البوصلة الفلسطينية: أين الاتجاه؟

كتابةرشا حلوة - December 23, 2012

في البداية، لم تبد الثورات العربيّة أنها منشغلة ببوصلة أخرى غير الحريّة. كان ذكر فلسطين في الهتافات أو الخطابات السياسيّة مجامِلاً وفاتراً. إلى أن انتبه الفلسطينيّون أنهم معنيّون باحتلالات أخرى غير احتلالهم. وبأن تحرّر البلاد العربيّة سيفكّك منظومة الاحتلال الإسرائيليّ، والإمبرياليّة العالميّة. وكان أن شارك الموسيقيون الفلسطينيون الشعوب العربيّة في تمهيد هذا الطريق.

أثناء كتابتي لهذا المقال، كنت أستمع إلى أغاني فرقة الديوانالعكّية. هذه الفرقة التي تأسست في بداية التسعينيّات وأصدرت مجموعة من الأغاني التي سُجّلت خلال حفلة في عكّا أقيمت للفرقة في العام 1995. ضمّت الفرقة آنذاك كلّ من عبدو متى، خير فودة، إبراهيم قدورة، ميسرة مصري، أحمد طاهر وغناء سحر فودة. ومعظمهم لا زالوا منخرطين في المجال الفنّي. لكن حاضنتهم الأولى، الفرقة، لم تستمر في مسيرتها. إلا أنه من حظنا أن الأغاني سُجّلت، كي يعرفها من لم يعش تلك السنوات، لكنه عاشها وسيعيشها من خلال فاطمةو برهومو كلن حراميةوعبدالله بياع الكاز، وغيرها من الأغاني التي بإمكاننا وضعها في إطار الأغنية الملتزمة؛ وأعني بالإلتزام هُنا من ناحية الكلمة واللحن وموضوع الأغنية بشكلٍ أساسي التي تحدثت عن الإنسان والأرض، وعن شخصيات كانت رابطاً أساسية بهُوية المدينة التي انطلقت منها الفرقة، وهي عكّا.

إلى هذه القائمة من الفرق التي بإمكاننا أن نسميها ملتزمةالتي تأسست في فلسطين، وقد كان لها دوراً، ولا يزال، في بناء الهوية العربية الفلسطينية في الداخلتحديداً، ومن ثم كجواز سفر لهم في العالم وككتاب موسيقيّ تعريفيّ بالفلسطينيين وقصتهم أينما كانوا؛ في الوطن والشتات. وعندما وصلت هذه الموسيقى إلى الإنسان العربي والعالم قبل عصر الانترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، حصلت على جمهور كبير لا زال مخلصاً لأغنيتها.

من هذه الفرق، وأكثرها شهرةً، صابرينوالتي تأسست في العام 1982 والتي تعتبر حتى يومنا هذا مدرسة موسيقيّة وغنائيّة. وفرقة الشاطئ، وهي فرقة لموسيقى الروك تأسست في حيفا في العام 1989 والتي عُرفت أكثر على مستوى فلسطين ومن ثم ساهم الإنترنت في إيصالها إلى العالم. ولا يمكن إلا أن نذكر الدور الأكبر الذي لعبته فرقة أغاني العاشقينالتي تأسست في دمشق عام 1977، والتي هي أكثر الفرق التي غنت بشكل مباشر أغاني مراحل الثورة الفلسطينيةالمختلفة.

أضف إلى الفرق أعلاه، بالإمكان القول أن مشروع استمرارية الأغنية الملتزمةبشكل أو بآخر كان على عاتق الفنان/ة الواحد/ة الذي لم يحتاج مشروعه إلى عمل جماعي في التلحين والغناء أو حتى التركيبة التي انطلق منها. فكان مشروعه الأساسي هو إعادة إنتاج الأغنية التراثيّة الفلسطينيّة، أو إنتاج أغانٍ جديدة وفقاً للون الموسيقي الذي يعتمده كلّ فنان.

بلا شك أن المشهد الموسيقي في فلسطين هو غنّي من ناحية الكثافة الانتاجيّة (برغم غياب شركات الإنتاج الفلسطينيّة، ومقاطعة شركات الانتاج الإسرائيليّة، والاعتماد على بعض تمويل صناديق الدعم والشركات العالميّة والتمويل الذاتي) وهو أيضاً يشكل مرآة حقيقية عن المرحلة التي تمرّ بها فلسطين وعن عملية سرد القصةمن خلال مواضيع مختلفة منها الكبيرة والصغيرة من ناحية تفاصيل الحياة.

لكن مؤخراً، ومنذ بداية عصر الإنترنت، أصبح من السهل على الموسيقي الفلسطيني أو الفرق الفلسطينية نشر إنتاجاتها، حتى أغنية واحدة، من خلال المواقع الالكترونية المختلفة، والعمل على كليب مصوّر يوصل الصورة والصوت والمكان إلى العالم. مما كانت هذه الوسيلة مصدر سعادة مستمر، وذلك لأن الموسيقى والأغاني أكثر من سرد قصة الفلسطينيين بكل عواملها الجميلة والقاسية، تلك التي سُرقت.. والباقية.

عند بداية الثورات العربية من تونس في 17 كانون أول/ديسمبر 2010، لم تكن هنالك أغانٍ تتحدث عن الثورات في سياقها الحالي، فأصبح الإنسان العربي والفلسطيني كذلك يبحث في أرشيف الأغاني الثوريةعن أغانٍ تلائم واقع تونس مثلاً أو مصر، وإن لم تكن أغاني مباشرة تحكي عنهما.

فوجد مثلاً في الأرشيف الفلسطيني أغنية نسمة الحريةلكاميليا جبران وفرقة صابرين والتي تُغنى باللهجة المصرية ملائمة تماماً. والتي تقول كلماتها التي كتبها سيد حجاب: “ودّي أغنّي لنسمة الحريّة/ ولحلم طاهر في الضماير عاش/ ولوردة حمرا مفتّحة منديّة/ ولدُنيا جاية لسا معشنهاش“. إضافة إلى توظيف الأغنية المصرية على سبيل المثال، وبشكل خاص أغاني الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم في التضامن الفلسطيني من خلال الفنّ البصري، وبشكل خاص تصميم الملصقات ونشرها عبر مواقع التواصل الاجتماعي. فالعديد من الملصقات التي صممها الفنان حافظ عُمر على سبيل المثال قامت على جمل من أغاني الشيخ إمام مثل: “رجعوا التلامذة، وأغنية شادية يا حبيبتي يا مصرمع صور من الثورة المصريّة.

منذ هروب الرئيس التونسي السابق بن علي، أرادت مجموعة من الفرق الفلسطينية الشابة أن تقوم بالدور العكسي في هذه المرحلة، وأن الآن هو دور الفلسطيني أيضاً أن يتضامن مع أشقائه في تونس ومصر من خلال الأغنية (كما تضامن العديد من الفرق والمغنيين العرب مع القضية الفلسطينية، ولا زالوا). من ضمن الأغاني التي تم إنتاجها في الأيام الأولى للثورتين التونسية والمصرية، كانت أغنية للفنان الحيفاوي علاء عزام، وهي بعنوان قوم يا مصريمن كلماته وألحانه وغنائه. أما التسجيل والانتاج الموسيقي فهو لبرونو كروز من حيفا.

أضف إلى هذه الأغنية، كان قد كتب الشاعر جمال عبده (البقيعة/ الجليل) قصيدة في العام 2006 تحمل اسم أهزوجة مصريّة فلسطينيّة، ولحّنها مجد كيّال (حيفا)، ووزعها الموسيقي خضر شاما (الناصرة)، وغنّتها فرقة حقالموسيقيّة التابعة للمؤسسة العربيّة لحقوق الإنسان في الناصرة في بداية شباط/ فبراير 2011.

إلا أن أكثر الأغاني التي حصلت على انتشار واسع على مستوى فلسطين والعالم العربي كانت أغنية الثورة الخضراء، والتي عملت عليها مجموعة من الموسيقيين الفلسطينيين ومن الجولان السوري المُحتل (عدي كريّم، ميساء ضو، ميساء سبيت، تريز سليمان، عايد فضل، حسن نخلة، شادي عويدات، رامي نخلة، سامي مطر وبرونو كروز) على مدار ثلاثة أيام متواصلة. وكانت قد رُفعت إلى موقع اليوتيوبفي الخامس والعشرين من كانون ثاني/ يناير 2011 بمرافقة صور من الأيام الأولى للثورة التونسية. وفي الخامس عشر من شباط/ فبراير 2011، أطلق فيديو الأغنية والتي صُور في حيفا بتمويل ذاتي ومن إخراج إيلي رزق، عايد فضل وسهيل نفّار.

دخلت الأغنية الفلسطينيّة إلى مرحلة جديدة، ربما ارتباطاً مع المرحلة التي تمر بها المنطقة، لتتواصل مع من هم خارج الحدود التي فُرضت عليها في العام 1916. هذا التواصل التضامني من خلال أصواتها الموسيقية التي تدرك ماهية الهم والحُلمالواحد لهذه المنطقة، ولربما هي المحطة الأولى القابلة للتطبيق تجاه زوال الحدود والحواجز التي فُرضت ما بين البلدان، والتواصل الفنّي الذي أتاحه الانترنت، والذي نضج مع بداية الثوارت العربية.

لعل هذه التواصل يستمر على أرض الواقع وعلى المنصات الحقيقية، ويثمر تعاونات موسيقية بين الجنسيّات العربيّة المختلفة. وثورة موسيقية، لا عالموسيقى بلّ على الحدود