاء الفرقة فرداً فرداً استيعاباً وتمكناً واسعاً من مقدرات آلاتهم الموسيقية، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بتأليف الألحان كما نرى في أغنية قمر. يتجنب الألبوم بشكلٍ عام الالتزام بالبنية التقليدية للأغنية، ويبدو أعضاء الفرقة في بعض المقاطع الآلاتية الطويلة وكأنهم يألفون وفق تيار الوعي المستمر stream of consciousness وينقلون لأدواتهم الموسيقية أي أفكار أو مشاعر تراودهم بلحظتها، بشكلٍ يعزز اللفحة الصوفية النفسية التي تغلِّف الألبوم. إلى جانب ذلك تتلاعب الفرقة بأريحية وإتقان بسرعة الإيقاع عدة مرات خلال الأغنية الواحدة مما يضفي تنويعاً درامياً مهماً  للمقطوعات الآلاتية .

إلا أن هذه السيطرة الآلاتية تتزعزع من الناحية التكنيكية، إذا يُخفق العازفون في أكثر من مناسبة في تقديم ألحانهم بالإتقان الكافي، كسطر الجيتار في مطلع أغنية عصر الدلو الذي يُعزف بفظاظة ويحل ثقيلاً على السمع.البيت العشوائي يعاني الألبوم مجدداً على الصعيد الآلاتي عند النظر لتواضع الجودة الإنتاجية في معظم الأغاني. ففي الوقت الذي تعتمد به الأعمال الآلاتية بشدة على التأثيرات الإنتاجية والمزج الصوتي لتحقيق الجانب الكمالي الذي تصبو إليه، اضطر أعضاء البيت العشوائي لتسجيل الألبوم بدون شركة تسجيل وعلى نفقتهم الخاصة، الأمر الذي قلّص فترة وجودهم في الاستوديو لخمسة أيام وأرغمهم على التخلي عن الكثير من الأفكار الإنتاجية والتوزيعية التي رغبوا بتنفيذها أجرى عمار حسن مقابلة مع قيس رجا ننشرها قريباً . تفتقر معظم الأغاني أيضاً للكثافة الصوتية العمودية. فرغم تغير الألحان بسخاء على طول الأغنية، لا يصل المستمع سوى صوت آلتين موسيقيتين أو ثلاث في آن. كان يمكن تفادي المشكلة عن طريق منح الآلات الموسيقية مساحة صوتية أكبر، لكن ذلك يعود مجدداً للمشاكل الإنتاجية.

وتعود آخر أغنيتين في الألبوم لتكفِّرا عن معظم هذه العثرات وتقدما صورةً عما كان من الممكن أن يكونه الألبوم بالمجمل. أغنية يا عليم تُصبح مألوفة تدريجياً للمستمع بشكلٍ جميل، وتقدم الحدَّة والكثافة التي يفتقر لها الألبوم. الأغنية تتمتع أيضاً بجودة إنتاجية جيدة بشكلٍ استثنائي نسبة لباق أغان الألبوم وتقيم الحُجّة لصالح الفرقة عندما وصفت ألبومها كعملٍ “تجريبي“. قمر، آخر أغاني الألبوم، هي ثمان دقائق تقريباً من الموسيقى الآلاتية البحتة. لها إيقاع بطيء مخدَّر باستثناء بضعة سطور جيتار قصيرة وسريعة تظهر في بداية النصف الثاني من الأغنية، تؤدَّى بشكلٍ ممتاز وتمنح الأغنية سمةً هلوسيةً Psychedelic شرقيةً بعيدةً عن فجاجة الموسيقى الهلوسية الغربية وصخبها، لتختتم الألبوم بأسلوب أنيق.

بالمجمل يمكن القول إن الفرقة حققت وعدها بالوفاء لهويتها وصوتها الموسيقي الخاص، إذ أن التركيز على الموسيقى الآلاتية في قالب تجريبي جريء مماثل لا يمكن وصفه على الإطلاق تملقاً لآذان الجمهور، بل هو أقرب لمجازفة خطرة بالنجاح التجاري للألبوم مقابل تسجيل صوت أصيل، ودفع موسيقى الروك العربية من مستنقع الألحان المرحة العابثة إلى موسيقى أكثر جديةً وأصالةً. يُحسب أيضاً لأعضاء الفرقة تمكنهم من قمع تأثرهم بمشاهد الـ Metal والـ Grunge والـ Rock Revival لصالح تقديم عمل تجديدي ومحلي بحق، يبرهن على أن الموسيقى واللغة العربية ليسا هشّين وضحلين لدرجة تمنعهما من احتواء وهضم وإعادة إنتاج ألوان موسيقية جديدة ومستحدثة، لكنهما بحاجة ماسّة إلى موسيقيين يتمتعون برؤية فنيّة أصيلة، ومصابين بدرجة صحيّة من الهوس لملاحقتها.