إذاعات الإنترنت الموسيقيّة: الفن أناركيّاً

الإنترنت ومقاومة الاستلاب

الإبداعيّة والرّغبة – ما يختزل في مصطلحات الاقتصاد السياسيّإلى الإنتاجوالاستهلاك، هما، جوهريّاً، مَرْكبتَان للخيال. وتميل بنياتُ التفاوتِ والسّيطرة، العنفِ البنيوي إذا شئت، إلى تشويه الخيال. بحيث لا يُسمَحُ سوى لنخبةٍ صغيرة بالانخراط في عملٍ تخيّلي، مما يقودُ إلى الشعور بالاستلاب، وبأن الأفعال تنتمي إلى شخصٍ آخر“. دايفيد جريبر، الثورة بالمعكوسترجمة: أحمد حسّان. (1)

يعود تاريخ الإذاعة في الشبكة إلى العام 1993، حيث أطلق كارل مالاماد برنامج حوارات عبر الشبكة، يقابل فيها خبيراً تقنيّاً كل أسبوع. بدأت فكرة إذاعات الإنترنت في أميركا بنفس العام بإذاعة تحمل اسم “Internet Talk Radio” والتي كانت تبثّ لفترة محدودة يوميّاً، تبعتها أوّل إذاعة إنترنت تبثّ على مدار اليوم في أميركا أيضا عام 1995 تحت اسم إتش. كي“. تبعتها بعام واحد إطلاق العديد من الإذاعات الموسيقيّة، عامّة أو متخصّصة في نوع واحد.

تملك كل المقابلات مع أصحاب هذه الإذاعات قاسماً مشتركاً، وبصيغ مختلفة. إذ يتكّلم هؤلاء عن تقييد الخيال الذي تنتجه الأنظمة الرأسماليّة، وأن القدرة على خلق فضاء مغاير تحفّها الكثير من المخاطر. واجه أصحاب الإذاعات الموسيقيّة الكثير من المتاعب فيما يخص حقوق إذاعة المادة الموسيقيّة، ما خلق نوعاً من الجدليّة المجتمعيّة التي تحيل إلى ضراوة الرأسماليّة في المعايير القسريّة بـاستخدام المتعوتسليعها بصورة تتيح لذوي الأموال وحدهم الاستفادة من امتيازاتها، وهي النخبة التي تحدّث عنها جريبر.

كان انتقال تلك الظاهرة الجديدة نسبيّاً إلى الوطن العربي لافتاً، إذ لم يمنع عصر ثقافة الصورة الذي نعيشه في ما تبثّه القنوات الفضائية على مدار الـ24 ساعة من العودة للاستماع إلى الإذاعات والإقبال عليها. إثر ذلك، ظهرت العديد من الإذاعات الإلكترونيّة مثل بنات وبس، والتي حقّقت نسبة استماع قدرت ب 200 ألف في شهورها الخمس الأولى، وضاد راديوالناصريّة، ورحاب إف إم“.

اشتهرت بعض هذه الإذاعات بين أوساط الشباب تحديداً، مثل: “راديو حريّتناوراديو محطة مصر“. أما الإذاعات المتخّصصةفأتى لاحقاً، مثل راديو عمرو دياب وراديو محمد منير، وراديو جرامافون الذي فتح البوّابة الأولى للشباب للتعرف على موسيقى جديدة“. وأخيراً، يجيء راديو مدينة البط. برزت هاتان الإذاعتان بالتزامن مع مساحة حريّة منتزعة من الأنظمة، والتي أفرغتها المدوّنات وشبكات التواصل الاجتماعي. لتخلق ذائقة جديدة تتجاوز الذائقة الرسميّة، وادعاءات الفن الراقي“.

العودة إلى الجرامافون، ومقاومة الموجات السائدة

بدأ الطبيب البيطري الشاب أحمد كمال، صاحب راديو جرامافون، نوعاً من أنواع الأرشفة الذي تحوّل، مع الوقت والجهد، إلى نسق أناركي لمقاومة الانتقائيّة الفنيّة الرسميّة. والذي انتهى إلى أن يكون مشروع حياته. إذ قام كمال بجمع الأعمال الموسيقيّة النادرة وغير المعروفة، ثم تنقيتها إذا لزم الأمر. وعندما تكوّنت لديه مجموعة كبيرة من الأعمال، قرر إذاعتها. كما يقول: “اكتشفت أن الناس تعرف نوعاً واحداً من الموسيقى وهي دائماً الماين ستريمالتي تبثّها وسائل الإعلام، ويتم إقصاء باقي أعمال الفنان/ة، خاصّة لدى موسيقيين روّاد مثل الشيخ إمام أو سيّد درويش، والذين ليس لهم تاريخ محفوظ وموثّق. ويبقى ما تستخدمه وسائل الإعلام، بالرغم من أنّها ليست أفضل أعمالهم. يمتلك العديد من معاصري هؤلاء الفنانين تسجيلات نادرة، ولكن ضعف وسائل التسجيل في ذلك الوقت يعني انخفاض جودة الصوت. لذلك ، بدأت بتعلّم الـRe-Mastering. ومن خلال عملي هذا، بدأت أكتشف أن هناك موسيقى تنتج في الوطن العربي أفضل كثيراً ممّا تفرضه علينا وسائل الاعلام، والتي تنفق الملايين لصنع نجم أو نجمة بدلاً من التركيز على صناعة الموسيقى، حيث أصبح مفهوم الموسيقى هو ما يجد طريقه إلى التلفاز فقط. وبدأت باكتشاف ما يسمى بعالم الأندرغراوند، أو المستقل، وبدأت بتأسيس أرشيف موسيقي“.


موشّح هاتِ يا ساقي المحيّالسيّد درويش من أرشيف جرامافون“. تنقية صوت: أحمد كمال

بعيداً عن كل أدبيّات الأناركيّة، إنّه وعي مقاومللدولة وإنتاجيّاتها الفنيّة، ومحاولة للخروج من سطوة الذائقة الرسميّة: “بعد الثورة قرّرت أن أستغل خبرتي في البرمجة لتطوير موقع إلكترونيّ يسمح للناس بتحميل هذه الأعمال. ففي كل يوم أقوم بتحميل أسطوانة على مواقع التحميل المجانيّة، مع شرح قصير عن الفرقة أو الموسيقيّ، ونوع الموسيقى، خاصة عندما تكون موسيقى محليّة لدولة أو مجتمع معين“.

وعن بداية الإذاعة: “بدأنا الإذاعة يوم 31 أيّار/ مايو في نفس السنة. كانت الخطة ببثّ 6 ساعات كل يوم: من الساعة 9 مساءً وحتى 3 فجراً، والذي يعتبر وقت ذروة تفاعل المصريين على الإنترنت. لكن الإقبال في اليوم الأوّل شجّعنا على البثّ لمدة 18 ساعة متواصلة، وفي اليوم التالي قمنا بالبث لمدّة 12 ساعة. المشكلة كانت في كيفيّة الاستمرار بالبثّ لمدة 24 ساعة متواصلة، والحل كان برمجيّاً. إذ قمنا بتجهيز خادم، وحمّلنا عليه، طيلة أسبوع جزء من الأعمال الموسيقيّة، وقمنا بتحضير قوائم ليقوم الخادم ببثّها. هكذا بدأنا بالبثّ الاحترافي على مدار اليوم منذ 8 حزيران/ يونيو 2011 وإلى الآن. نحاول دوماً أن نوازن بين المشاهير أصحاب الجماهير الضخمة مثل محمد منير وفيروز، بحيث نبثّ نوادرهم لاستمالتهم، ومن ثم نعرض الموسيقى التي لا يعرفونها. هكذا نزيد من قاعدة مستمعي الفرق المستقلّة.

يبلغ عدد مستمعي جرامافونمنذ يوم انطلاقنا وإلى الآن، حوالي نصف مليون مستمع من 29 دولة، أغلبهم من مصر ثم فلسطين وبريطانيا. “جرامافونغير متخصّصة بنوعٍ موسيقيّ، إذ نقوم ببثّ الموسيقى التي نشعر بأنّها منسية، أو أنّها بحاجة لتسليط الضوء عليها بعض الشيء“.

مدينة البطتحتفي بالموسيقى

جيمس جويس يلقي قصائده، ثم هنري ميلر في حوار إذاعي، ثم كوميديا مصريّة من بطولة كريمة مختار، ولا يلبث شوبان إلّا أن يعزف على البيانو، ليأتي بعده ساعات من الموسيقى الصوفيّة من مختلف أقطار العالم: من أندونيسيا شرقاً إلى الأرجنتين غربا، وتكتشف وجود فرقة إنشاد صوفي أرجنتينيّة. موسيقى من كل مكان بالعالم، أغانٍ تتجاوز حاجز اللغة والفهم. ربما لن تجد مكاناً يجمع بين كل هذه الأشياء إلا راديو مدينة البط الجديد على شبكة الإنترنت: الإذاعة الذي تجاوز مستمعوه 70 ألف في أسبوعه الأوّل.

بالتحاور مع مؤسّس هذه الإذاعة، وهو صديق عزيز رفض رفضاً قاطعاً التصريح باسمه مبرّراً: “المسألة تتجاوز الأسماء، ما الفرق سواءً عرفت اسمي أم لم تعرفه؟“. عن الإذاعة يقولالفكرة من الأرشيف هو لامركزيّة النوع. المعيار الوحيد هو الموسيقى الجميلة، سواء كانت من التراث أو كلاسيكيّة أو روك أو ميتال أو جاز أو فلكلور عالمي. نحن نريد تجميع الموسيقى وإتاحة سماعها والقراءة عنها في عملية منظّمة، بحيث يجد المستمع ما يحبّه من الموسيقى وأن يستطيع التعمّق به. لقد عملت لسنوات في موضوع الأرشفة، وأنا مهتم بتفاصيل الموسيقى. دائماً أبحث، وحدي، أو أتعامل مع متخصّصين أستفيد من خبرتهم النوعيّة وأضعها على خارطة الأرشيف، وكأنها أحجية لا تنتهي، ولكنّني أستمتع كلما وضعت قطعةً جديدة“.

تواجه الإذاعة بعض المشكلات التقنية من انقطاع البث لساعات متواصلة، وصل في بعض فتراتها إلى أيام. ومع تأكيد مؤسّس الإذاعة بأنّه لا يتقاضى أيّة أموال للخروج بالإذاعة إلى النور، فإن المشكلات التقنية الكثيرة متعلقة بأمور ماديّة.

لعل اسم مدينة البطالكوميدي يوحي بالخفّة، وربما التفاهة لمن يسمعه. إذ أنّ مدينة البط مرتبطة في أذهاننا بمجلة ميكي: “بطّوطوأولاد أخيه الثلاثة ومغامراتهم المستمرة، العالم الأليف الذي تتركّز أغلب مشاكله في مضايقات عصابة القناع الأسود لـعم ذهب، عالم المدينة المغلقة على ذاتها بعيداً عن توازنات السياسة وثقل الحسابات الاقتصاديّة: راديو مثل مدينة البط، لأناس يعيشون داخل الموسيقى.

خاتمة:

هذا هو الإيجابي في الإنترنت، فوجود مثل هذه العوالم التي لا تجد نفسها في سباق مالي محموم وراء الإعلانات والسيطرة على مجريات السوق، يفرّغها للاحتفاء بالجمال: وهو الشغل الشاغل لمثل هذه المشاريع. وعلى الرغم من دخول الماكينة الرأسماليّة لمثل هذه المشاريع بأميركا، إذ بلغت عائدات إذاعات الإنترنت هناك عام 2003 إلى 45 مليون دولار، ليقفز هذا الرقم إلى 500 مليون دولار بحلول عام 2006. وفي فبراير 2007 وبتجربة استقصائيّة على 3000 مستمع تبيّن أن 19% منهم يستمعون إلى إذاعات الإنترنت، وهو مايضع مثل هذه المشاريع تحت رحمة الشركات الكبرى. مازال الخيال إذن فريسة الرأسماليّة، وإذا لم يستطع الغول الاقتصادي تنحية مثل هذه المشاريع، فهو يدجّنها، الأمر الذي لم يطل إذاعات الشرق إلى الآن، التي تطوف في فسحة مؤقّتة بعيداً عن قسوة الواقع.

راديو جرامافون

http://www.gramafoon.com/

ساوند كلاود: https://soundcloud.com/a-kamal

على الفيسبوك: https://www.facebook.com/gramafooncom

تويتر: Gramafoon@

راديو مدينة البط

http://www.radio-mb.com/

على الفيسبوك: https://www.facebook.com/MadinatElBatt

تويتر: MadinatElBatt@

(1) http://anarchisminarabic.blogspot.com/2013/06/blog-post_2340.html