التعبير المنغّم في الإسلام | عرض تاريخي موجز

التعبير المنغّم في الإسلام | عرض تاريخي موجز

يعود بنا الحديث عن الإنشاد الإسلامي إلى وقت مبكر جداً من زمن ظهور الدعوة المحمّدية في القرن السابع للميلاد في شبه الجزيرة العربية. فهذا الدين الجديد الذي غزا بعد سنوات أولى متعثرة، بلاد العرب وحياتهم السياسية والاجتماعية والروحية وقلبها راساً على عقب، كانت له، وعلى غرار أي تغيير اجتماعي كبير، تجليّاته في عالم التعبير النغمي، بين تلاوة القرآن والأذان والإنشاد للرسالة الجديدة وصاحبها ومفاهيمها.

وإذا كان بعض الباحثين يميلون لجعل الإنشاد الديني شيئاً منفصلاً عن تلاوة القرآن والأذان، فيما يذهب غيرهم إلى جعل الأذان من أنواع الإنشاد، إلا أن هذا الخلاف على التقسيمات والتصنيفات لا يعنينا بقدر ما يفيد سياقَ البحث الحديث عن التلاوة والأذان والغناء للمعاني الدينية على أنها تشكّل معاً التعبير النغمي الذي رافق ظهور دعوة نبيّ العرب وما تلاه. سيكون في هذا البحث محاولة لاستعراض مختصر سريع لبعض المحطات التاريخية لهذا الفن، من حيث الشكل الموسيقي والمضمون الكلامي.

صدر الإسلام | “غنّوا القرآن بلحون العرب وأصواتها

لا نعرف الشيء الكثير عن ألحان العرب وكيفية غنائهم وموسيقاهم في الماضي الغابر، بل كلّ ما نعرفه أن الصحراء قبل الإسلام لم تكن خالية قاحلة في موسيقاها، بل كان العازفون والمغنون، ذكوراً وإناثاً، يحيون أسواقها ولياليها ومناسباتها الاجتماعية والدينية. في هذه البيئة نزل القرآن، ودعا النبي أتباعه إلى غنائه، بحسب ما نقل عنه رواة الأحاديث، وإلى تجميله بأصواتهم فقال “زيّنوا القرآن بأصواتكم” مختصر ابن كثير، تحقيق محمد علي الصابوني، دار ابن كثير، الجزء الثالث صـ ٥٨٥، وقال أيضاً “ليس منّا من لم يتغّن بالقرآن”، والتغنّي هو الترنّم وترديد الألحان على ما فسّره الغزالي في إحياء علوم الدين الغزالي، محمد أبو حامد، إحياء علوم الدين، الجزء الأول ص ٢٧٩، دار المعرفة-بيروت  قاطعاً الطريق على تحريم غناء القرآن وتفسير التغنّي على أنه “الاستغناء بالقرآن عن غيره.”

من عادة الأمور أن يكون غناء القرآن جاء متماشياً مع النظام الموسيقي السائد في ذلك الحين، والثقافة المحليّة لأتباع الدين الجديد. وإذا كان ظهور دعوة جديدة تخالف أسس المجتمع في مفاهيمه الاجتماعية والأخلاقية والروحية يدفع أتباعها غالباً إلى الانفصال الجذري عنه ومخالفة قيمه وموروثاته الثقافية، إلا أن النبي بدّد ذلك بقوله “غنّوا القرآن بلحون (ألحان) العرب وأصواتها” البيهقي أحمد بن الحسن، شعب الايمان، الجزء ٢ صـ ٥٤٠ دار الكتب العلميّة-بيروت، أي غنّوه بمثل ما تغني العرب أغانيها، على أن يراعى في ذلك “إعطاء الحروف حقوقها” ونطق الحرف “على كمال هيئته من غير إسراف ولا إفراط ولا تكلّف”، كما ذكر الفقهاء السيوطي، جلال الدين، الاتقان في علوم القرآن، الجزء الأول صـ ٢٦٦.

وفي ما روي عن النبيّ أنه سمع أحد أصحابه، أبا موسى الأشعري، يتلو القرآن في صلاته فأحبّ تلاوته وصوته الجميل، فلما أنهى صلاته قال له: “يا أبا موسى، لقد أوتيت مزماراً من مزامير داود” صحيح البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب: حسن الصوت بقراءة القرآن: بلفظ آل داود، فأجابه أبو موسى: “يا رسول الله، لو علمت مكانك لحبّرتُ لك تحبيراً” صحيح ابن حبان، أي لو عرفت أنك كنت تسمعني لزيّنت قراءتي لك تزييناً كثيراً.

العصر العباسي | القراءة بالألحان

لا نعرف الشيء الكثير عمّا كانت عليه موسيقى العصور الإسلامية اللاحقة، إلا بعض المحاولات الأكاديمية قام بهذا الجهد الأستاذ في علوم الموسيقى نداء أبو مراد وخلص إلى إعداد تسجيلات لمدوّنات موسيقية من العصر العباسي. لفهم النظام الموسيقي آنذاك، وفكّ رموز أولى التدوينات الموسيقية العربية في العصر العباسي ومحاولة عزفها أيضاً، لكننا نعرف أنها كانت متعددة المقامات والضروب الإيقاعية، ونعرف أيضاً أن نوعا من الغناء كان يُقال له الغناء بالألحان كان رائجاً في ذلك الزمن، يرُجّح أن يكون ظهر قبل ذلك، وهو ما زال رائجاً إلى زمننا هذا. والغناء بالألحان هو أن يُردّد الكلام المخُتلف على لحن واحد متكرّر، كما هو الحال في الأغاني الفلكلوريّة التي تتوالى مقاطعها الكلامية على صيغة لحنيّة ثابتة. وقد تُغنّى قصائد مختلفة على لحن واحد، كما يغنّى في أيامنا مثلاً “آه يا حلو يا مسلّيني” و”من الشباك لارمي لك حالي” على اللحن المتكرر نفسه.

ولأن التلاوة المنغّمة للقرآن هي ابنة بيئتها الثقافية، دخل الغناء بالألحان على التلاوة. ولسنا نعلم متى كان ذلك أفي العصر الأموي أم العباسي، لكن ما نعلمه أن هذه القضية كانت محل خلاف فقهي في القرن الثامن للميلاد، في زمن حكم بني العبّاس. فقد ضاق كثير من الفقهاء بفكرة أن يقرأ القرآن على لحن موقّع، أي قائم على إيقاع ثابت وليس موّالاً من دون إيقاع، ومستخدم في الغناء “الدنيوي” في تلاوة كلام السماء إلى الأرض. وإذا كانت هذه الفكرة قد تروّع الكثير من المسلمين إلى اليوم، أن يروا آيات القرآن تتلى على لحن فلكلوري مثل الحداء أو العتابا أو غيرها، فإن ذلك لم يكن حال علماء مرموقين منهم الإمام الشافعي، صاحب أحد أكبر المذاهب الإسلامية، الذي لم ير مشكلة في تلاوة القرآن بالألحان المعروفة طالما أنها لا تخرج لفظ القرآن عن صيغته النووي، يحيى بن شرف الدين، التبيان في علوم القرآن، صـ ٥٨. الوكالة العامّة للتوزيع-دمشق..

القرن التاسع عشر | الله يا شيخ!

شاع في مصر في القرن التاسع عشر الغناء المُتقن القائم على التنويعات المقامية والزخرفات الصوتية واتّساع المدى اللحني، ومنه الموّال أو القصيدة المرسلة. ولما كانت تلاوة القرآن ابنة بيئتها كما تقدّم، صارت موّالاً مرسلاً، أي لا إيقاع له ولا وزن وإنما يُراعى فيه الوزن المقطعيّ للكلام نفسه، وهكذا صارت قراءة القرآن في القرن التاسع عشر وإلى يومنا هذا، أقرب ما تكون في عالم الموسيقى إلى موّال لا يستهّله القارئ بالآهات والليالي، لكن الجمهور يتلقاه بردّة الفعل نفسها التي يتلقّى فيها أداء أهل السلطنة والطرب.

وكثيراً ما كان المقرئون يجولون بين المقامات بحسب مقتضى حال الآيات لاغرانج، فريديريك، الموسيقيون والشعراء في مصر في عصر النهضة، صـ ٤٧. فمن المعلوم أن لكل مقام موسيقي حال نفسي يبثّه لدى المستمع، ولكلّ آية من آي القرآن مقصد وهدف تحقّقه في نفس المنصت إليه.

ومن هنا، اجتهد بعض القارئين في مناسبة هذا مع ذاك، فصاروا مثلاً يناسبون مقام البياتي لآيات التوحيد، ومقام الراست لوصف الجنّة ونعيمها، ومقام الصبا لآيات الحزن والندم، ومقام النهوند لآيات الوصف والمحاورة الشيخ محمد الهلباوي مقرىء مصريّ ومنشد، له مبحث في فن التلاوة غير منشور، سلمنا نسخة عنه قبل وفاته.

لكن ذلك لا ينبغي أن يخلص إلى أن تلاوة القرآن في القرن التاسع عشر والقرن العشرين كانت تلحيناً تعبيرياً لآياته، فقد ظلّ التطريب المقامي سيّد الأحكام لدى المقرئين.

القرن العشرين | الحلقة الأخيرة المفقودة

في القرن العشرين، تطوّرت الموسيقى العربية، والمشرقيّة منها على وجه التحديد، متجّهة إلى الغناء التعبيري مقتبسة في ذلك من الغناء الأوبرالي. ولعلّ بدايات ذلك كانت مع الشيخ سلامة حجازي (١٨٥٢-١٩١٧) أحد رواد المسرح الغنائي العربي. والغناء التعبيري، بخلاف الغناء التقليدي، يقوم على أن يدور اللحن والأداء لا على التطريب بل على التصوير، أي أن تتواطأ الموسيقى مع الكلام على المستمع، لنقله إلى الحالة الوجدانية المقصودة من فرح وحزن وانقباض وانشراح وغضب وخوف وقلق وارتياح وندم وما إلى ذلك من حالات.

هذه المرّة، لم تكن تلاوة القرآن ابنة بيئتها تماماً، فإذا كانت الأغنية العربية قد خطت خطوات كبيرة في التعبير، من سلامة حجازي إلى سيد درويش وزكريا أحمد ومحمد عبد الوهاب ورياض السنباطي ومحمد القصبجي وصولاً إلى الشيخ إمام، إلا أن تلاوة القرآن ظلت على حالها في ما عدا بعض الملامح التعبيرية المتفرّقة التي يمكن رصدها مثلاً عند الشيخ مصطفى إسماعيل، من دون أن يجعل ذلك من تلاوته غناءً تعبيرياً للقرآن بما تعنيه الكلمة. كان الشيخ زكريا أحمد يرى أن تجويد القرآن وقف عند حدود التطريب، وأن آياته تستحقّ أن تلحّن تلحيناً تعبيرياً يخدم ما فيها من صور ومعان، بعيداً عن الاستعراض التقليدي للمقام وبراعة المقرئ. وكان يطمح بأن ينفّذ هذا المشروع مع أم كلثوم. لكن مشروعه اصطدم بجدار المؤسسة الدينية الرسميّة، ومن ثم بخلافه مع أم كلثوم نفسها، كما كان يقول سحاب، فكتور، السبعة الكبار في الموسيقى العربيّة المعاصرة، ص ١٢٩، دار العلم للملايين. وبذلك، صار القرآن في القرن العشرين يُتلى بلحون القرن التاسع عشر وأصواته، وليس بلحون القرن العشرين وأصواته.

في الفيديو أدناه تلاوة للشيخ مصطفى اسماعيل (١٩٠٥—١٩٨٧) لسورة البلد على مقام راست. يُلاحظ كيف أنه في الدقيقة الثانية من التسجيل في آية “ألم نجعل له لساناً وشفتين”، أدى على طبقة عالية “ألم نجعل” وهبط إلى القرار في “له”، تصويراً لعلوّ الخالق وضعف المخلوق المتكبّر.

الأذان

الأذان في اللغة هو الإعلام عن الشيء، وفي الاصطلاح الإعلام بدخول وقت الصلاة. ظهر الأذان في المدينة المنوّرة، حيث صار الجهر بالإسلام لا يكلّف صاحبه القتل أو التعذيب والاضطهاد، ونشأ بمبادرة اجتماعيّة وليس بتشريع ديني، وهو بهذا من أول مظاهر الإنشاد أو التعبير المنغّم عن معاني الدين الجديد يخرج به المجتمع الإسلامي الأول.

ذكر رواة السيرة النبوية أن المسلمين الأوائل تشاوروا في ما بينهم، والنبي معهم، في طريقة للإعلام بحلول وقت الصلاة والدعوة إليها، ومال الرأي أول الأمر إلى النفخ بالبوق كما كانت عادة اليهود العرب، ثم مال تارة إلى القرع بجرس كما هي عادة مسيحيي العرب، إلى أن جاءت مبادرة أحد أصحاب النبي باعتماد الأذان، فتلقاها النبي بقبول حسن عبد الملك بن هشام، السيرة النويّة، دار صبح، الجزء الثاني، صـ ١٢٦، وكان الأذان بالمعروف بصيغته الكلاميّة إلى يومنا هذا.

لسنا نعرف كيف كان بلال الحبشي يؤذن داعياً للصلاة. وبلال، أوّل مؤذن في الإسلام، كان عبداً من بلاد الحبشة، اشتراه المسلمون الأوائل لتحريره وإنقاذه من صنوف العذاب التي لاقاها بسبب دخوله الدين الجديد. ولا يتوفر لدينا أي خيط يخبرنا عن الصيغة اللحنية التي كان يرددها في المدينة المنوّرة، أو بعد ذلك على سطح الكعبة في مكّة حين دخل الإسلام مظفّراً إلى مسقط رأسه في السنة الثامنة بعد الهجرة منها، والحادية والعشرين على ظهور الرسالة.

وظاهر الأمر أن النبي أراد من اختياره لهذه المهمة توكيل الأمر إلى ذي صوت شجيّ كان “الأندى صوتاً” بين أقرانه، ليلطّف الدعوة إلى الصلاة ويحببّها في نفوس السامعين، ولا يتعارض ذلك مع أن يكون أراد أيضاً التصدّي للنزعة الفوقية القبلية والعرقية السائدة لدى العرب أهل التفاخر بالأنساب والمكانة الاجتماعيّة. فبعد دخول المسلمين فاتحين إلى مكّة، ظلّ اعتلاء هذا الرجل الأسود العبد السابق الكعبة التي تختصر فخر آباء العرب وأجدادهم، يثير حساسية بين رجال مكّة، ولم يتردّد بعضهم عن الجهر باستيائه: “أما وجد محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذناً؟” أو “ينهق على ظهر الكعبة؟” ذكر أن هذه الحادثة كانت سبب نزول آية 'يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى'، الواحدي النيسابوري، اسباب النزول، دار المصطفى، صـ ٣٢٦.

وفي ما روي أن بلالاً كان يضع إصبعه في إذنه حين يؤذّن، وأن النبيّ أقرّه على ذلك لما في ذلك من تحسين للصوت، مع أنه نهى، وفقاً لروايات أخرى، عن المبالغة في التطريب في الأذان، وأمر أن يكون نداء الصلاة “سهلاً سمحاً” روي الحديث في سنن إبن ماجة والدارقطني، وقبل إن سنده ضعيف، ونسب قول بهذا المعنى لعمر بن عبد العزيز.

أذان الجوق أو الأذان السلطاني

كان الأذان في العصر الإسلامي الأول مهمة فرديّة يضطلع بها من يتوافر عنده حسن الصوت وقوّته، لكن نوعاً جديداً ظهر في العصور اللاحقة هو أذان الجوق أو الأذان السلطاني، وهو أذان جماعي يشترك في أدائه جمع من المؤذنين. لم يلق هذا الشكل الجديد من الأذان الذي يجاري شكل الغناء الجماعي، معارضة كبيرة بين الفقهاء، بل جرى عليه حكم الإباحة شرط أن يردّد كلّ فرد من أفراد المجموعة صيغة الأذان كاملة الجزيري، عبد الرحمن، الفقه على المذاهب الأربعة، صـ ٤٦١. وما زال الأذان السلطاني يتردّد حتى الآن في بعض المساجد، منها المسجد الأموي في دمشق.

لكل وقت مقام

تنوّعت المقامات المعتمدة في الأذان في بلاد المشرق العربي، وقد ذكر أن كلّ يوم اختصّ بمقام في بعض الأماكن والأزمان، كما كان يحصل في مسجد الحسين في القاهرة إبان القرن التاسع عشر حيث اختص يوم السبت بمقام العشاق، ويوم الأحد بمقام الحجاز، وأيام الاثنين بمقامات السيكاه والبياتي والحجاز والشوري تبعاً لترتيب يوم الإثنين في الشهر، ويوم الثلاثاء بمقام السيكاه، ويوم الأربعاء بمقام الجهاركاه، ويوم الخميس بمقام الراست، ويوم الجمعة بمقام البياتي لاغرانج، المصدر السابق، صـ ٤٨.

الإنشاد

ظهر الإنشاد كما تقدّم في وقت مبكر من عمر الإسلام، وفيما اختصّ القرآن بمواضيع محدّدة كالتوحيد والإيمان بالكتب المنزلة والرسل الغيب والحساب، والتأمّل بالوجود والمخلوقات في السماء والأرض، والقصص ذات العبَر، وتبيين الأحكام، فإن الإنشاد تناول مواضيع توسّعت في هذه المعاني، أو مواضيع أخرى لم ترد في القرآن أصلاً، أو وردت باقتضاب شديد. فالله في القرآن هو الخالق المشتمل على صفات الكمال، وهو الذي يجمع الناس إليه في يوم الحساب، لتوفّى كلّ نفس ما كسبت في حياتها، أما في بعض فروع الإنشاد، فهو الحبيب الأعلى الذي تذوب النفس شوقاً للُقياه.

والنبي في القرآن بشر لا يتميّز عن سواه سوى بأنه مكلّف بنقل الأمانة على غرار من سبقوه من الأنبياء، وقد ذكره الكتاب في مواضع محدودة منها ما كان في سياق اللوم أو التحذير، ومنها ما كان في سياق الثناء المحدود بداعي الدعوة الى اتّباع تعاليمه. أما الإنشاد فكان مساحة للتوسّع في مدحه بما شاء العرب أن يمدحوا به نبيّهم ويفاخروا فيه بين الأمم، فهو “أشرف الأعراب والعجم” و”تاج الرسل” و”خير من يمشي على قدم”، وهو “خير رسل الله كلهم”. وهذه المعاني جمعها الإمام البوصيري الذي عاش في مصر في القرن الثالث عشر الميلاد، السابع للهجرة، في قصيدته الواسعة الشهرة المسماة “الكواكب الدريّة في مدح خير البريّة” المعروفة بالبردة.

صدر الإسلام | طلع البدر علينا

بعد ثلاث عشرة سنّة من تعثّر دعوة الإسلام في مكّة، عاصمة الوثنيّة العربيّة، هاجر النبي إلى المدينة المنوّرة، حيث كانت الظروف مواتية لنموّ دعوته بين اليهود الموحّدين المشتركين مع دعوته في أصلها الإبراهيمي، وأتباعه الذين سبقوه إلى هناك، بعيداً عن العداء الوثني القاسي الذي لاقاه وأنصاره في مسقط رأسه.

ونقل إلينا في كتب الأثر أن المدينة استقبلته بحفاوة، واعترضته القبائل التي تبغي نزوله عندها السيرة النبوية لابن هشام، جـ ٢، صـ ١١٥، وأنه لمّا مرّ بحيّ بني النجار فيها ضربت النساء الطبول وأنشدن له: “نحن جوارٍ من بني النجّار، يا حبّذا محمّد من جار”، فأجابهن النبي: “الله يعلم أني أحبّكن” ابن ماجه والطبراني في المعجم الصغير.

وأنشدت نساء من المدينة لدى مقدمه أيضاً:

طلع البدر علينا من ثنيّات الوداع اسم المنطقة التي دخل منها المدينة

وجب الشكر علينا ما دعا لله داع

أيها المبعوث فينا جئت بالأمر المطاع

جئت شرّف المدينة مرحبا يا خير داع

ولئن كنا نجهل الصيغة اللحنيّة التي غنيّ بها هذا النشيد لدى مقدم النبي إلى المدينة، إلا أنه صار بكلماته علامة من علامات الإنشاد الإسلامي، علماً أن اللحن الشائع اليوم وضعه رياض السنباطي لأم كلثوم، وتوجد أيضاً نسخة مختلفة أداها الشيخ علي محمود أقرب إلى نمط أداء القرن التاسع عشر.

النبي منشداً

نقلت كتب السيرة والحديث عن النبيّ أنه كان ينشد ويشارك مع من ينشدون، وسجّل ذلك في مواقع كثيرة، منها أنه في السنة الخامسة للهجرة، شهد الإسلام واحدة من أكثر المحطات المفصلية في تاريخه، حين دقّت طبول الحرب واجتمعت قبائل العرب للقضاء على الدعوة الجديدة واجتثاثها من جذورها في المدينة المنوّرة قبل أن يستفحل أمرها في بلاد العرب.

عرفت تلك الموقعة بغزوة الأحزاب لاجتماع أحزاب العرب على هدف القضاء على الدين الجديد، أو غزوة الخندق نسبة للخندق الذي أمر النبي بحفره حول المدينة لعرقلة زحف القوات الغازية، وهي حيلة حربيّة فارسية أشار بها سلمان الفارسي أحد أصحاب النبيّ المقرّبين.

وأثناء حفر الخندق، كان النبيّ ينقل التراب ويشدو من واقع الحال المضطرب:

والله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدّقنا ولا صلّينا

فأنزلن سكينة علينا وثبّت الأقدام إن لاقينا

إن أولاء قد بغوا علينا إذا أرادوا فتنة أبينا صحيح البخاري، كتاب التمني، باب قول الرجل: والله لولا الله ما اهتدينا، ٧٢٣٦

ولا نعلم من كيفيّة إنشاد النبي لهذا النشيد سوى أنه كان يكرّر الكلمة الأخيرة ويمدّها ويرفع بها صوته، كما نقل رواة الحديث، وتغليب الظنّ بأنه كان يسلك في ذلك مسلك العرب آنذاك في هذا النوع من الإنشاد.

مواضيع الإنشاد

في العصور الإسلامية اللاحقة توسّع الإنشاد ليصبح فنّاً متشعّب الفروع متعدّد الموضوعات، منها فرع واحد يحقّق وظيفة شعائرية هو الابتهال، أي الدعاء المنغّم، لكون المسلم مأموراً بمناجاة الخالق والطلب منه، أما سائر الفروع فيمكن القول إنها كانت تحقّق وظائف اجتماعيّة أكثر منها دينية.

ومن آداب الابتهال أن يبدأ المنشد بالثناء على الخالق، ثم يتوجّه إليه بالطلب، على شاكلة ما جاءت عليه سورة الفاتحة بالاستهلال بالحمد والثناء، ثم طلب الهداية.

ومن الابتهال ما نقل عن الشيخ “سيدي” أحمد البدوي “ذي اللثامين” أحد أقطاب الصوفية الذي عاش في القرن الثاني عشر للميلاد بين المغرب ومصر وغيرهما:

إلهي أنت للإحسان أهل

ومنك الجود والفضل الجزيل (ثناء)

إلهي بات قلبي في هموم

وحالي لا يسرّ به خليل (مناجاة مقدمة للطلب)

إلهي جد بعفو لي فإني

على الأعتاب منكسر ذليل (طلب)

أما قصائد العشق الإلهي، فهي تشتبه بين الديني والدنيويّ من حيث النظم، وغالباً ما تحتوي على دلالات رمزية، تكنّي الحضرة الإلهية بالأوصاف التي درج العرب على إطلاقها على الحبيب، ويلتبس القصيد بين حوار المرء مع الحبيب الصادّ أو مناجاته مع الخالق الذي يهيم شوقاً إليه.

ومن أبلغ ما يبيّن ذلك ما جاء في قصيدة سلطان العارفين بالله للشيخ عمر بن الفارض:

قلبي يحدّثني بأنّك متلفي روحي فداك عرفت أم لم تعرف

يا أهل ودّي أنتم أملي ومن ناداكم يا أهل ودّي قد كُفي

لا تحسبوني في الهوى متصنّعاً كلَفي بكم خلقٌ بغير تكلّف

ويقول أيضاً متغنيّا بدلال “الحبيب” ومستسلماً لمشيئته:

تِه دلالاً فأنت أهل لذاكا وتحكّم فالحسن قد أعطاكا

ولك الأمر فاقض ما أنت قاض فعليّ الجمالُ قد ولّاكا

كلّ من في حماك يهواك لكن أنا وحدي بكلّ من في حماكا

ظهرت كذلك قصائد المدح، للنبيّ كما تقدّم، وآل بيته أو أحد الأولياء من أهل العرفان وشيوخ الطرق، وغالباً ما يتخلّلها التوسّل به لطلب الشفاعة والمدد. وصار مدح النبيّ وآل بيته والأولياء تقليداً استمرّ على مدى قرون طويلة، وما زال مستمرّاُ إلى يومنا، وصارت تقام له مناسبات سنويّة في المدن الإسلامية. ففي القاهرة وحدها، أُحصي في القرن التاسع عشر ثمانون مولداً، عدا عن تلك التي كانت تقام في سائر الديار المصريّة، وأهمها موالد الرسول والحسين والسيّدات من نساء أهل البيت والأولياء كالرفاعي والبدوي والدسوقي والبيّومي عمر، محمد، حاضر المصريين صـ ٢٣٩، مطبعة المقتطف ١٩٠٢، أعادت طبعه دار مصر المحروسة عام ٢٠٠٢.

ما زالت هذه الموالد حتى اليوم تشكّل عيداً سنوياً وملتقى روحياً وثقافياً وتجارياً، وحاضرة في الثقافة العامة والآداب والفنون على اختلافها.

وإلى ذلك، تطرّق الإنشاد على مدى العصور إلى مواضيع كثيرة أخرى، منها تذكير النفس، وتعظيم الشعائر كالصلاة والحجّ واستقبال شهر الصوم و”التوحيش” له أي الغناء الحزين على فراقه، وتسابيح الفجر وهي قصائد مغنّاة غناءً مرسلاً درجت العادة على أن تسبق أذان الفجر وهي من فئة الابتهال والمناجاة وتذكير النفس.

وهذه الأنماط ما زالت هي الأخرى تتردّد إلى اليوم على النمط التقليدي الذي شاع في القرن التاسع عشر.

القرن التاسع عشر | القوالب الموسيقية

شهد المشرق العربي في أواخر القرن التاسع عشر ومطالع العشرين نهضة موسيقية ضمن حركة النهضة الشاملة التي ضربت فروعها في شتى المجالات، من الأدب والمسرح والمكتبات والجامعات، إلى الفكر السياسي والإصلاح الديني. استمدت النهضة الموسيقية أول الأمر من الموسيقى العثمانيّة، ولقّحت بها العناصر الموجودة أصلاً في التراث المحلي من الغناء الشعبي البدائي، والموشحّات الثابتة الموقّعة المحدودة الارتجال والمدى اللحني أبو مراد، نداء، النهضة العربية والموسيقى- خيار التجديد المتأصّل صـ ٥٣، المجمع العربي للموسيقى، إلى نطاق التلاوة القرآنية والإنشاد الديني، فظهرت موسيقى عصر النهضة في القرن التاسع عشر، وأهمّ روّادها عبده الحمولي (١٨٣٦-١٩٠١).

أما في موجة النهضة الثانية مطالع القرن العشرين، وأهمّ روادها في المشرق العربي سلامة حجازي وسيّد درويش ومحمد القصبجي ومحمد عبد الوهاب، فقد استفادت الموسيقى العربية والمشرقية خصوصاً من الانفتاح على الموسيقى الأوروبية من حيث القوالب، مثل المونولوج المشابه لمقاطع “آريا” التعبيرية في الأوبرا، وطرق التأليف والعزف والارتجال والغناء، ومن ثمّ التوزيع الموسيقي وإدخال الآلات الغربية.

في ذلك الزمن، ظهرت أربعة قوالب أساسية في فنّ الإنشاد، هي الابتهال والتوشيح والمولد والذكر. وكانت هذه القوالب في الإنشاد توازي قوالب مماثلة في الغناء العادي.

الابتهال كقالب موسيقي، وليس الابتهال كنمط شعري الذي سبق الكلام عنه، هو التلاوة المرنّمة للدعاء، تلاوة فرديّة. وعلى هذا فهو الوجه الديني لقالب الموّال. وغالباً ما يكون الابتهال كقالب موسيقي مقروناً بالابتهال كنمط شعري، أو بعبارة أخرى: غالباً ما يؤدى الدعاء والمناجاة بصيغة الموال الحرّ، ولكنه قد يؤدى في قوالب أخرى كالتوشيح والذكر.

والتوشيح أداء منغّم يشترك فيه الشيخ والبطانة، وهم يسّمّون أيضاً السنيّدة أو الدكّة، بحيث تنشد البطانة اللحن الثابت، ويتولّى الشيخ بين كلّ مقطع وآخر التفريد والارتجال ثم يعيد تسليم الدور للبطانة. وعلى هذا يكون التوشيح هو القالب الإنشادي الموازي لقالب الدور في الغناء العادي.

المولد، كقالب موسيقي، هو سرد منغّم لنظم شعريّ أو نثريّ، عاميّ أو فصيح، يتناول سيرة النبيّ أو أحد الأئمّة، ولا يخالطه الكثير من الزخرفات الصوتية، بل هو أشبه ما يكون بسرد الحكواتية للسير الشعبية بشيء بسيط من التنغيم الصوتي.

أما الذِكر، فهو هو إنشاد جماعي لمجموعة قصائد متتالية تتنوّع موضوعاتها بين مختلف موضوعات الانشاد تتخلّل الحضرة الصوفية، وتشارك فيه طبقتان أو ثلاث طبقات، طبقة الأراضي التي تكوّنها صفوف “الذكّيرة” من مريدي الطريقة الصوفيّة. ينشدون “خطّ الذكر” الايقاعي، أي كلمات متكرّرة تشكّل ميزان الإيقاع (الله، أو لا إله إلا الله..) ويتولّى شيخ الحضرة ضبط إيقاعهم. ثم تتولى طبقة المنشدين الغناء الجماعي على إيقاع “خطّ الذكر”، أما التفريد أو الارتجال فيبقى من نصيب المفرّد الذي يشكّل الطبقة الثالثة.

ويكون قالب الذكر موازياً لقالب الموشحات، سوى بعض التفاصيل منها أن طبقة الأراضي تغيب في الموشحات تاركة ظبط الوزن للآلات الإيقاعية.

ويبقى قالب يكون فيه الارتجال محكوماً بالضبط الإيقاعي، وشاع هذا القالب في موسيقى القرن التاسع عشر وسمّي بـ القصيدة على ضرب الوحدة، أي ارتجال القصيدة على الإيقاع المسمّى الوحدة، ومنه أمثلة من الغناء الديني والدنيوي معاً.

الهجرة المعاكسة للأصوات

كان الإنشاد الديني، كما تقدّم، أحد روافد نهضة القرن التاسع عشر، لكنه كان متميّزاً عن الروافد الأخرى. ففيما كان أداء المغنّين، خارج نطاق الانشاد الديني، بسيطاً لا يداخله تصرّف، كما هو الحال في نطاق العوالم (المغنيّات) والصهبجيّة (المغنّين) البدائيّ، ونطاق الموشحات الحلبيّة الثابت الموقّع المحدود الارتجال، طرح نطاق الانشاد نفسه في الصدارة الفنيّة أو الاتقانيّة لأسباب قد لا تكون منفصلة عن تأثير الموروث الفقهي والاجتماعي.

من المعلوم أن الموقف الفقهي من الفنون لم يكن سهلاً سمحاً في كافّة الأزمان، وانعكس ذلك في كثير من الأحيان موقفاً اجتماعياً سلبياً من المشتغلين في معظم فروع الفنّ، فكان المشخّصاتيّة، أو الممثلون، مشكوك في شهادتهم بالعدل لكونهم يقولون في أدوارهم التمثيليّة ما ليس صحيحاً، وكان المغنّواتيّة في مرتبة أدنى بكثير مما هي مرتبة المنشد العالي الرفعة ومقرئ القرآن المشمول بالبركة.

لذا، يبدو أن الإنشاد الديني شكّل الملجأ للطاقات الغنائية والتلحينيّة المترددة من الغناء والتلحين عند رجحان كفّة الآراء المتشدّدة تجاه الموسيقى وسائر الفنون، إبان عصور الانحطاط، فصار الاتجاه المفضّل لمن تمتّع بصوت حسن وموهبة في الغناء أن يتجّه إلى النظاق المرموق، وهو التلاوة والإنشاد.

ولمّا كانت التلاوة والإنشاد بمنأى كبير من رياح الاجتهادات المتباينة، تواصل ذلك الفنّ عبر التاريخ، وكان خزنة الأمان لكنوز التراث الغنائي وحافظ عليها في مراحل الانحطاط، ثم أعاد رفد الغناء الدنيوي بها في زمن النهضة، زمن الاعتدال الديني.

ونلمس شاهداً على ذاك الرأي في تأرجح الشيخ سلامة حجازي وصراعه مع نفسه حول شرعيّة احترافه التلحين والغناء والتشخيص – التمثيل – قبل أن يحسم قراره تشجيع الأستاذ عبده الحامولي، رائد التجديد الموسيقي في مصر والمشرق، وصديق الإمام محمد عبده مفتي الديار المصريّة ورائد التجديد الدينيّ آنذاك، وتنبيهه إلى قيمة الفنون الجميلة وعلوّ مرتبتها ورقيّ منزلتها.

مع هبوب نسيم النهضة على المشرق، شهدت الساحة الفنيّة هجرة معاكسة من النطاق الديني إلى النطاق الدنيوي. وخرج من عباءة الإنشاد والتلاوة إلى عالم الغناء التقليد الفنّي نفر من روّاده منهم: الشيخ محمد عبد الرحيم المسلوب (١٧٨٦-١٩٢٦) أستاذ الرعيل الأول من جيل النهضة، وشيخ منشدي الأذكار الصوفيّة الخلعي، محمد كامل، الموسيقي الشرقي صـ ١٥٩ والمعروف من ألحانه في زمننا قدّ “آه يا حلو”، وموشّح “لما بدا يتثنى”، والشيخ محمد عثمان (١٨٥٥-١٩٠٠) الذي بدأ بتقليد المنشدين في الأذكار قبل أن ينتقل لدراسة الغناء والضرب على العود، ويصبح من كبار الملحنين الذائعي الصيت ومن من أشهر ألحانه: أدوار: كادني الهوى، أصل الغرام نظرة، في البعد ياما، يا ما انت واحشني رزق، قسطندي، الموسيقى الشرقيّة، صـ ١١٧، مكتبة مدبولي القاهرة، والشيخ يوسف المنيلاوي (١٨٥٠-١٩١١) الذي بدأ بتلاوة القرآن ثم اندمج في سلك المطربين، والشيخ أبو العلا محمد المتوفى عام ١٩٣٧ وأستاذ أم كلثوم السابق، والشيخ سلامة حجازي (١٨٥٢-١٩١٧) الذي بدأ مؤذناً في جامع البوصيري في القاهرة ومنشداً للأذكار الصوفيّة والابتهالات قبل أن يتحوّل الى الغناء والتلحين ومن ثمّ التمثيل، وهو أستاذ الشيح سيّد درويش عناني، ابراهيم، سلامة حجازي والتأثير التاريخي للمسرح الغنائي والأوبرالي، صـ ٣٦- ٣٨، مركز الاسكندريّة للكتاب، إضافة إلى سيّد درويش (١٨٩٢-١٩٢٣) والشيخ زكريّا أحمد (١٨٩٦-١٩٦١) وغيرهم.

النصف الثاني من القرن العشرين | نشيدنا نارٌ على الطغاة

في الثلث الأول من القرن العشرين، وبعد تفكّك العالم الإسلامي إثر سقوط السلطنة العثمانية التي يطيب لمعظم الإسلاميين وصفها بدولة الخلافة، ظهرت دعوات ترفع شعارات الرابطة الإسلامية و”استئناف الحياة الإسلامية” على اعتبار أنها تعطّلت منذ إلغاء منصب “الخليفة” في تركيا عام ١٩٢٤، وتعارض بالتوازي الاقتباس الفكري والسياسي والاجتماعي من الغرب بداعي التمسك بالهويّة المسلمة ولاسيما في ظلّ الاستعمار والهيمنة الأجنبية.

واكستبت دعوات الإسلام السياسي هذه زخماً مع نكبة فلسطين، إذ وُضع ضياع فلسطين “المسلمة” ومقدّساتها على أنه من تبعات سقوط دولة الإسلام الجامعة المانعة.

وكان التحوّل الكبير حين وقع الصدام بين الحركات الإسلاميّة والأنظمة العربية، بدءا بمصر، وانتهى باضطهاد عنيف للإسلاميين وتنكيل مرّوع في السجون والمعتقلات جعلهم يتشبّهون بالمسلمين الأوائل الذي لاقوا مرّ التعذيب والتنكيل في مكّة قبل الهجرة.

في أقبية السجون، تشدّد الفكر، وصار الجهادُ جهادين، جهاد في الداخل لإزالة “الجاهليّة” التي تحول دون قيام دولة الإسلام العادلة القادرة على الجهاد الثاني ضد الاستعمار والاحتلال.. وعاد الإسلام “غريباً كما بدأ غريباً”، وصار المسلمون الحقيقيون هم “القابضون على الجمر”، وانفجر الشعور بالاضطهاد الداخلي مضافاً إلى الظلم الخارجي.

أخي إن ذرفت عليّ الدموع وبلّلت قبري بها في خشوع

فأوقد لهم من رفاتي الشموع وسيروا بها نحو مجد تليد

هذه الكلمات قالها سيّد قطب، أحد أهم ملهمي الحركات الإسلامية، في زنزانته قبل إعدامه، وهو يرفض المساومة مع النظام في بلده ويتّهم المجتمع الساكت عن الظلم بل والبشريّة كلّها بأنها “جاهلية جديدة” أنظر مقدمة كتاب معالم في الطريق. أبيات ألهبت أجيالاً من الشباب المسلم، وصارت من كلاسيكيات الإنشاد الإسلامي المعاصر. ويندر ألا يتغنّى بها منشد من منشدي الثمانينات والتسعينات من القرن العشرين.

كلمات سيّد قطب المشحونة بالغضب على المجتمع، ولاسيما في كتابه المثير للجدل معالم في الطريق، ومسيرته التي رسمها بيده من ريشة الأدب والفنّ إلى حبل المشنقة، صارت منارة الجيل القرآني الجديد كما سمّاه، وقاموساً لكتّاب الأناشيد الجديدة. كما صارت تعابير الآيات المكيّة، أي التي نزلت في مرحلة الاضطهاد في مكّة حاضرة في النشيد وشخصيات النظام المكّي تُسقط على الأنظمة العربية المعاصرة: “تفجّري يا شعلة الغضب، تفجّري تبّت يداك أبا لهب

في عالم الإسلام السياسي، لم يعد هناك متسّع للحضرة والتوشيح والمدح، بل هي من ترّهات دوائر “الإسلام التقليدي”، أو الإسلام الصوفي، الذي يخدّر الجمهور ويحيد عن الصدام مع الحكومات أو يتحالف معها، ولم يتردد البعض عن إنشاد كلام منسوب لأحد شيوخ السلف يقول فيه مخاطباً أحد المتصوّفين ومستخفّاً بتفريغ النفس لدموع العبادة في زمن دماء الشهادة:

يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك بالعبادة تلعب

من كان يخضب خدّه بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضّب

وصار إنشاد “الإسلام الحركي” ينفكّ شيئاً فشيئاً عن سابقه، متجهاً إلى الأغنية القصيرة، ومساوماً على جودة الأداء ومن ثمّ اللحن، ومركّزاً على مضمون كلامي غاضب حزين، من ندب أحوال المسلمين، ووصف عذابات السجون، والدعوة لثورة محفوفة بالموت الشجاع والتضحيات الجسام على “الجاهليّة الجديدة”، ثورة لا تبقي من مفاهيم الجيل القديم، جيل النكبة والركون للاستبداد، ولا تذر:

“ماضٍ وأعرف ما دربي وما هدفي، والموت يرقص لي في كلّ منعطف”، “لست أرضى الجاهلية”، “غرباء ولغير الله لا نحني الجباه”، “أماه لا تبكي عليّ”، “السجن جنّات ونار”، “يا أيها الإنسان هل تبكي لما أبكاني”، وتجول على أحوال المسلمين في سائر أقطار بؤسهم، من نكبة فلسطين ومذبحة ساراييفو، إلى معارك أفغانستان ومجازر حماة، وتتغنّى بالطوباوية الرومنسية لفكرة الدولة الإسلامية التي ستملأ الأرض عدلاً بعدما عاث فيها الظلم فساداً: “النور الرجاء البسمة الضياء، نشيدنا نار على الطغاة”.

وعلى هذا كانت الموجة الأولى من الأناشيد الإسلامية المعاصرة، قبل أن تهبّ الموجة الثانية مع مرحلة أكثر قمعاً ودموية وردات فعل، وتنظيمات مقاتلة أكثر تشدّداً وعنفاً، مثل القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية، حيث حافظ النشيد على تدهور مستواه الفنّي، فيما تبدّدت الرومنسية السوداء وتمدّد محلّها العنف والقتال وصليل الصوارم.