الوقوع في وحل ما أفسدته السياسة

كتابةيزن الأشقر - February 22, 2013

كان بإمكان كميليا جبران أن تكتفي بقيودها. كان بإمكانها أن ترضى أن تبقى سجينة هويتها. لكن أسطوانة واحدة كانت كافية لتعيد خلق نفسها من جديد. فيوميض، التي أصدرتها بالتعاون مع الموسيقي فيرنر هاسلر، لم تتمكن فقط من ابتكار فضاء تعبيريّ خاص بها، بل أرادت تحطيم الجدران من دون اكتراث

 لم تكتفي بذلك أيضاً. بل قامت بفتح نافذة جديدة في المشهد الموسيقي العربي الراكد. لا يشير مصطلحالموسيقى العربيّةهنا إلى مفهوم إثني محدد بصيغة ثقافية معينة، بل يتجاوزه ليستخدم كمنتج ثقافي قادم بشكل أوليّ من هذه المنطقة. الموسيقى العربية هنا تتخلّص من معناها الضيّق إلىعملٍ موسيقيّبمفهومه العالميّ الأوسع، لافظاً حدوده الإقليميّة

لا تلتزم التوليفة الجديدة بالهيكليّة التقليديّة للموسيقى العربيّة. نحن، إذاً، أمام ثيمة جديدة لا تخجل من الإعلان عن نفسها بكل صراحة. الإنطباع الأول الذي تخرج به بعد استماع أولي لـوميضهو الخوف الممزوج بالدهشة. نحن، إذاً، أيضاً، أمام عمل صريح غير منافق، يلفظ أمامك الرهبة والقلق والحيرة من دون خجل

الآن مع إصدار اسطوانتها الرابعةنول، بعد “”وميضومكانوونبني، لا يزال النقّاد العرب متأخرين في تناول مشروع كميليا الموسيقيّ الجديد، ليعكسوا بذلك استمرارية الرداءة في النقد الموسيقيّ العربيّ. من المفترض، في ظروف نقديّة أكثر صحّةً، أن تثير تجربة موسيقيّة كهذه بعض الضجيج. لكن يبقى معظم الجدل في دوائر نقديّة مغلقة، وهو ما يقلل بشكل عام من تطوير مفاهيم موسيقيّة جديدة في العالم العربي، بشكل تستطيع من خلاله أن تؤثر على الذائقة العامة المبتلية بتأثير الماكنة التجارويّة

بعد حفلٍ لها في عمّان العام 2010 جرى في قبو قديم مليئ بالغبار والملفّات المهملة، تجادلنا عن معنى أن تضع جبران 60 مقعداً لا أكثر في الحفل. بسبب ذلك، اتهمها البعض بالنخبويّة. لكن هل على الموسيقى أن تتحمّل مسؤوليّة النخبويّة الثقافيّة والطبقيّة؟ هنا أعتقد أن فرض مسألة النخبويّة يقيّدها ويعيق أي تطوّر موسيقيّ محتمل. فالفشل النقدي الذي ساهم بفرض مفهوم الالتزام الموسيقي، فشل أيضاً في وضع موسيقى جبران في سياق الواقع السياسيّ والإجتماعيّ العربيّ بشكل جدي.

تمرد دائم

لم تظهر الفنانة الفلسطينيّة من العدم. فلمدة عشرين عاماً، كانت جبران القوة الدافعة وراء المجموعة الموسيقية الفلسطينيةصابرين“. هذا المشروع الذي امتد منذ 1982 وحتى 2002، عندما توقّفت وقرّرت أن تسلك طريقاً موسيقيّاً آخر، أكثر خصوصية وتجريبية

ولدت كميليا في عكا سنة 1963 ونشأت في الرامة بالجليل في كنف عائلة موسيقية اضطرتها ظروف العيش تحت الاحتلال الإسرائيلي لاتخاذ بعض التدابير لتكوين بيئة خاصة بها. وفي بيت العائلة، نشأت وسط الآلات الموسيقية، خصوصاً العود الذي اتخذه والدها إلياس حرفةً له. ومع حلول وقت دخولها الجامعة في القدس، كانت قد وقفت أمام جمهور من قبل، لكن تمرّدها الأول كان في المدينة، ضد الغناء التقليدي للموسيقى الكلاسيكيّة العربيّة الذي أدّته في المدرسة

تكونت فرقةصابرينفي جو سياسي بامتياز، وبدأت رحلة خلق موسيقى عربيّة واعيّة سياسياً لم تخلو من التجديد، بتأثّر بجو الأغانيالملتزمةلكل من مرسيل خليفة وزياد الرحباني وغيرهما. استمرت رحلة كميليا مع “صابرين” لمدة عقدين رغم عدم رضاها التام عن هذه التجربة (1)، حتى حلول العام 2002 لتتمرّد مرة أخرى. دعيت آنذاك إلى بيرن لتعمل على مشروعمحطّات، واضعةً النواة الأولى لمشروعها الموسيقيّ الجديد، ولتلتقي هناك بفيرنر هَسْلر ليصدرا معا أسطوانةوميض” (2004). 

بالنظر إلى رحلة كميليا الموسيقيّة منذصابرينوحتىمحطاتووميض، نستطيع استنباط نمط معيّن في أعمالها يؤدي إلى الاعتراف بعملها الجديد كتعبير موسيقي شديد الخصوصيّة، انتقلت به منالالتزام الموسيقيإلى الحريّة. فمن أنها فنانة فلسطينية، مختنقة بمحدوديّة وقيود هويتها الموسيقيّة السياسيّة، وبمحيطها الجيوسياسي، وأسئلة معنى أن تكون فناناً فلسطينيّاً، وكيف يؤثّر ذلك على تعبيرها الموسيقي. وهذا ما يمكن أن نسمّيه بـأزمة الالتزام بتوقّعات الآخرين، أو بالأحرى: أزمة أن تكون فلسطينيّاً، وذلك بالمعنى الثقافي الذي لوّن غيرها برومانسيّة مفترضة. أدى هذا التغيّر في النمط إلى انتقالها من صوت جماعي إلى صوت متفرد. من أداء مقيّد وملتزمإلى صيغة أكثر حريّة. ومن أداء موسيقي مقيّد بموروثٍ كلاسيكي إلى آخر أكثر قدرة على التكيّف. أداء جاء بمثابة وعاء تعبيري عن أسئلة وجوديّة، وقلق ما بعدحداثيّ خلقه هذا الالتزام.

البحث المشروع نحو هويّة أخرى

لفظت كميليا محدوديتها الفلسطينيّة باتجاه هويّة أكثر عالميّة: السجن الذي وجد محمود درويش فيه نفسه أيضاً قبل أن يلفظه

بهذا المعنى، تشكّل الحالة الموسيقيّة للفنانة الفلسطينيّة في تحوّلاتها علامةً في الموسيقى العربيّة الحديثة. نعني بحديثة هنا أي قالب موسيقى قادر على خلق فضاء تعبيريّ جديد، بالاعتماد على تطوير وتطويع آلة شرقيّة، وبالاستعانة بقوالب موسيقيّة غربيّة، في محاولة لاستكشاف ما يمكن أن تصل إليه الموسيقى العربيّة بمفهومها الأوسع كما وصلت إليه قصيدة النثر: حريّة تمكّنها من ملاءمة التحولات السياسية في المنطقة. بمعنى آخر، يمكن اعتبار كميليا جبران نقيض مرسيل خليفة إذا ما أردنا وضع تشابه مختلق في البداية بعين الاعتبار. وذلك عبر انطلاقهما من بداية واحدة يمكن قولبتها تحت مسمى الأغنية السياسيّة مع التحفظ، وتأكيد الاختلاف في كلتا التجربتين

يمكن اختبار ما تعرّضت له تجربة هذا النوع الموسيقي من خلال التأثّر بمحيطه السياسي. فبينما يعيد خليفة تكرير نفسه من ناحية، والبحث في ماهية الموسيقى العربيّة لإيجاد صيغ جديدة من دون نتيجة ملموسة، سارت جبران في الجانب المظلم كردّ فعل على فشل التجربة السياسيّة العربيّة، وفشل محاولة خلق إنسان عربي حديث. جاءت الموسيقى بتعبير تجريبي تقنيّاً، ووجوديّ النزعة أدائياً. بمرافقة الأداء الحر لنصوص شعريّة نثريّة تعكس، أيضاً، فشل السياسة وأزمة الإنسان العربي المعاصر

لوّنت السياسة تجربة الثقافة العربيّة بطبيعة الحال، وفي حين التفت الموسيقى العربيّة الرسميّة أو التجاريّة عنها لتكمل طريقاً آخر، بقيت موسيقى جبران لتقع في وحل ما أفسدته السياسة. التجربة شخصية هنا بلا شك، والبحث عن توليفة نهائيّة للصيغ الموسيقية أمر عبثيّ. ففي حين كان العود مكبّلاً بقيود الالتزام السياسي بمعناه الضيق، حرّرته كميليا باعتماد شبه خفي على موروث ثقافي، لتوجّه العود إلى اتجاه آخر يلتف حول السياسة بدلاً من الخوض المباشر فيها. تجريبي. حديث. قاتم ومؤلم. فرديّ المنشأ. وبمرافقة النصوص الشعرية المختارة بعناية، لتصف رحلتها.

التجريب طريق إلى الخلاص

في احتفائه بعازف البيانو الكندي غلين غولد، يشير إدوارد سعيد إلى رأي الناقدين ساميول ليبمان وإدوارد روثستين في أن أصالة غولدتجلّت بغرابته بشكل رئيسيّ” (..) “غرابة غولد ليست فقط جهداً لإنتاج الأداء الموسيقيّ، بل تمتلك بياناً نقديّاً لتفسير القطعة نفسها (2). التفسير المختلف عند غولد لمقطوعة لباخ هو نقد للمباشرة والثبات في نفيهما للعاطفة والروح الموسيقيّة المتجددة دوماً

الأمر متشابه إلى حد ما عند كميليا. وهذا الأداء الشكلي والموسيقيّ الذي يزعج المتمسكين بالتقليديّة بالضبط، وتشوّش عليهم سكونهم. العود لدى جبران ليس مطرباً وليس شرقيّاً، والموال الذي يبدأ مبهماً يأخذك إلى مكان آخر تماماً. تعتمد كميليا على غناء حر غير ملتزم بقواعد كلاسيكيّة. وبتخلصها من قيود الأداء الملتزم، تستطيع كميليا أن تعبّر بشكل أكبر؛ فالعاطفة أوضح، والأزمة أوضح، وكذلك الحب والقلق. كما تحتفي بالموسيقى، تحتفي أيضاً باللغة وبموسيقيّة اللفظ.

الموسيقى في سياقها الشكلي طليعيّة، والموسيقى الإلكترونية تشكّل مرافقاً للعود فيوميض“. بينما فيونبنيتتراجع لتشكّل هيكلاً يسمح لكل من العود والترومبيت باللعب داخله. الترومبيت لا يكتفي بمرافقة العود، بل يحاول التشويش عليه. وهذا ما يخلق صراعاً موسيقيّاً بين آلة شرقيّة وغربيّة، لكنه صراع يصبّ في خدمة العود بمنحه مجالاً أوسع للتعبير من خلال التجريب. لكن التجريب هنا لا يعني العفويّة، بل يخدم الوصول إلى تمكين العود من التعبير بشكل أفضل عن الشعر. تجربة الاستماع إلى الأعمال صعبة، وليس من المطلوب أن تلبي كميليا توقعاتك. لكنها تطلب منك أيضاً أن تتخلّص من القيود ذاتها التي تخلّص منها غلين غولد لتدرك ما تفعله

الكآبة تعكس الواقع، وهي تدرك أنّها تضعك أمام ذلك بشكل مباشر. الأمر أشبه بمحاكمة موسيقيّة للواقع السياسي. وجدت كميليا طريقها إلى الحرية بعد الالتزام

مهّدت جبران الطريق بـوميضوصولاً إلى عملها الأكثر تفرّداً: “مكان، حيث هي وحدها مع العود من دون آلاتٍ أخرى. الاستماع الحذر إلى هذه التجربة الأكثر شخصيّة مؤلم، لكنه مفيد. صوتها بمثابة آلة أيضاً، والهدف هو فحص تجربة هذا المكان الجديد، والانتقال من عالم إلى آخر. في حين كانوميضمراجعةً موسيقيّةً للتجارب السابقة، جاءمكانليجرّب المساحة الجديدة بشكل مباشر. ذلك قبل أن تعود مجدداً مع هَسْلر لتعيد قياس هيكليّة التجربة بالاستفادة من التعاون الأول. ومع إصدارنولالآن، تخوض كميليا جبران تجربة جديدة. فالموسيقى أوسع بالتعاون مع الكونتراباص بشكل رئيسيّ، في سعي نحو استكشاف مساحات موسيقيّة جديدة

لذا، نستطيع القول بأن رحلة البناء مستمرة.

المصادر:

(1) بورتريه: كميليا جبران. أحمد الزعتري، الأخبار 1292

(2) Edward Said, Music at the Limits: Glenn Gould’s Contrapuntal Vision, p4