سماع متأن لمقطوعتين وأغنية

يأتي السمع بالتربية والمران والممارسة، تتعاظم المهارة بالتمرين وبتلوين الذوق وتنويع الخبرة وتعميقها، هكذا نرى الأشياء أكثر وضوحاً وأشد نصاعة. تتقابل الأشياء وتتشابه وتتناقض فتصبح يوماً بعد يوم سهلة التمييز، يأتي الحذق في السمع بمعاودة سماع الموسيقى العظيمة، مرة بعد مرة، بتلذذ وحس نقدي، بالتنبه لمواطن الدهشة والجِدَّة واللذة. سماع الموسيقى ليس تقضية للوقت ولا خلفية لصمتٍ مملٍ عابر كالحادث في مصعدٍ أو قتلاً لانتظار على خط هاتف. السمع لا يكون لموسيقى خلفية.

يبدأ السمع من يريد أن يسمع، ويعي السمع. أي أنه يبدأ بالسميع، ويسمو بالخبرات والمعارف الموسيقية والمعهود من مقام وسير ونغمات وإيقاعات ومواطن الجدة واللذة، ثم يتعدى ذلك إلى خبرة مكتسبة من مجتمع الموسيقيين والعازفين والتسجيلات والسميعة الآخرين الذين نحتك بهم ونشاهدهم ونراقبهم، ويغنيه المعرفة العملية وإحاطتنا بالتقنية المستخدمة وتطورها وحيثيات كثيرة تتكاثر بمزيد من السمع والتمعن والتداول.

في هذا المقال سنسمع ثلاث تسجيلات:

تقاسيم حجاز | سامي الشوا

هذه تقاسيم مرسلة لا يحكمها إيقاع واضح تتقسم عليه الجمل في الطول لتبدأ وتنتهي و تكبر وتصغر بناء على وحدة قياس زمني. ربما نسمع إيقاعاً، لكنه حر تحكمه تفعيلة. هذه التفعيلة، تأتي من اللغة التي يعزفها سامي الشوّا وهي لغة عربية بلهجة مصرية، نسمع الجملة المعزوفة منذ البداية تقول: فاعلاتن، تنتهي عند الثانية ٧، تليها مفا .. مفاعي .. لن، تقف عند الثانية ١٣، ثم متفاعلن تنتهي عند الثانية ١٥ وهكذا حتى نهاية التسجيل لنلاحظ الفواصل بين الأنماط التي يخترعها، و قد وضعت النقاط للتنبه لها.

هناك عود يصاحب عزفه في نغمة متواصلة كخلفية منذ الثواني الأولى نتناساها على الفور، في ذات الوقت، لو انتبهنا، لسمعنا حركة القوس ونزول الأصابع وقوة وخفة الضغط والحركة والتعبير، ورأينا القوس ينسحب نازلاً أو صاعداً، مسرعاً أو متوقفاً. لو أصغينا لسمعنا متى يبح الصوت ويضعف ويقوى، ننسى أن هناك عازفاً، فنسمع في الموسيقى سؤالاً، واستفساراً وجواباً غير مُقنعاً، ثم جواباً أكثر إقناعاً، نسمع تفصيلاً وتقطيعاً للمعاني، وتقطيعاً للأفكار على مستوى التفاعيل وعلى مستوى القطعة ككل.

تنقسم التقاسيم هنا على المستوى الكلي إلى ثلاثة أقسام كبيرة؛ القسم الأول منذ بداية التسجيل حتى الثانية ٢٨. هذه هي المقدمة التي تخبرتنا عمّا سيكون في بقية التسجيل وما هي طبيعة الأجواء المتوقعة. من الثانية ٢٩ وحتى الدقيقة ١ و٣٢ في المتن، يبدأ سرد القصة التي يريد أن يخبرنا إياها الشوا، هنا يقول لنا سامي، بدءً من الثانية ٢٩، أنه بالنسبة للأمر كذا، فهو كذلك، بالنسبة لكذا، فهو هكذا، ويستمر في الشرح والتفصيل والتصنيف حتى نصل لتفاصيل دقيقة وتقطيعات وصمت وتنويع وفصل بين هذا وذاك بتدرج درامي، لنتهيأ للانتهاء من النقاش منذ الدقيقة ١ و٢٠، ثم تأتي القفلة منذ الدقيقة ١ و٢٩ ثانية ونختم عند دقيقة و٣٢ ثانية. هذه الحكاية خاتمتها تبدأ منذ الدقيقة ١ و٣٦ ثانية، ويستمر التقطيع بنفس المنطق، ولكن، نمعن في السير المقامي والتطور في الفكرة والتطور الدرامي لنصل إلى الذروة تدريجياً، نتهيأ للختام والتلخيص منذ الدقيقة ١ و٥٤ ثانية ونلخص المعاناة مجدداً ونقفل عند الدقيقة ٢ و٢٩ ثانية، ونقفل الموضوع قفلة أخرى أخيرة محكمة بعدها مباشرة حتى الدقيقة ٢ و٣٨ ثانية.

ها هي حكاية انتهت، فيها فكرة منذ البداية، وفيها جماليات ومكنة معرفية وتقنية وابتكار غنيّ يجعلك تستعيد لتسمع من جديد كأنك تسمع هذه التقاسيم لأول مرة.

ليه تلاوعيني | أم كلثوم

في موسيقانا الشرقية، تُدحرجُ الدواليب على قصرها، المطرب الكبير، متسلطناً في هوّة المقام، وتضعه على السكة تماماً في واحدة كلمحِ بالبصر، في دولاب القصبجي، من الرست، في أغنية ليه تلاوعيني لعبة مدهشة خاطفة، الدولاب مكون من ثلاث جمل وقفلة السِّكة، العجيب هنا أن القصبجي يرتب هذه الجمل بعدد الضربات الافتتاحية، ١… ٢… ٣، ويرتب كل جملة ترتيبًا نغمياً في نفس الوقت.

طول الدولاب ١٥ ثانية فقط، تبدأ الجملة الأولى بضربة واحدةعلى الصول، تُواصل حتى الثانية ٥، ثم تبدأ الجملة الثانية بـ ضربتين من الفا وتنتهي عند الثانية ٩، ثم تبدأ الثالثة بـ ثلاث ضربات من المي و تكون في غاية الانفعال الدرامي هابطة إلى قرار الصول الأول عند الثانية ١٣ وترتد من المي إلى مستقر الرست، عند الثانية ١٥ بشكل هابط، قفلة، وهو ما يجب أن يقفل عليه الرست في السيرة التقليدية وهكذا استقرت أم كلثوم لتغني، ليه تلاوعيني.

لو جردنا الدولاب تجريدًا شاملًا، سيكون في الإيقاع ١ ٢ ٣ ٤، صول في ١، فا في ٢، مي ري معًا في ٣، ودو ٤، و الدو مستقر الرست.

قد تبدو الدواليب هامشية، لكنها لا تقل حنكة وحكمة وأهمية في الموسيقى عن غيرها، أعيدوا سمع هذا الدولاب الضئيل منصتين للعزف والتطريب المُركَّز والهيئة الهندسية والمنطقية المحكية في جو من الهتروفونية هتروفوني: سطور لحنية منفصلة لكن تعزف في نفس الآن وتمكن كافة أعضاء التخت وبراعتهم.

سماعي نهاوند | جميل مسعود الطنبوري

يعتمد السماعي القالب في المحل الأول، لكن الموضوع أبعد من ذلك بكثير، فهنا، نستخدم إيقاع السماعي ذي العشر نبضات، ويمكن وضعه في وزن: مستفْ علن فاعلن، و قالب السماعي يفصل على قالب كالتالي: خانة وتسليم، مكون من خانات ثلاث في إيقاع السماعي، والخانة الرابعة تتبدل لتكون في إيقاع مخالف عادة ما تختم بالتسليم، قد تتكرر، والتسليم قد يتكرر حين يحين دوره، وتكون الخانة الرابعة ذروة العمل فتحلق بالسامع لتختم في النهاية أو ترجع مُسلمة نفسها للتسليم.

سماعي مسعود جميل الطنبوري، النهاوند مسبوك بطريقة محكمة تكفي لنعتبر مسعود جميل مؤلفاً جديراً بالاهتمام حتى لو افترضنا أنه لم يؤلف غيره. هذا التسجيل من عزف ثلاثة من كبار العازفين في تركيا، على طنبور القوس (اليايلي طنبور) إرجومنت باتاناي، وعلى القانون خليل كارادومان وعلى العود إرغن كيزيلاي. تتناوب في التسجيل براعات العازفين الثلاثة في شكل هتروفوني، وتجد العازف ينطلق وينفرد ويعود إلى السرب، والسرب يعجبك كل الطير فيه وهو يتقلب ويتفنن في التحليق منفرداً في المجموعة المتماسكة.

قبل الشروع في السماعي، يدخل طنبور القوس بتقاسيم من روح السماعي، الآتي كالقدر بعد قليل، يبدأ السماعي بالخانة الأولى مع الثانية ٥٧، الخانة الأولى تنتهي عند الدقيقة ١ و٢٣ ثانية، يلي الخانة الأولى تسليم، يبدأ من الدقيقة ١ و٢٥ ثانية، ينتهي في الدقيقة ١ والثانية ٥٤، تليها الخانة الثانية، من الدقيقة ١ و٥٥ ثانية، حتى ٢ و٢٣ منتهية بجسر يربطنا بالتسليم، التسليم يأتي مجدداً، بنكهة مختلفة الآن وبمعنى أعمق، لينتهِ عند الدقيقة ٢ و٥٣، يلي ذلك الخانة الثالثة، التي تبدأ بانتهاء التسليم وتنتهي عند ٣ و٢٣، يبدأ التسليم مجدداً، وينتهي عند ٣ و٥٢.

نصل خانة الذروة، الإيقاع ليس سماعياً ثقيلًا، بل هو سنكين ذي سبع نبضات، لكننا نسرع وتتسارع الدراما والانفعال حتى نتوقف في الدقيقة ٤ و٥٨ ثانية. ثم يعود التسليم على إيقاع السماعي، ها هو يعاود بطيئًا وينتهي في الدقيقة ٥ و ٢٨، تعِيده المجموعة بسرعة وحركة ليختتم ببطءٍ مجدداً في ٦ وثانيتين وكان اختتام هذا السماعي.

لنسمع مجدداً ما يحدث وننصت جيدًا.

من بداية التسجيل دخل طنبور القوس مسترسلاً بنكهة من التسليم ثم بدأ السماعي بالخانة الأولى، الخانة الأولى تنسج خيوط الحكاية الأولية، لاحظوا، تفصيل الحكي، في جمل مقطعة، فكرة فكرة، تفصلها مواضع الصمت التي تعبر عن الفواصل والنقاط وعلامات الاستفهام وأخذ نفس ومواصلة الشرح والتفصيل والتعبير، لاحظوا تفصيل الأفكار، جملة جملة، عبارة عبارة، كل شيء مقنع ومتدرج، حتى تنتهي الخانة الأولى.

في السماعي، السرد الحكائي، بعد كل فصل – خانة – من الحكاية، يأتي تأكيد لحقيقة ثابتة، كالحقيقة والنتيجة المُسلّمة في البرهان الرياضي، هي التسليم.

نسرد حكاية في الخانة الأولى، ونقول: لذلك، ها هي الحقيقة، التسليم، وهو مُفصّل بنفس النمط من الصمت والحركة والإقناع المتدرج وفي تناظر الجمل وتشابهها وتكرارها وطولها وقصرها. لكننا في الخانة الثانية، نبدأ بتدرج نحو الذروة في سير النهاوند، نصطدم بضعف وضياع من الدقيقة ٢ و٣ ثواني. أي شيئٍ إذًا حدث؟ نعاود التقاط أنفاسنا من جديد ونواصل في النهاوند إلى الذروة المنشودة، ينسى طنبور القوس نفسه محلقاً في الدقيقة ٢ و١٨، مرتلاً آيات النشوة باهتزاز متواصل، وتتركه المجموعة نازلة لختام الخانة الثانية، ثم يلتقطون التسليم جميعاً وتأتي الحقيقة مجدداً مقنعة بعد ما رأينا من حدث بعد حدث، عاد التسليم بنكهة أخرى مختلفة عليها أثر الأحداث في الخانة الثانية، يعزفها الكبار الذين لا يعودون يكررون أنفسهم، يطعمون العزف بجديد من التفسير والبراعات العزفية والتنويع، لنصغِ للقانون والطنبور والعود والإيقاع.

نحن في الخانة الثالثة، بَعُدنا كثيراً عن المكان الذي كنا فيه، يبدو أننا ضعنا، يبدو أننا سنواجه ما حدث قبل قليل بشكل أكثر مرارة وننتهي بقفلة قاسية وثقيلة ثم يلتقطنا التسليم، ما ألذه الآن وهو أكثر درامية وعليه دموع باردة مطمئنة للعودة للمكان الأولِ.

نصل الخانة الرابعة، ذروة السماعي وفي روح النهاوند، مسرعة تلخص ما جرى في إيقاع آخر، هذه الخانة حكمة مختصرة مما حدث وجرى، تلخص برقي وعلو وتجلّ المعنى الموسيقي من الحكاية كلها، تذكرنا بالعارض الطارئ الذي واجهناه أولاً، ثم بما قاسينا من مرارة في الخانة الثالثة وضياع، لتختتم بطعم الحقيقة، ها هو التسليم جاء مصدقًا لها، مخبرًا بالحكمة الخالصة مرة بعد مرة مبرهن عليها بما تقدمه من قناعات بنيت بعضها فوق بعض منذ البداية.