أجنبي جديد

يوسف رخا | المهرجانات كانت شيئًا عبقريًا

يوسف رخا ۱۸/۰۲/۲۰۱۲

١

نادرًا ما أكتب وفي الخلفية موسيقى. أحتاج ضوضاء خافتة أو صمتًا نسبيًا لأتابع تركيب الكلام. حتى عندما يخرج النص مباشرة من تأثُّري بأغنية أو معزوفة، تكون هذه الأغنية نفسها وأنا أكتب مجرد إزعاج. كذلك أثناء القراءة، أعتقد أني أحتاج أصواتًا صماء بلا معنى ولا أعرف ماذا يمكن أن يكون تأثير صمتٍ حقيقيٍ بلا أي صوت لكنّ في الموسيقى بلاغة تُنافس بلاغة النص على تركيزي، أو بناء. لا توجد طقوس بمعنى طقوس. أكون عادة مستلقيًا على ظهري بالليل وشيء من صوت الشارع في أجواء الغرفة، كما الآن.

ربما لأني لم أهتم بالموسيقى كموضوع بحث قدر اهتمامي بالفوتوغرافيا، لا أعرف إن كانت هناك كتب أثّرت في وعيي السمعي. كتاب الأغاني وقصة توفيق الحكيم عن عوالم شارع محمد علي وبروست وموراكامي: كل هذه الكتب فيها موسيقى، لكنها لم تدخل في فهمي لمعجزة تَحَوُّل الصوت المجرد إلى كائن يتفاعل مع الإنسان. وفي المقابل هناك جمل عارضة مرّت علي في كتب غير ذات صلة كلام بيتر بروك عن تحول أشياء مادية وثقيلة مثل الخشب والمعدن في أيدي الأوركسترا إلى أثير ساحر في المساحة الفارغةمثلًا ربما دخلت.

يحضرني أيضًا موضوع النغم في الشعر: كيف اكتشفتُ بعد عناء أن العَروض مجرد دَقّة طبلة؛ وكيف أن هناك نوعين من القصائد غير العروضية أو طريقتين لكتابة الشعر، أحدهما يكتفي بموسيقى المعنى والآخر يعزف بالألفاظ سواء استحضر بحور العروض أو لا، فيصبح أكثر قابلية على إسقاط المعنى أو امتهانه كما يحدث في قسم كبير من الشعر الحر.

أستطيع أن أعقد مقارنات مجازية بين صيغة نص أكتبه وبنية شكل موسيقي كالسيمفونية أو الموال، لكن الأجدى بالإشارة هو الصلة الروحية أي غير المفهومة بين روايتي الأخيرة مثلًا وأغاني لمحمد عبد الوهاب يسمعها البطل الشرير. قد تتقاطع كلمات إحداها مع موضوع مقطع ما، لكن لماذا عبد الوهاب في هذه الحالة بالذات؟ هل فقط لأني كنت أسمعه أو قررت أن أسمعه قبيل وأثناء كتابة الرواية؟ لعل الموسيقى أحيانًا مثل رائحة تداهمك بلا مناسبة فتستدعي مكانًا أو زمنًا حوّلته الذاكرة إلى خيال.

٢

لا يمكن أن أعرف متى وعيتُ الأغنية الأولى في حياتي. ربما كانت أمي تدندن شيئًا لفايزة أحمد، أو لعلني كنت أرقص مع زملاء المدرسة على نغمة لابموبا. الذاكرة ماكينة اختلاق فعالة فما الفائدة؟ أتذكر عم همام عازف الرباب المصاحب لشاعر السيرة الهلالية سيد الضوي حين بدأ يتراقص واقفًا وهو يغني بتناديني تاني ليه”: هذا الحجر الصعيدي وقد انقلب إلى جسد ليّن غاية في الدلال. كذلك صوت الشيخ علي محمود حين سمعته للمرة الأولى فوق أحد سطوح بولاق أبو العلا، على شريط كاسيت: يا نسيم الصبا تحمّل سلامي.

أعتقد أن الموسيقى لها علاقة بالجينات أو كيمياء المخ، فهناك مفاضلات لا تفسرها النشأة أو الخيار الواعي. أحب ريكويام موزارت مثلًا لكن نادرًا ما أحس بشيء حين أسمع الموسيقى الكلاسيكية، بينما هناك رد فعل قوي حيال نحاس البلقان والفلامنكو والفادو فضلًا عن الربع تون المحيط بطفولتي.

وعندي أغانٍ أو معزوفات مرتبطة بخبرات باتت الموسيقى هي المنفذ الوحيد إليها بعد مرور الوقت. ألبوم ثمار لأنور براهم، مثلًا: لقاء حدث لتوه وكان رائعًا لكنه لا يمكن أن يحدث من جديد. سعاد ماسي: كورنيش أبو ظبي وأنت ضجر في المساء. أو ذا دورز[Mtooltip description=” The Doors” /]: ما أخطر العوالم الموازية تلك التي تبتلع الدماغ تحت التأثير. كان سيد درويش بصوته جليسي في برد شمال إنجلترا وأنا طالب جامعي جائع للتواصل. أما ذا ستريتس

Sharp Darts Spitting Masters

Spitting darts faster

Shut up I’m the driver, you’re the passenger

ففي السيارة وأنا أقود بلا وجهة لأني أكثر إفلاسًا من أن أذهب إلى مكان

منذ ثلاث سنين تقريبًا كنت أغني لبنتي قسمت أغنية ذهب الليل لمحمد فوزي وهي في شهورها الأولى. هناك جملة قرب نهاية الأغنية: “وعصام بكرة حيبقى ضابط ويدافع عنكم، يفدي وادي النيل بحياته وحياته منكم.” قسمت وُلدت بعد ثورة يناير مباشرة. كانت مشاهد القتلى التي رأيتها حاضرة في رأسي، ومفارقة أن الضابط هو الذي قتلهم. فعندما وصلتُ لهذه الجملة وقسمت على ذراعي لم أستطع أن أمنع نفسي من البكاء.

٣

لم أكن بلغت العشرين يوم قال لي علاء الديب إن الأغاني وحدها صاغت الثقافة وساهمت في تكوين المجتمع عندنا، ليس الأدب. كان يتكلم بحسرة، ومع أني لم أدرك قصده يومها أظنني شاركته الإحساس. أذكر أنه دلل على كلامه بأم كلثوم، ولم أكن اعترفت لنفسي بمدى ثقل أم كلثوم على قلبي فلم يخطر لي إلا لاحقًا أنه إذا ما كانت هي التي صاغت الثقافة المحيطة فمن الطبيعي أن أعاني من الاغتراب والقلق وسط هذه الثقافة.

في الغرب لا ينتهي الكلام عن دور الرواية في تكوين المجتمع الحديث وكيف أنه تضاءل وأدى أو سيؤدي تضاؤله إلى موت الرواية حتى الآن. لا أظن شيئًا من هذا ينطبق على مجتمعاتنا مطلقًا، وإن كان في إعلان جابر عصفور عن زمن الرواية العربي أواخر التسعينات استسهال مؤلم كذلك. الحقيقة في تصوري أن القراءة لدى المجتمع العربي مسألة ثانوية بغض النظر عن المقروء التلفزيون والوعظ الديني أقوى تأثيرًا بما لا يقاس لذلك فالكلام عن دور المثقف ومكانة الأديب وضمير الأمة عادة ما يستفزني بالفعل. ليس هذا هو الموضوع.

أعتقد أن الموسيقى دائمًا لها وظائف دينية وحربية فضلًا عن الترفيهية. ومنذ ١٩٥٢ في مصر والأغاني تُصنع كبروباجاندا لمشروعات سياسية كارثية أكثر فجاجة من أي شيء، من صورةعبد الحليم إلى غثاء تسلم الأيادي. ربما تحتاج هذه الأمور بحثًا ممنهجًا لكي تقال، لكن هناك مفاهيم مغلوطة وأمراض سايكوسوسيولوجية ساهمت الأغاني السيارة في تجذيرها حب الوطن، على سبيل المثال وأعتقد أن الموسيقى من هذه الزاوية لم تكن من أدوات السلطة فقط وإنما كانت أيضًا عامل تخلف. في التراث الصوفي والتلاوة القرآنية توظيف عضوي أكثر براءة للنغم رغم أنه هو الآخر لاحق على سلطة يخدمها.

٤

لا أعرف إن كانت مشكلة الرتابة والتكرار في موضوعات الأغاني بقدر ما هي في معالجة هذه الموضوعات من الناحية الموسيقية أولًا. أعتقد أن الغرام هو التيمة السائدة في البوب وفي الموسيقى التجارية منذ قرون بغض النظر حتى عن الموروث الموسيقى أو البقعة الجغرافية، وهناك جمل من هذا النوع عندما يقول عدوية مثلًا: “قل له إن كنت تقيل ولا ما لكش مثيل قلبي ما هواش مسرح لهواية التمثيل” – تبقى جبارة رغم كل شيء.

لعل هذه أحد ألغاز موسيقى الجذور، مع ذلك: إنها لا تكون ذات قيمة إلا خارج مجال انتشارها. المهرجانات مثلًا كانت شيئًا عبقريًا بكل معنى في بداياتها، لكنها لم تحمل أي آلية دفاع ضد الاستعمار التجاري، وسرعان ما تحولت إلى إعلانات تلفزيون وتترات أفلام ساقطة فانقطع الطريق عليها كشكل فني قابل للتطور أو كمجال تعبير أعمق وأصدق قليلًا.

أفكر إن في المجتمع العربي قدرة عجيبة حقًا على تفريغ الدال من أي مدلول محتمل، وبطريقة تتجاوز عمليات التسليع السائدة في الدنيا كلها وإن تقاطعت معها بطبيعة الحال. لذلك لا أظنه غريبًا أن تكون الموسيقى العربية جوفاء في العموم. لكني أرى ذلك في اللحن والتوزيع والأداء لا أفهم كيف لازال المشهد التقليدي للمطرب يلوح بيديه ويكرمش وجهه بلزوجة أمام المايكروفون يستثير قبولًا أكثر مما أراه في الكلمات. وأعتقد أن المداخلات الغنائية الأجدى في العقود الأخيرة كانت تكتسب جدواها من الموسيقى وأدائها ومواءمة الكلام للشكل وليس من موضوعات الأغاني في حد ذاتها.

أنا لم أكن عمري في متن الواقع العام. فكما في سماء الكتابة كذلك على أرض الاستماع، أتمدد في مساحات موازية. وكما يبقى اكتشاف كتاب فارق لم أسمع به من قبل أول أسباب الفرح، كذلك جهود الاستماع مقصورة على غير الرائج. لعل هذا جزء من معنى أن تكون هنا الآن، أليس كذلك. فشكرًا للهوامش.

المزيـــد علــى معـــازف