الرد الأمريكي | بوب ديلان والتمرد على التمرد

هذا هو المقال السادس ضمن سلسلة تاريخ الروك.

خلال تشكل الروك عام ١٩٥٣ صدر الفيلم الشهير The Wild One من بطولة مارلُن براندو Marlon Brando. عرف الفيلم بمشهدٍ أيقوني تسأل فيه فتاةٌ براندو: “علام تثور؟” ويجيب هو: “ماذا لديك؟”. ارتبط هذا الفيلم بالروك، وبمفهوم المراهقة الذي أخذ بالاتضاح والارتباط بفكرة التمرد بدءاً من الولايات المتحدة ثم باق العالم. لذا عندما بدأ الجيل الأول من سميعة الروك بمغادرة المراهقة نحو العشرينات من عمرهم، حافظوا على ميولهم التمردية لكن شعروا بأن عليهم العثور على وسط أكثر جدية للتعبير عنها. أسفر هذا الميل عن انتعاش الموسقى الأمريكية الفولكلورية مع إضافة نزعة احتجاجية اجتماعية أكثر منها سياسية خوفاً من المكارثية التي ربطت أي احتجاج سياسي بالشيوعية. عرفت هذه الموجة الجديدة اختصاراً بالفولك.

أصبح حي جرينيتش فيليج Greenwich Village في نيويورك عاصمةً لحركة الفولك، بشعراء وموسيقيين ورسامين أسسوا مجتمعاً بوهيمياً صغيراً في المنطقة التي كانت آنذاك مقبولة التكلفة. موسيقياً، كان وودي جٌثري الاسم الأبرز في هذا المجتمع، تلتف حوله حلقة من المتأثرين مثل الثلاثي بيتر بول وماري، المغنية جون باييز، وكاتب الأغاني الفتي الذي وصل نيويورك أول الستينات قبل بلوغه العشرين عاماً، بوب ديلان.

ديلان يطرق على أبواب جديدة للروك

بدأ ديلان ككاتبٍ للأغاني، ملتزماً بالكثير من معايير الفولك التقليدية وصيغته الاحتجاجية المباشرة وروحه الجماعية، وبرع بذلك بشكلٍ ملفت. كانت أغانيه الأولى تبلغ الشهرة خلال أداء زملائه لها، كأغنية Blowin in The Wind التي غناها الثلاثي بيتر بول وماري، أما ألبوماته المبكرة الصادرة في أول الستينات فمرت بريئةً من انتباه النقاد والمستمعين، وإن تمت العودة إليها لاحقاً وتتويجها ككلاسيكيات. لكن ديلان مل سريعاً من الفولك كما وجده، وبدأ بالتمرد، حتى على التمرد ذاته.

في البداية عمل ديلان على زيادة جدية كلمات أغانيه متأثراً بشعراء منهم ديلان توماس Dylan Thomas، الذي أخذ منه ديلان اسمه الفني الأخير، ثم اكتشف أن استخدام ضمير الـ نحن بشكل كثيف سيعيق حرياته الأدبية فاستبدله بالـ أنا، وأخيراً لاحظ أن طول الأغنية الرائجة الذي بلغ متوسطه من دقيقتين لدقيقتين ونصف لم يكن كافياً لإنجاز الكثير على صعيد كلمات الأغنية، فأخذت أغانيه تتجاوز الست ثم العشر دقائق. بدأت زيادة طول الأغاني لأجل الكلمات، لكن ديلان لاحظ ما تفتحه الأغان الطويلة من مجال واسع للتجريب على صعد بنية الأغنية والتوزيع والعزف المنفرد، واستثمر كل ذلك بحماس.

رغم أن شهرة ديلان خلال نصف الستينات الأول كانت محدودةً بجرينتش فيليج وقاعدة جماهير أقل من متواضعة، انبهر البيتلز، رواد الغزو البريطاني، بأعماله منذ البداية. كان جون لِنُن أول جمهور ديلان في الفرقة، وقدمه لسائر الأعضاء فاعتبراه بول مكارتني ورينجوستار مثلهم الأعلى وبطلهم الموسيقي في الستينات. زار البيتلز ديلان في ١٩٦٤ حين كانت شهرته كمغنٍ على وشك الانفجار في الولايات المتحدة وبريطانيا بغرض الاطلاع عن قرب على رؤيته الموسيقية وأخذ رأيه بأعمالهم. أسفر هذا اللقاء، إلى جانب عوامل أخرى من بينها تقديم ديلان البيتلز للمخدرات والحشيش، لانتقال البيتلز من كتابة وأداء أغاني الحب الساذجة كفرقة تجارية تكرر أسلوبها الرائج، إلى تأليف أغانٍ وألبومات جدية كانت السبب في تحول البيتلز إلى الأسطورة التي أصبحوها اليوم.

أصدر ديلان في ١٩٦٥ ألبومي Bringing It All Back Home و Highway 61 Revisited الأيقونيين، ثم أصدر Blonde on Blonde العام التالي، متمّاً انشقاقه عن الفولك الريفي، وتحوله إلى كاتب أغانٍ قادر على كشف جوانب جدية جديدة من الروك.

الرد الأمريكي وولادة روك جديد

رغم بلوغه ذروة النجاح التجاري بدءاً من منتصف الستينات، لم يمتلك ديلان جمهوراً بحجم جمهور البيتلز أو إلفيس أو سيناترا، مع ذلك ضم جمهوره معظم موسيقيي العصر، ما منح أعماله وأسلوبه قوة التأثير، وأصبح السؤال الذي يطرحه العديد من الموسيقيين في الستينات ليس: كيف نكتب أغنية جيدة؟ بل: كيف نكتب أغنية على طريقة ديلان؟ شمل تأثير ديلان فرقتين أمريكيتين شديدتي الأهمية على وجهٍ خاص، هما ذ بردز الذين حققوا نجاحاً كبيراً خلال إعادة تسجيل أغنيته Mr. Tambourine Man، وذ بيتش بويز، الذين كانوا المنافس الحقيقي الوحيد للبيتلز في النصف الثاني من الستينات. تأثرت الفرقتان على وجه الخصوص بثورات ديلان على صعيد التوزيع التي فتحت مجالاً لعدد لا نهائي من الآلات والأصوات، وطابعه الهلوسي الذي اقترن بجودة تسجيلية وبنى أغنية غير تقليدية.

بهذا قام الرد الأمريكي على محورين، الأول هو ظهور فرق أمريكية جمعت بين التجديد والتأثر بديلان ماثلت نظيراتها البريطانية في تمكنها، والآخر هو تأثر الفرق البريطانية نفسها بديلان وبالتالي ظهور أسلوبٍ أمريكي في موسيقاهم، من البيتلز إلى نجوم الجيل الهلوسي والاستعراضي اللاحق كـ سِد بارِت Syd Barrett ودايفِد بووي David Bowie. الأمر لم يكن إبداعياً فقط، بل ظهرت شركات التسجيل الأمريكية ذات القدرات المالية، وبالتالي الفنية، لتلعب دور البنية التحتية الرئيسية للروك، مستدرجةً أكثرية فناني الغزو البريطاني للتعاقد معها، الأمر الذي ضمن عودة الولايات المتحدة السريعة للعبة الروك بعد أن حاولت منذ سنوات القضاء عليه.

على هذا الأساس، لم يكن الغزو البريطاني والرد الأمريكي حركتان مستقلتان بالفعل، بل تبادلتا التأثير بالروك وببعضهما البعض، قبل أن تندمجا بنسخة جديدة أكثر جديةً وطموحاً للروك أصبحت خلال وقتٍ قصير الصنف الموسيقي الأكثر رواجاً في الولايات المتحدة وكندا وبريطانيا، منتزعةً الصدارة من البوب الرائج الميَّال للجاز. أدى هذا الصعود لحماس العديد من الشباب والمراهقين للروك لكن ليس درجة كافية لاحترافه، فبدأوا بتشكيل فرق هواة تجتمع بكراج منزل أحد أعضائها لتأدية بعض الأغاني الشهيرة، وتأليف أغانٍ خاصة بها أحياناً. عرفت موسيقى هذه الفرق بروك الكراجات  Garage Rock، وكانت العادة أن تحقق فرقة من كل بضعة فرق نجاحاً تجارياً يبدأ وينتهي بأغنية قوية واحدة، باستثناء حالات نادرة تمكنت فرق من الانتقال إلى الاحتراف والحفاظ على مستوىً ثابت من النجاح والجماهيرية.

قرر مؤسس تسجيلات إلِكترا، جاك هولزمان Jac Holzman، والمنتج ليني كاي Lenny Kaye توثيق هذه الظاهرة بجولة حول الولايات المتحدة لتسجيل أفضل أغاني الغراج روك وتقديمها في مجموعة عرفت بـ Nuggets، ضمت حوالي ١٢٠ أغنية سجلت بين ١٩٦٤-١٩٦٨. تمنحنا أغاني هذه المجموعة نظرةً مبكرة على أصول البانك، وأحياناً الموسيقى الهلوسية في ثقافاتها الفرعية التي نمت بعيداً عن معايير النجاح التجاري والبث الإذاعي للروك. من أشهر أغاني المجموعة هي لوي لوي لفرقة ذ كينغزمين. حققت الأغنية نجاحاً تجارياً هائلاً وأثارت جدلاً بسبب كلماتها الهلوسية غير المفهومة وجودتها التسجيلية الغريبة، ما تسبب بفتح تحقيق من قبل مكتب التحقيقات الفيدرالي FBI هدفه الاستماع للأغنية بأدوات وأجهزة تقنية متقدمة للقول بما إذا كانت هناك شتائم وألفاظ بذيئة مسجلة بترددات منخفضة. كانت نتيجة التحقيق أن الإف بي آي لم يتمكنوا حقاً من القطع بهذا الشأن.

الروك مستعداً لاختباره الأول

تزامن تحول الروك للصنف الموسيقي الأكثر رواجاً مع تشكل الثقافة المضادة Counter Culture من استيقاظ واندماج عدة ثقافات فرعية وهلوسية وهيبية بدءاً من عام ١٩٦٧، ثم اندلاع حركات الاحتجاج الطلابية ضد التأسيسية Anti-Establishment في ذات العام، ووقوع اختيار الاثنين على الروك كممثلهما ووسطهما الفني الرئيسي. وجد الروك نفسه بالتالي في مواجهة أول اختبارٍ عملي له كصنف موسيقي متماسك جاد من المتوقع منه أن يوثق مرحلة بل ويساهم بتشكيلها، ولم يكن بالإمكان القول أن الروك لم يكن مستعداً.