أغان في حبها خيانة الوطن | الأرابسك التركي

كتابةشادي لويس - August 14, 2016

يتسائل المرء أياً من تلك الموسيقات هي عن حق موسيقانا القومية؟ لقد رأينا أن الموسيقى الشرقية ليست فقط معتلة، بل أيضاً أجنبية. الموسيقى الفلكلورية تراثنا الوطني، أما الموسيقى الغربية فهي موسيقى حضارتنا الجديدة. فكلا من الموسيقى الفلكلورية والغربية ليست غريبة عنا. لذلك فإن موسيقانا القومية ستولد من رحم المزج بين الفلكلوري والغربي لتثمر موسيقى قومية وأوروبية في ذات الوقت.”  

المبادئ التركية، ضياء كوك ألب

وضع كوك ألب، الملقب بـ أب القومية التركية، الأسس النظرية لعملية التتريك والعصرنة القسرية التي فرضها أتاتورك بعد إعلان الجمهورية. وكما ألهمت أفكار كوك ألب وكتاباته حركة تركيا الفتاة، فإن تنظيره عن الموسيقى التركية الحقة، وتنقيتها من الشوائب العثمانية/العربية المفسدة كان لها أن تلهم السياسيات الموسيقة للجمهورية الناشئة والتي تمثلت في إغلاق قسم الموسيقى الشرقية في دار للألهان كونسرفتوار إستنبول لاحقا، وحلّ الجماعات الدينية والصوفية التي كانت تقوم مؤسساتها بتعليم الموسيقى العثمانية في عام ١٩٢٨، ثم منع إذاعة الموسيقى الشرقية على محطات الراديو بنهاية عام ١٩٣٤.

أثناء فترة المنع، تحوّل المستمعون الأتراك إلى محطات الإذاعة العربية إلى حد جعل الصحف التركية تحذر من العواقب العكسية لسياسات الحكومة بعنواين مثل المواطنون الأتراك يبجلون اليوم الصوت العربي للإذاعة المصرية وكأنه صوتهم“. دفع هذا الحكومة للتراجع عن قرارها بعد ١٥ شهراً، وعادت الموسيقى الشرقية لمحطات الإذاعة التركية. كانت تلك هى البداية لعملية طويلة ومعقدة من الصراع كانت أحد إفرازاتها، وربما أهمها، ظهور موسيقى الأرابسك التركية.

بين منتصف الثلاثينات ونهاية الخمسينات تشكلت اللبنة الأولى لموسيقى الأراسبيك، وإن لم تدمغ بهذا الاسم عندها بعد. بفضل شعبية السينما المصرية وجماهيرية المغنين العرب الواسعة بين الجمهور التركي في تلك الفترة، وعلى رأسهم عبد الوهاب وأم كلثوم، تبنت صناعة الأغنية التجارية في تركيا مزجاً لتقاليد الموسيقى الفلكلورية التركية مع بنية الأغنية العربية الحديثة، وبالأخص المصرية، لإرضاء ذائقة الطبقات المهمشة والمحافظة التي قاومت عملية التحديث الأتاتوركية وتمسكت بميلها الشرقي. لكن محدودية القدرة الشرائية للمستهلكين الرئيسيين لذلك الصنف الغنائي الهجين، من الطبقات الريفية والطبقات الشعبية المدينية، أبقت تطور تلك الموسيقى وانتشارها محدوداً في بعض الأفلام الغنائية التركية، الشحيحة بالأساس، وفترات بث قصيرة على محطات الإذاعة.

تزايدت حركة الهجرة الريفية إلى المدن وتسارعت وتيرة عمليات تمدين الريف، كما نشأت أحزمة من مدن الصفيح حول المدن التركية الكبرى في الستينات، وظهر شريط الكاسيت لاحقاً، كل هذا خلق قاعدة جماهيرية واسعة، قادرة على استهلاك ذلك المزيج الفلكلوري/العربي مباشرة عبر شرائط الكاسيت، مما دفع وسائل الإعلام لدمغ مصطلح موسيقى الأرابسك لأول مرة، لتوصيف ذلك المزيج كصنف موسيقى مستقل ومحدد المعالم. لكن ذلك التحديد سرعان ما استدعى تدخل السلطات، فصعود شعبية أغاني أورهان كنجباي الذي يعتبر مؤسس موسيقى الأرابسك في نهاية الستينات قوبل بمنع أغاني الأرابسك من التلفزيون الوطني للعقدين التاليين. فتلك الموسيقى التي كان يشار إليها بـ الموسيقى المنحطة أو موسيقى العشوائيات، وأغاني الميني باص، كانت ألحانها الحزينة وبنيتها الدرامية ونصوصها القدرية والمفعمة بالألم والمعاناة مفسدة للشخصية التركية في نظر الساسة والدوائر الثقافية العلمانية، وملوثة للهوية الوطنية بشوائب شرقية وعربية منحطة.

لم تكن شعبية الأرابسك المتزايدة بالرغم من الحصار الحكومي وهجوم الدوائر الثقافية مجرد تعبيراً عن اليأسوالقدرية المنحطةأو فساد الذوقلدى الطبقات الريفية والمدينية المهمشة، نتيجة اتساع الفوارق الطبقية وتعمقها، بل كانت امتداداً لعملية خلق هوية بديلة عن الهوية الأتاتوركية المفروضة من أعلى، ومحاولة للتمسك بتواريخ وانتمائات وصلات ولو صورية مع الشرق.

كان للأرابسك أن يحظى في مطلع الثمانينات بنجمه الأكثر نجاحاً على الإطلاق، إبراهيم تاتليسس، وأن ينال دعم حزب سياسي لأول مرة. ففي انتخابات ١٩٨٣ استخدم حزب الرفاة بقيادة أربكان أغاني الأرابسك في حملته الانتخابية. وبالرغم من أن الحزب قد حظى بنسبة شديدة التواضع من الأصوات، إلا أن طيفاً واسعاً من الأحزاب السياسية والحركات الدينية بدأ بعدها، تدريجياً، بتبني نسخ معدلة من الأرابسك في أنشطته الدعائية، فأصبح هناك أرابسك ثوري، وأرابسك إسلامي، وغيره. كان صعود أربكان وحزبه لاحقاً علامة على تحوّل جوهري في الساحة السياسية والمجتمع التركيين، وعلى تراجع هيمنة المبادئ العلمانية الغربية للجمهورية التركية، الأمر الذي انعكس على تزايد قبول الأرابسك في وسائل الإعلام والمجال الثقافي الرسمي.

بحلول التسعينات، ومع ازدهار الاقتصاد التركي الاستثنائي وظهور القنوات الفضائية وبداية تحول الإنتاج الثقافي التركي إلي صناعة ضخمة لها أسواق أقليمية واسعة، أتمّ الأرابسك اندماجه في المجال العام بالكامل، ليتحول من موسيقى الطبقات المهمشة إلى موسيقى عابرة للطبقات والحدود. سمح توفر الإمكانيات التكنولوجية والفنية بإدخال تيمات وآلات وإيقاعات غربية على الأرابسك، ليناسب ذائقة قطاعات أوسع من المستهلكين محلياً وخارجياً، ويصبح الصنف الموسيقي الأكثر جماهيرية في تركيا حتى اليوم.

حكاية شتاء، لسيبل جان إحدى مغنيات الموجة الأخيرة من الأرابسك.

يعكس تاريخ الأرابسك صراعاً سياسياً اجتماعياً بين الهويات التركية المتناقضة، ومقاومة الطبقات المهمشة للنخب البيروقراطية العلمانية، في فترات شهدت تحولات سياسية حادة وتغيرات ديمغرافية شديدة الكثافة. لكنه يعكس أيضاً التغيرات التي انتهت بنظريات كوك ألب ضيقة الأفق عن الهوية التركية وموسيقاها القومية الفلكلوريةالغربية، بنسخ مهجنة أكثر تنوعاً وتناقضاً في الوقت ذاته. لا يعني هذا بالطبع أن الأرابسك اليوم هو تجسيد لهوية تركية متجانسة أكثر رحابة وعولمة، فـ تصريحات عازف البيانو التركي الشهير، فاضل ساي عن موسيقى الأرابسك في ٢٠١٢، تؤكد على استمرار معضلة الهوية التركية المستعصية، ومعاركها التي لم تحسم بعد: “كراهية هذا الشيء المقزز، المسمى أرابسك، فعل وطني، بينما حبه خيانة.”