عربي قديم

الملّا عثمان الموصلي | البسْتكار وخياله

مي صبّاغ ۱۹/۰۵/۲۰۱۳

من الآثار القليلة التي وصلتنا من غناء الملّا عثمان الموصلي (١٨٥٤-١٩٢٣) قصيدة للخليفة الأمويّ يزيد بن معاوية يقول فيها:

“أقول لصحبٍ ضمّت الكأس شملهم /  وداعي صباباتِ الهوى يترنّمُ

خذوا بنصيبٍ من نعيمٍ ولذّةٍ / فكلٌ وإن طال المدى يتصرّمُ

ولا تتركوا يوم السرور إلى غدٍ، فإن غدًا يأتي بما ليس يُعلَمُ” (١)

قد تبدو دعوة الندماء للقبض على ملذّات الحياة المولّية قبل فواتها مبعث حيرةٍ وعجب للوهلة الأولى. فالملّا، كما نعرف من مصادر متعددة، كان شيخًا متصوّفًا على طرقَ قادريّة ورفاعيّة ومولويّة، بل إنّ الرّجل، الذي قد يخطر لنا واهمين أن نُلبِسَه صورة الضرير الزاهد في الدنيا، صرف حياةً كاملة في أذكارٍ ومناقبَ وأشغالٍ وتنزيلات. لكن لا يفوت العارفين بسيرة الموصلي أنّه كان حمّال أوجه وثقافات؛ إذ تنازعته طيلة حياته أمزجة وأهواء كثيرة.

فالموسيقيّ والشاعر الذي درس على يد كبار قرّاء المقام العراقي، مثل رحمة الله الشلتاغي وعبد الله الكركوكليّ، وأتقن علوم اللغة والدّين والتلاوة إلى جانب إتقانه للّغتين التركيّة والفارسيّة، كان، رغم نشأته الدينيّة، قادرًا على العبور برشاقة بين الدينيّ والدنيويّ؛ وفي ترحاله بين بغداد وإسطنبول والقاهرة ودمشق، أطرب مدنًا وطَرِبَ إليها، وحاور في مجالسه موسيقيين أتراك ومصريّين وشاميّين، صانعًا من حياته وموسيقاه درسًا في الكوزموبوليتيّة.

موشّح لي فؤاد حنّ من أداء فرقة التراث الموصلي، في مديح “أبي السبطين” علي بن أبي طالب.

الجامع، الدكان، المقهى

يعرف الأتراك الملّا عثمان حافظ عثمان أفندي الموصلي (Musullu Hafiz Osman Efendi). الحافظ لقب يعطى لحفظة القرآن، وقد يقترن اسمه أحيانًا بلقب المتصوّفين الأتراك Dede، ويعني: الجدّ. الموصلي الذي أقام في إسطنبول في زيارته الأولى بين عامي ١٨٨٧(؟) و١٨٩٥، نال لفخامة صوته وحسن تلاوته حظوة السلطان عبد الحميد، فعيّنه شيخ قراء جامع آيا صوفيا.

ويروي محمّد نظمي أوزالب في كتابه تاريخ الموسيقى التركيّة (٢٠٠٠) أنّ الجامع كان يمتلئ عن آخره بالمصلّين القادمين للاستماع إليه (٢). في إسطنبول، درس عثمان أفندي على يد أسماء كبيرة في الموسيقى الكلاسيكيّة والصوفية، مثل حسين فخر الدين وزكائي دده (٣). كما أعطى الملّا دروسًا في الموسيقى لكل من يرغب أمام الجامع الذي كان يتلو فيه القرآن. كما تحوّل دكّانه لبيع الكتب في محلة تشمبرلي طاش – القريبة من آيا صوفيا، إلى ملتقى لأهل الموسيقى والأدب، وحلّ هو  ضيفًا عزيزًا على مجالس إسطنبول الثقافيّة، كصالون الأديبة ليلى ساز (٤).

في مقهى (قراءة خانة) فوزية (Fevziye kiraathanesi)، أحيا الملّا الأماسي الرمضانيّة مع نخبة موسيقيّي المدينة، مثل عازف الكمان ممدوح، وعازف القانون شمسي باي، والمغني قراقاش أفندي. وظلّ المقهى العثمانيّ الشهير، حتى الحرب العالميّة الأولى، مساحة ثقافيّةً تردّد عليها شعراء ومسرحيون وموسيقيون من وزن الطنبوري جميل باي، والعوّاد نورس، ورؤوف يقطا، وعازف الكمان الأرمنيّ تاتيوسس أفندي إسكرجيان واليوناني فاسيلاكي، وغيرهم من موسيقيي الأقليّات التي كانت تمسك بمقاليد صناعة الترفيه الموسيقيّ في إسطنبول.

في زيارةٍ لاحقة، سجّل الملا مع صديقه الطنبوريّ جميل باي (١٨٧٦-١٩٢٠) مجموعةً من مقاطع الغزل التركي (Gazel)- وهو نوع غنائيّ يقوم على الارتجال، ويقابله في الموسيقى: التقسيم، برع فيه بشكل خاص حفظة القرآن. يروي ابن الطنبوري، الموسيقيّ مسعود جميل (١٩٠٢-١٩٦٣) في إحدى مقابلاته، أنّ والده كان شديد الإعجاب بصوت الموصلي (٥).

المُحكم والمتشابه

من القاهرة، إلى دمشق، مرورًا ببيروت، أحيا الملّا مجالس ذكرٍ وطرب، وقدّم ثقافته الموسيقيّة لتلامذةٍ ومريدين باتوا لاحقًا أسماءً لامعة في تاريخ الموسيقى العربيّة. ليس اتّساع المعرفة الموسيقيّة وإجادة صنوف الغناء التركيّ والشاميّ والمصريّ ما وصلنا عن الموصلي فحسب، بل أيضًا توليفه لأساليب تنتمي إلى ثقافات موسيقيّة مختلفة؛ منها قراءة مقاماتٍ تركيّة بأسلوب عراقيّ موصليّ، ونقل مقام الديوان التركيّ إلى الموسيقى العراقيّة، وإدخال مقامات عراقيّة على أدوار مصريّة. يورد رواة سيرة الموصلي، على سبيل المثال، أنّه أدخل ميانات مقام المخالف الموصلي على أحد أدوار داود حسني؛ الميانات في المقام العراقي (جمع ميانة Meyan) هو الغناء على الطبقات العالية، وقد تسمّى أحيانا بالصيحات. (٦) (٧)

درس على يد الملا في القاهرة كلٌّ من: عبده الحامولي ومحمد كامل الخلعي وعلي محمود. وفي دمشق، علّم الملّا أبا خليل القبانيّ وسيّد درويش الموشّحات الشاميّة والتركيّة، فعبرت من خلاله مقاماتٌ لم تكن معروفةً في مصر، كالنهاوند والحجاز كار. تشير دراسات عديدة إلى الفرق النوعي الذي حصل في نتاج سيّد درويش بعد لقائه بالموصلي.

لكن لا يزال هذا اللقاء مصدر التباسٍ حتّى اليوم، إذ تزعم الرواية العراقيّة أن زوروني كل سنة مرة وطلعت يا محلى نورها هي في الأصل من تنزيلات الملّا عثمان، وأنّ عبد الفتّاح معروف أفندي، أحد تلامذة الملّا عثمان، قام بتسجيل النسخة العراقيّة من زوروني وعنوانها زر قبر الحبيب، في منتصف العشرينيّات.

كما قدّم الفنان العراقي الراحل عارف كاظم محسن تحليلًا موسيقيًا يثبت فيه نسبة اللحنيْن إلى الموصلي (٨). ليست قضية الموصلي-درويش علامة الاستفهام الوحيدة المحيطة بتركة الملّا عثمان، فبالإضافة إلى المصادر العراقيّة، ثمّة رواية تركيّة شعبيّة تنسب إلى الموصلي لحن قدّك الميّاس، الذي يعرفه الأتراك بـ على شواطئ الجزيرة أنتظر (Ada sahillerde bekliyorum). ربّما يشير هذا الربط الغامض ما بين الملّا والأغنية إلى أنّه، إذا لم يكن مؤلّفها، كان الوسيط الذي نقل اللّحن إلى تركيا. رواية عراقيّة أخرى تؤكّد أنّ الملّا هو مؤلّف لحن يا عذولي لا تلمني / لغة العرب اذكرينا، والمعروف في مصر بـ يا بنات اسكندريّة عشقكم حرام، وفي تركيا بـ Uskudara giderken (في الطريق إلى أوسكودار)، أو katibim (كاتبي). هذا اللحن الذي شاع في اليونان والبلقان، وغنّته في تركيا صافية أيْلا، وفي العراق يوسف عمر (١٠).

تزعم المصادر العراقيّة ذاتها أن العديد من القدود الحلبيّة هي في الأصل من ألحان الملّا، والتي جرى تدوينها أثناء إقامته الدمشقيّة، مثل فوق إلنا خلّ (وأصلها فوق العرش). ناهيك عن التنزيلات التي باتت جزءًا من الفلكلور العراقيّ، مثل أشقر بشامة ويا بن الحمولة، وربّيتك زغيرون حسن، ويَمّ العيون السود.

عن الأنطولوجيا

مهما يكن من أمر الألحان المتنازع عليها، يؤكّد الالتباس الحاصل مدى تأثير الملّا على جلسائه، وتجذّر سلطت الموسيقيّة. كان الموصلي بهويّاته الكثيرة وسيطًا مرت عبره ثقافات موسيقيّة في اتّجاهات جغرافيّة مختلفة. حياة عثمان أفندي اتّسعت لأمكنة ولغات وشعوب، فصنع ما تنوء به حياة واحدة. بل إنّه يبدو، لشدّة تنوّع وتباين ميراثه الموسيقي، كأنّه اجتماع موسيقيين كُثُر في رجلٍ واحد. أقل ما يستحقّه الملّا هو جمع شتات حياته / موسيقاه المنثورة بين المدن في أنطولوجيا موثّقة، تحيّةً لخياله وكرمه. هو الذي حيثما مرّ، علقت ألحان ومقامات بأطراف جبّته المولويّة. (١٠)


هوامش

البستكار Bestekar  أو البستجي Besteci ، أي: الملحّن.

(١) رفع القصيدة على اليوتيوب هيثم الملاك.

(٢) Mehmet Nazmi Ozalp. (2000). Turk Musiksi Tarihi. Ankara: Milli Egitim Bakanligi. المقطع الذي يخصّ الملّا موجود في هذا الرابط مع نوطات بعض أعماله.

(٣) تجدر الإشارة إلى أن المتصوّف والموسيقيّ التركيّ زكائي دده (١٨٢٥ – ١٨٩٧) قد زار مصر عام ١٨٤٥، وكان أستاذًا للموسيقى في سراي الأمير مصطفى فاضل باشا شقيق الخديوي اسماعيل.

(٤) ليلى هانم أفندي ساز (١٨٥٠-١٩٣٦) ابنة إسماعيل حقي باشا، أديبة وشاعرة تركيّة، تعتبر مذكّراتها مرجعًا هامًا عن الحياة اليوميّة في الحريم السلطاني.

(٥)  مقابلة مسعود جميل. نصّها موجود هنا. من اللافت أن مسعود جميل، الموسيقيّ الذي شغل مناصب رفيعة في الراديو الرسمي والكونسرفاتوار الوطنيّ، كانت له اليد الطولى في القضاء على نوع الغزل الغنائي بأذواقه الكماليّة النافرة من كل ما هو عثماني.

(٦) لقاء فتحي العبد الله: الملّا عثمان الموصلي وأثره على فناني مصر وسورية وتركيّا.

(٧) حبيب ظاهر العبّاس: أضواء على حياة وإنجازات الملّا عثمان الموصلي

(٨) عارف كاظم محسن. (١٩٩٩). أعمال الملّا عثمان الموسيقيّة: دراسة تاريخيّة تحليليّة. دار الكتب والوثائق العراقيّة.

(٩) صنعت المخرجة البلغاريّة أديلا بيفا عن هذا الأغنية عام ٢٠٠٣ فيلمًا وثائقيًا بعنوان أغنية مَن هذه.

(١٠) على سبيل المثال: يوجد ٢٣ عملًا منوَطًا للملّا في مواقع إلكترونيّة عديدة.

المزيـــد علــى معـــازف