حادثة بلا ضحايا، تقريباً

مينا ناجي ۲٦/۰۱/۲۰۱٤

 

وقفَ صاحب المكان قلقاً. عدد من أكدوا حضورهم على إيفنتالفيسبوك يتخطي الخمسمئة، عدا عن من لم يؤكد حضوره. الأسماء التي ستلعب في حفل اليوم لها جمهورها. علي طالباب وعبدالله المنياوي وديجيت ومحمد عادل سيلعبون سوياً لأول مرة. المكان هو شقة في مصر الجديدة حيث المساحة المخصّصة للحضور مجرد صالة البيت. كحل مبدئي قسّم صاحب المكان (بالكون لاونج) الحفل إلى حفلتين وحدَّد نصف ساعة قبلهما للدخول، وأعلن أنه عند امتلاء المكان سيتم إغلاق الباب.

[{“type”:”media”,”view_mode”:”media_original”,”fid”:”977″,”attributes”:{“alt”:””,”class”:”media-image”,”typeof”:”foaf:Image”}}]

حادثة في البلكونهو اسم الحفل، والمقصود بالحادثة هو الدوشة أو الإزعاج المرتقب، وهكذا فعنوان الحفلة ينبئ عن أهمية دور ديجيت هاشم الكلشالمعروف بموسيقاه الإلكترونيّة المزعجة. تم التنبيه على أن الحفل سيكون تجربة موسيقية مزعجةوأن الأغاني المعروفة للفنانين سيتم تغيير تلحينها بشكل كامل وكلي ومزعج“. رغم النبرة الدفاعيّة – تكاد تكون اعتذاريّة التي تكلم بها طالباب شارحاً فيها التجربة الموسيقية في إلتقاء أربعة فنانين من خلفيات موسيقية مختلفة، استطاع ديجيت أن يبدع إيقاعات ومناخ موسيقي ممتع ورائق، حركي ولعوب، في وصلة واحدة استمرت لمدة ساعة وثلث. الإضاءة الخافتة والصور والمقاطع البصريّة المصاحبة أضافت لهذا المناخ حيوية تأمليّة في تلك المساحة الصغيرة.

عدا عن هذا، لم يكن هناك نقص في مهارات الوقوف والحركة والمسْرَحة، خلْع الأحذية وفرْش قصاصات الورق أرضاً، تدخين السجائر وسط الإلقاء والغناء. الالتفات والاقتراب والصياح والجلوس والقفز والتربّع والتقوقع. كان هناك مسْرَحة احترافيّة تستحق درجات كاملة. قُرب نهاية الحفل نثر طالباب أوراق نقود من حافظته وحرق عشرين جنيهاً أمام الجمهور متمتماً أحرف أ ح م ر“. حاول عادل أن يندمج بجيتاره الكهربائي لكنه كان حذراً ومتشككاً طوال الوقت، ليبزغ فقط خلال حوار موسيقي قصير بينه وبين كلش، الذي كان بدوره يعبث ويلعب علي أجهزته مشتتاً الأصوات ومُغيراً أجواء الأغاني التي عرفها الجمهور وحفظها، ناشراً الدوشة الخاصة به في المكان.

عندما كان يصيح طالباب في وجوهنا بكلماته الكبيرة، مازجاً بين العاميّة والفصحى مثله مثل المنياوي، فكرتُ أنه إن كان عليك أن تصيح بهذا الحماس واليقين في جموع من الناس، حاملاً رسالة يرددونها معك، فعليك أن تختار الكلمات الرنّانة والكبيرة: الله. الدولة. الوطن. المؤسسة. النظام. الوجود. الفراغ. البؤس. الموت. إلخ… . وكلما كانت الكلمات أكبر كلما كان الصوت أكثر حضوراً وتأثيراً.

يفكر المرء في الفرق الحقيقي بين خطاب طالباب وبين خطاب ما يهاجمه بشراسة، وإذا كانا في الواقع متطابقين. طالباب الذي بدأ مشواره الفني بكلمات ذات منحى وجودي ثم انتقل سريعاً من مهاجمة نظام الكون إلى الهجوم على نظام الدولة، بل ومازجاً بينهما، بدا لي وهو يغيِّر في حدة وارتفاع صوته أنه يردد بحماس وبراعة منشوراً حزبياً لحثّ الجماهير يتمظهر في فرديّة زائفة. هذا الأداء يضع أمامنا موقفاً بطولياً مجانياً ومُتخيلاً سرعان ما يظهر وراء رنين كلماته معنىً جاهز ومستهلك. هو ربط شبهعشوائي لكلمات كبيرة يمكن لأي عابر اقتناصه. هذه الشعريّة الخطابيّة تصطنع العمق بالإتكاء على عِظَم وقوة الألفاظ والتعابير. المنياوي هو الآخر سار على نهج مشابه، مستخدماً استعارات ريفيّة سودوصوفيّة في إنشاد ضعيف ومُبالغة في هزّاته الجسديّة وتعابيره.

تدفق flow طالباب والمنياوي بدا كتيار منوّم يمتلئ بكلمات مدغدغة تخبط العقل الباطن، لكنها في النهاية تفشل في تثوير الوعي أو الكشف عن أي شئ جديد أو مهم. الأمر الذي جعل الواحد يفكر في وسط الحفل أن مغني الراب الناجح في مصر هو شاعر متوسط القدرة بهيئة فيزيائيّة جيدة وقدرة عالية على المسْرَحة.

في نهاية الأمسية وجدت نفسي أتساءل: ماذا لو حضرت حفلة اثنين من مغنيين الراب وملقيين الشعر واستمتعت بكل شئ إلا الكلمات؟ يبدو السؤال شبيهاً بـ ماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟

المزيـــد علــى معـــازف