عربي جديد

تسلم الأيادي: التاريخ في مواجهة التاريخ

أحمد ندا ۰۳/۱۰/۲۰۱۳

 



1

للأغنية الوطنيّة في مصر ميراثها الملتبس، من حيث تاريخيّة هذا النوع وتعريفاته وتطوّراته، أو لنقل: تحوّلاته الحادّة على مدار عمر هذه الأغنية الذي يقارب القرن. بالرجوع إلى السرديّات الكبرى حولها، تنبع الانقسامات الحادة حول مفهوم الأغنية الوطنيّةوانحيازاتها من الاختلاف حول مفهوم الفن ذاته، وسؤال الهويّة الذي يقدّم نفسه كمركز تتمحور حوله التأويلات. وانطلاقا من هذه التشابكات، وبعد تجربة سيّد درويش وبديع خيري شديدة الفرادة والتميّز، تموضعت الأغنية الوطنيّة حسب موقعها من السلطة، فتحوّلت من مجرد تمثيل هويّاتي فنّي إلى موقف من التعريف الرسمي للدولة والهويّة والوطن. ظهر هذا الانقسام بعد ثورة يوليو 52، وبعد أن امتلكت الدولة وحدها آليّات الإنتاج، وتحول الفنّانون إلى رسميين وخوارج. وبهذا التصنيف، ظهرت أغاني أم كلثوم وعبد الحليم الوطنيّة على أنّها محايدةتتبنّى رؤية السلطة لهويّة مصر القوميّة ذات العمق الإسلامي. أما على الهامش، يبزغ صوت الثنائي أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام الساخط على سلطويّة الدولة وفنّها الرسمي.

سار قطار الأغنية الوطنيّة على هذين المسارين. فشهدت الأغنية الرسميّة تحوّلات خطاب الدولة، فمن اشتراكية ناصر على راس بستان الاشتراكيّةلعبد الحليم حافظ، وملحميّة البعد القومي لمصر في أوبريتات جماعيّة، مثل: “وطني حبيبي الوطن الأكبر، والذي ضم مطربين من عدة جنسيات عربيّة، وصولا إلى دولة ممسوخة في عهد السّادات، والتغنّي بمصر ونيلها وشبابها وترابها. هنا تمثّل أغنية شادية يا حبيبتي يا مصرعلى سبيل المثال استدعاءً لصورة سياحيّة، وذلك الكيان الغامض المبهم الشعب، وهي نفس الدوغما التي استخدمتها الدولة لتعزيز بنية سلطويّتها. لكن مع غياب الخطاب الآيديولوجي الواضح في الفترة الناصريّة، حل خطاب أكثر ميوعة يستخدم الحداثة جنبا إلى جنب مع الخطاب الماضوي ما قبل الحداثي.

صمدت أغنية شادية، التي تحمل سمات الخطاب المائع، أكثر من غيرها. وتوالت نسخها انشطارها كالطفيليّات من: “ما تقولش إيه ادتنا مصر، حتى: “ما شربتش من نيلها“. واستمرّت الأوبريتات تظهر بصورة رسميّة في حضور رئيس الجمهوريّة. حتى ظهرت ذروتها في أغنية اخترناككنموذج راسخ عن حقبة التسعينيّات، وهو كذلك المسار الموسيقي الأكثر مدعاة للسخرية، والذي بدأ بالظهور بعد تثبيت شكل للاحتفال بحرب أكتوبر. ومن وقتها ظهر ما يسمّى بـمطربي الأوبريتوملحنوها وكتّابها الذين تندّر الناس على ظهروهم الثابت كأنهم موظفون معيّنون من قبل الدولة لغناء الأوبريت فقط. أبرز هذه الأسماء: عبد السلام أمين، كاتب الأغاني الوطنيّة ومقدّمات المسلسلات الدينيّة، وعمار الشريعي. ومطربون مثل: علي الحجار ومحمد الحلو ومحمد ثروت. يشترك منتجو هذه الأعمال بابتعادهم عن أي تأثير جماهيري حقيقي، بل كانت الأعمال عرضةً للتلاسن الشعبي والإفيهاتالتي لا ترحم. بعدها ترسّخت الأغنية الوطنيّة بشكلها الملحمي كتأشيرة دخول المطربين العرب، وطقساً ضم إليه نجاح سلام ووردة ونور الهدى وفيروز ولطيفة، وانتهاءً بوائل كفوري ونانسي عجرم وهيفاء وهبي.

2

هكذا، وبهذا التراكم التاريخي، انطبعت ثوريّةالأغنية في خضم ثورة 25 يناير أمراً محبطاً، إذ لم تتعدّ محاولات بائسة من مجموعة فرق ما يسمّى بالأندروغراوند لصناعة أعمال تتغنّىبالحرية بفجاجة. تزامنت الأحداث مع إطلاق محمد منير لأغنيته إزايالتي انتشرت بضراوة على الشّاشات. ثم أثناء الثمانية عشر يوماً، وتصاعد الخطاب الثوري برومانسيّته، ظهرت أغانٍ مثل صوت الحرية“. كان العام الأوّل للثّورة فرصة جيّدة للتجارب الفنيّة الجديدة أن تقّدم فنّاً ثوريّاً، لا في مضمون كلماته، لكن في بنيته وتعبيره عن المجال العام. لكن ماحدث كان مخيّباً للآمال، إذ انكشفت الأغاني المعنيّة بالأساس بالاحتشاد الجماهيري في اختبار الجمهور، وتم تنميط الأغاني كغيرها من الأغاني الجماهيريّة البوب“. ثم ما لبثت أن تلاشت هذه الأغاني تماماً مع تعالي الحناجر بأغاني إمام كنموذج مثالي لفن ثوري السنة الأولى من الثورة، ومعبّراً عن أغنية وطنيّة كانت حبيسة الفصائل اليساريّة وثلة من المثقفين.

ومع تنامي الغضب ضد الإخوان وسقوطهم المدوّي في 30 يونيو، ومثلما بعثت رموز الدولة القديمة بصورتها الثمانينيّة والتسعينيّة من الرماد، وتحرّكت المؤسّسة العسكريّة باعتبارها حاضنة المؤسّسات، سارعت أجهزتها الخطابيّة في إعادة بعث فنانين يمثّلون هذه المرحلة، وإذا بمصر كلها تستفيق على أغنية تسلم الأيادي، تسلم ياجيش بلادي“.

وإذا بشبح اخترناكيعود للظهور على يد نقيب الموسيقيين مصطفى كاملمؤلّفاً وملّحناً، ومجموعة محنّطة: “هشام عباسوحكيموخالد عجاجوإيهاب توفيقوغادة رجبتقدّم صورة هوياتيّة بأدوات دولة التسعينيّات تحدّد موقعها وارتمائها في أحضان الجيش، مانحةً إيّاه تفويضاً معنويّاً قبل مطالبة السيسي بتفويض الشعب له للقضاء على الإرهاب. لحن الأغنية المقتبسمن لحن والله لسه بدري يا شهر الصيام، وتحديداً من الجملة الموسيقيّة المصاحبة لـتم البدر بدري والأيام بتجريللملحن محمود الشريف، كعادة مصطفى كامل منذ قرر أنه يستطيع التلحين، فاعتمد على جمل موسيقية لآخرين ووضع عليها اسمه بمنتهى الصفاقة.

3

على الرغم من ركاكة الأغنية، وبعثها لتاريخ دولاتي قريب في مواجهة تاريخ ماضوي أقدم، إلا أنّها حازت ما لم تحزه أغنية وطنيّةأخرى قديمة كانت أو حديثة، أو حتى صنعت خصّيصاً لهذه المناسبة مثل أغنية: “إحنا شعب وانتو شعبلعلي الحجّار. انطلقت الأغنية منذ منتصف تمّوز/ يوليو وحتى كتابة هذه السطور، ليصار إلى بثّها بشكل مكثّف على الفضائيّات كالمادّة الإعلانيّة، وتوارت أغانٍ مثل: “يا بلاديلرامي جمال، وإزايلمحمّد منير وحتى أغاني الشيخ إمام، ورفيقه أحمد فؤاد نجم الذي كتب عن الأغنية في عموده بجريدة الوطن يوم 29 آب/ أغسطس: “تسلم يا جيش بلادى وتسلمى يا مصر يا محروسة، ويسلموا ولادك المبدعين من أول سيد درويش الخالد ومروراً بالقصبجى المجدد العظيم، وبديع خيرى والشيخ إمام وبيرم التونسى وبليغ حمدى ومحمود الشريف، وانتهاء بمصطفى كامل الفنان الشامل اللى كتب ولحن وغنى أجمل وأرق غنوة للثورة المصرية فى 25 يناير 2011 و30 يونيو 2013″.

في نفس اليوم، يستضيف وائل الإبراشي في برنامجه على قناة دريم مصطفى كامل وهشام عباس وسمير الإسكندراني (المطرب الملحمي الذي عمل جاسوساً والمبعوث من غياهب الأوبريتات الوطنيّة) للحديث عن جماليّات الأغنية“. وتفاقمت الإشادة بالأغنية لتدعو المذيعة رولا مصطفى الخرسا على قناة صدى البلد إلى اعتماد الأغنية نشيداً وطنيّاً يتعلّمه الطلّاب. واليوم، ومع بدء العام الدراسي الجديد، لاقت الدعوة صدى لم يكن متوقّعاً، فانطلقت الأغنية في الكثير من الإذاعات المدرسيّة بمختلف المدن، لتحتل في كثير من المدارس مكان النشيد الوطنيّ.

4

لماذا الإصرار على تسييد هذه الأغنية؟ إذ تتقاطع الأغنية مع القنوات المصرية في البنية المعرفيّة لخطابها: القنوات الخاصة بمصالح أصحابها رجال الأعمال المتورطين مع النظام السابق، والقنوات الحكومية بتكوينها البيروقراطي المتهيّب لأي تغيير. ومعاً في فجاجة انحيازها للجيش بما يمثّله من كيان حاضن للدولة بصورتها الحداثيّة المشوّهة مع موروث إسلامي عروبي، وإحياء هذا الموروث في صورة المؤسّسة الأكبر. هذا الخطاب هو ما تقدمه الأغنية بوضوح وتعبّر عنه، وذلك من خلال القطيعة مع كل جديد على أنّه طارئ وعابر مثل الأغاني والفرق التي صعدت من القاع إلى السطح في المجتمع المصري بعد 25 يناير، مثل فرق وسط البلد وكايروكي الذين يمثّلون تجربة جديدة تماماً كمصر في أيام الثورة الأولى، فيما تؤكد تسلم الأيادي على مرجعيّتها الدولاتيّة في كل تفاصيلها إلى ماقبل يناير، بعناصرها الفنية وطريقة كتابتها وتلحينها وتصويرها.

مثّلت تسلم الأياديالخطاب اللاواعي للحاجة إلى الجيش – ومن ورائه الدولةكمخزون معنوي للحفاظ على مصالح من تفاجؤوا بالثورة ووجدوا في 30 يونيو بارقة أمل في استعادة أمجادهم. لذلك، كان من الضروري أن تصّر هذه القنوات على حقنها في وعي الناس بإبرة التكرار. ولعل مثل هذا النهج وحده ما يجعلنا نتساءل عن مدى فداحة هذا الموقف الحاد والانحياز لطرف قد يمثّل سلطة تستخدم نفس أدوات دولة بلت تماماً، وتحاول إحياء نفسها في ثوب ديمقراطي. وعلى الرغم من التباس الصورة وضبابيّتها، فمن الممكن قراءة المشهد، لا من أغنية، لكن من الإصرار عليها.

المزيـــد علــى معـــازف