الروك منتشياً | الستينات الجامحة تفضل الصخب

هذا هو المقال السابع ضمن سلسلة تاريخ الروك.

في ليلة متأخرة في المختبر، أنهى الكيميائي السويسري ألبرت هوفمان تجاربه الساعية للتوصل إلى دواء يشفي الصداع النصفي. تقول القصة إن هوفمان لم يتناول أياً من هذا المركب الذي عمل عليه، لكن تسرب بعضه إلى مجاريه الدموية من خلال البشرة. في نهاية الليلة علَّق هوفمان سترته المخبرية بجانب الباب، سحب دراجته الهوائية وخرج من المختبر باتجاه منزله. لاحظ مساعده غرابة سلوكه فقرر تتبعه إلى الخارج للتأكد من أن كل شيءعلى ما يرام.

في اليوم التالي عاد هوفمان للمخبر ولم يكد ير مساعده حتى أخبره بأن أغرب شيءٍ في العالم قد حدث معه الليلة الماضية، إذ أنه ما إن انطلق على دراجته الهوائية حتَّى بات الأفق يتماوج بشكلٍ مريب وكأنه أمواج هائلة من الألوان المبهرة، بينما كان يقود بسرعة بطيئة جداً مبهوراً بالمنظر ومنقاداً نحو هذا الأفق العجائبي. ازداد مساعد هوفمان قلقاً عندما سمعه يتحدث عن القيادة ببطءٍ شديد، إذ أنه رآه اليوم الماضي ينطلق على دراجته بسرعة هائلة وخطيرة.

كان هذا المركب هو مخدر الـ LSD، الذي اعتبر عقاراً قانونياً في معظم أنحاء العالم، بما في ذلك الولايات المتحدة، حتى الستينات، إلا أن آثاره حتى وقتٍ قريبٍ من منعه لم تكن معروفةً سوى للعاملين في المجالات الطبية والعسكرية. استخدم الجيش الأمريكي العقار على الجواسيس الروس لانتزاع المعلومات منهم، واستخدم في المصحات للمساعدة على التعافي من إدمان الكحول. بين هذا وذاك بدأت شريحة من المجتمع، خصوصاً الأطباء، باستخدامه لغرض آخر، فبعد يومٍ شاقٍ من العمل، كانوا يأخذون حبة LSD ويذهبون في رحلة Trip.

بين وسط ونهاية الستينات بدأ هذا العقار بالانتشار بين الفنانين، وخصوصاً الموسيقيين، الذين بالغوا في وصف أثره الكيميائي على أنه تجربة روحانية تزيل الجدران المجتمعية التي تقمع طبيعة الفرد وتفتح أبواب الإدراك. من البديهي أنه مع اعتقاد مماثل أراد العديد من الفنانون استثمار تلك التجربة في أعمالهم، سواءً عبر الإبداع تحت تأثير المخدر أو استلهام ما يتم تذكره من الرحلة في عمل فني أو ببساطة محاولة خلق عمل إبداعي يحاكي الرحلة وينسجم معها.

الثقافات الفرعية في سان فرانسيسكو ولندن

في وسط الستينات بدأت الثقافة الهيبية التي كانت متمركزة في غرينتش فيليج في نيويورك وسان فرانسيسكو في كاليفورنيا بالتحول من أسلوب حياة جماعات بوهيمية صغيرة إلى ثقافة مضادة واسعة النطاق برزت بشكل واضح في فرانسيسكو بالذات، نادت هذه الثقافة بثورات فنية وإبداعية وأخرى موازية على صعيد الحريات الشخصية والإبداعية، وركزت على مفاهيم الحب والسلام والتآخي الإنساني مقابل الحرب والعنف والتعصب. انتشر الـ LSD بهذا السياق بين الهيبيين وارتبط مفهوم الرحلة بمفاهيم الثقافة المضادة فنياً واجتماعياً، فظهرت عدة فرق تعزف تحت تأثير المخدر، وتحول أغانٍ عادية من تأليفها أو تأليف فنانين آخرين لنسخ ارتجالية حرة مطولة Free Form Performances تركز بشكل أساسي على مقاطع العزف المنفرد لتترجم نشوة المخدر موسيقياً، كما في حالة ذ جريتفل دِد The Grateful Dead. أو أغانٍ ذات طابع هلوسي بشكل عام كأغنية White Rabbit لفرقة جيفرسن آيربلاين التي تستخدم بنية تصاعدية تصل لذروة صوتية في نهايتها تحاكي أثر الانتشاء الكيماوي، وتأخذ كلماتها سياقاً هلوسياً يتلاعب بقصة آلِس في بلاد العجائب في إشارة إلى أن بلاد العجائب هي أي مكان تحت تأثير المخدرات. أو أغانٍ تؤدي دور موسيقى مرافقة لرحلة المخدر كما تفعل الموسيقى التصويرية مع الأفلام، ومثالاً على ذلك فرقة Country Joe and The Fish في ألبومها Electric Music for the Mind and Body.

كان الروك النوع الموسيقي الأول من حيث التأثر بالعالم الهلوسي، إلا أن البلوز انضم أيضاً في أماكن تحول فيها لبلوز هلوسي وأخرى اندمج فيها بالروك ليقدم بلوز روك هلوسي. أفضل مثال على الحالة الأولى كانت بعض الأداءات الحية لأوتِس رِدينج كأدائه لأغنية Can’t Get No Satisfaction لفرقة الرولينج ستونز، رغم أنه اشتهر حينها بأغاني إيقاع وبلوز وسول تقليدية ممتازة واكبت روح الفترة دون أن تضطر لفرض المظهر الهلوسي عليها، مثل Sittin’ on The Dock of The Bay. تمكن أيضاً فنانون مثل جانِس جوبلِن من الجمع بين الروك والبلوز والطابع الهلوسي، كما في أغنيتها Half Moon.

لكن كل ما سبق ذكره كان ثقافة فرعية مقتصرة على فرانسيسكو، تسرب أثرها لباق الولايات المتحدة بشكل ضئيل حتى اقتراب الستينات من نهاياتها وانتشار الثقافة المضادة السريع في كافة البلاد، ثم نهايتها الأكثر سرعةً مع العام الأول من السبعينات. رغم غياب التأثر المباشر شهدت العاصمة البريطانية لندن ثقافة فرعية، نصف سرية، مشابهة في ذات الحقبة. مثل فرانسيسكو، ظهرت في لندن أيضاً موسيقى هلوسية في فرق صغيرة بدأت في الثقافة الفرعية مثل Traffic وVan Morrison أو فرق كبيرة تأثرت بهذا التوجه مثل البيتلز والرولينج ستونز من إنكلترا وليس لندن بالذات، أو فرق كانت موجودة في حالة مذبذبة خلال تلك الفترة بسبب تبدل أعضائها مثل بينك فلويد الذي كان سِد بارِت أحد أعضائها حتى تدهورت حالته العقلية ربما بسبب إدمانه المخدرات، ثم حل محله دايفيد غيلمور.

آخر الثقافات الفرعية الهيبية / هلوسية التي تستحق الذكر كانت تجري في لوس آنجيليس القريبة جغرافياً من فرانسيسكو، وربما لم نذكر هذا المشهد الصغير في آنجيليس لولا وجود فرقة ذ دورز وأثرها الهام جداً في الموسيقى الهلوسية، ففي الوقت الذي كانت فيه معظم الأعمال الهلوسية مشرقة وسعيدة تعبر أبواب الإدراك وتكتشف المحبة والإيخاء، كشفت ذ دورز عن أن العالم الهلوسي له جحيمه كما له نعيمه. كتب جِم موريسون، العضو الرئيسي والمغني في الفرقة، بعض أكثر أغاني الروك ظلمةً وسوداويةً تلك الفترة، أشهرها ذ إند التي افتتح فرانسيس فورد كوبولا Francis Ford Copolla فيها وقفل فيلمه الأكثر سوداويةً من الستينات Apocalypse Now. تخوض الأغنية في عقدة أوديب عن شخص يقتل أباه ويغتصب أمه ويمضي في رحلة هلوسية عبر باص أزرق وهمي إلى أماكن بعد أكثر ظلمةً.

الثقافة المضادة والكمالية الهيبية

مع اقتراب الستينات من نهايتها وتحول الثقافات الفرعية إلى ثقافة مضادة واسعة الانتشار في الولايات المتحدة وغرب أوروبا، أقرت هذه الثقافة بالأهمية الجوهرية التي لعبها الروك، سواءً في نشرها أو التعبير عنها، وساءها التوجه السائد حين ذاك نحو إنتاج موسيقى تطيع مزاج الجمهور في مرحلة صدورها لتنجح تجارياً خلال فترة قصيرة ثم تندثر. لذا ظهر توجه يتوقع من الروك أن يكون أكثر جديةً وتقدميةً، قادراً على تجاوز النجاح التجاري قصير المدى إلى الخلود اعتماداً على ثقله الفني، كما خلدت الموسيقى الكلاسيكية الأوروبية أو بعض موسيقى الجاز الجادة. فبدأ موسيقيو الروك بأخذ أعمالهم على محمل الجد أكثر من اي وقتٍ سابق، وأدى طغيان الصورة العامة لما هو جاد فنياً في تلك الفترة وذلك المكان من العالم لظهور معايير وخصائص وجماليات مشتركة عرفت لاحقاً بالجماليات الهيبية Hippie Aesthetics، والتي سنشير لها بالكمالية الهيبية لأن الكمال والجدية الفنية كانا هدفي هذا التوجه.

بدأ التوجه الكمالي من كلمات الأغاني نظراً لكون بوب ديلان قد أطلق هذا التوجه بالفعل منذ منتصف الستينات، لهذا رأينا أغاني الروك تأخذ سمة احتجاجية بشكل أوسع، كقيادة الروك لحركة الحقوق المدنية والاحتجاج على حرب الفيتنام. وأغانٍ تميل لمناقشة مواضيع أعمق ذات مضامين سياسية أو اجتماعية أو فلسفية، حتى تعاملها مع المواضيع العاطفية بات أكثر تعقيداً ورقياً، فظهرت أغانٍ تناقش حاجة الناس للحب والعلاقات العاطفية كملاذ من الحياة المادية التي انتقدها الهيبيون بعنف، كأغنية Somebody to Love لجِفرسن آيربلاين أو With a Little Help from My Friends للبيتلز، أو أغاني حب كلاسيكية ذات ميل فكري فلسفي بدلاً من الميل الحسي أو الكاريزماتي الذي ساد على الأغنية الرائجة، كأغنيتي She Belongs to Me وLove Minus Zero / No Limit لبوب ديلان.

إلى جانب العمل على كلمات الأغاني ظهر توجه للاعتناء بالإنتاج والتوزيع الموسيقي، أبرز رواده بريان ويلسون المؤلف والكاتب والمغني في فرقة ذ بيش بويز، والذي دفعه خوفه من الطيران للامتناع عن مصاحبة الفرقة في جولات الحفلات والاعتصام في الاستوديو لفترات طويلة يجرب ويستكشف فيها كل التأثيرات والتنويعات الصوتية التي يمكن اشتقاقها من كل آلة، ذلك بمساعدة فرقة الاستوديو المساندة الأيقونية في ذلك العصر The Wrecking Crew، وظهرت نتائج كل ذلك بألبوم Pet Sounds الذي رفع الفرقة لرتبة المنافس الندي الوحيد للبيتلز في الستينات.

أثبت البيتلز بدورهم موهبة استثنائية عندما واكبوا كل التغيرات بشكل آني، وتمكنوا من التحول لطرف بارز على رأس كل حركة موسيقية هددت للحظة بالانقلاب عليهم وتحويلهم لفرقة جيدة من الجيل الماضي. من بين إنجازاتهم الكبيرة ريادتهم للأعمال السياقية Concept Albums القائمة على فكرة أن العمل الفني الجدي لا يركز على أغانٍ منفردة قادرة على الرواج تجارياً Commercial Hits، بل يكون متكاملاً وذو أهمية فنية واحدة عالية من أوله لآخره. الأمر الذي حوّل الألبوم من كونه مجرد اسم لمجموعة أغانٍ لا علاقة لها ببعضها، إلى عملي فني مترابط. يقول المؤرخون إن Sgt. Pepper’s Lonely Hearts Club Band هو أول ألبوم سياقي على الإطلاق كتاب What's That Sound؟ لمؤرخ الروك John Covach، حيث تنتحل البيتلز هوية فرقة وهمية تحمل اسم الألبوم، وتروي الأغنية الافتتاحية قصة صعود الفرقة الوهمية على المنصة وتعريفها عن نفسها وتعلن بدء حفلٍ من المفروض أن تكون أغانيه باق أغان الألبوم، حتى الأغنية الأخيرة التي تعلن فيها الفرقة إنهاء الحفل وتوديع الجماهير.

إلى جانب ذلك، آمن الموسيقيون في ذلك الوقت بأن الجاز والموسيقى الكلاسيكية هما مثالين ممتازين على الموسيقى القادرة على الاستمرار زمنياً. فأصدرت ذ بيتلز أغنية A Day in The Life  التي جمعت الروك الهلوسي بالتوزيعة الكلاسيكية السيمفونية، وأصبحت إحدى أولى أغاني الروك السيمفوني على الإطلاق، وإحدى حتى الآن. قامت الأغنية على تداخل أغنيتين كتب لِنُن إحداهما ومكارتني الأخرى، وجرت النقلات بين الأغنيتين وبين توليفة الروك والتوليفة الأوركسترالية في مناخ هلوسي متصاعد، استمر بالاحتداد حتى نهاية سيمفونية مزدحمة صوتياً تنتهي بكورد بيانو يتردد صداه لعدة ثوانٍ، هو أحد أشهر كوردات البيانو في تاريخ الروك.

مجال آخر حاول فيه الموسيقيون في تلك الفترة تحقيق المزيد من الكمالية كان التمكن المذهل من العزف على الآلات الموسيقية Virtuosity، سواءً من حيث تقنيات العزف أو براعته، أو القدرة على الارتجال أو التأثيرات الطبيعية والإلكترونية المضافة على الآلات الموسيقية. ظهر نجمان في العزف على الجيتار الكهربائي باعتباره آلة الروك الرئيسية، هما جيمي هِندريكس وإريك كلابتون. شكل كلٌ منهما في الستينات فرقته الخاصة، هيندريكس مع The Jimi Hendrix Experience وكلابتون مع Cream، وأصدرت كل من الفرقتين ثلاثة ألبومات بالتزامن، حيث كانت كريم تنشر ألبوماً وجيمي هيندريكس إكسبيرينس ترد عليها خلال أقل من عام؛ إلا أن هذه المنافسة بين عازفي الجيتار الأفضل في تاريخ الروك، والتي قدمت الكثير لهذه الموسيقى، انتهت عام ١٩٧٠ حيث انحلت كريم من جهة وتوفي هندركس من جهة أخرى، تاركين خلفهما أغانٍ كنسخة كريم من Crossroads لروبرت جونسون، أو ملحمة هندركس الجيتارية المذهلة Voodoo Child (Slight Return).

أبرز ما أضافته الستينات للروك هو توحيد الحركات التي سبقتها من الغزو البريطاني والرد الأمريكي والروك الخمسيني في صنف موسيقي جديد واسع وشديد المرونة، هو الروك الهلوسي. ضمن هذا الصنف سعى الروك للمزيد من الجدية والقدرة على الخلود، وإلى حدٍ بعيد فقد نجح في ذلك، والأهم أنه بلغ من التبلور والتماسك كصنف موسيقي مستقل ما مكنه من التهام وهضم وإعادة إنتاج العديد من الأصناف والحركات الموسيقية الأخرى للتطور على حسابها، وهذا ما كان على وشك الحدوث خلال النصف الأول من السبعينات.