ربى الجمّال | الأذن تَقتل قبل القلب أحيانًا

ماذا تفعل مغنية فقدت القدرة على النطق؟ كيف ترثي قدرتها الأجمل على التعبير وتتناسى وجود حبال صوتها؟ كيف ستلعن أوركسترا موسيقية كاملة على أخطائها أمام حشد من الناس لأنها لم “تسلطن”؟ لماذا لم تمسك بصاحب الكمنجة يومها وتعيده إلى المسرح وتدق رأسه بآلته حتى يصاب هو بالجلطة؟

في ريف دمشق عام ٢٠٠٥ تحديداً في إحدى غرف مستشفى دوما البسيطة، جلست مطربة فقدت قدرة النطق على طرف سريرها بشحوب المرض الذي استقر في رأسها منذ أصابتها جلطة دماغية. وضعت يديها على ركبتيها، نظرت إلى صديقتها التي جاءت لتؤنسها وأخرجت صوتها عنوة. غنت بتلعثم وكأنها تتحدى جسدها وتقول له: “سأخرج آهات الوجع بالغناء حتى آخر ثانية”.

توفت بعد يومين، وعلى الأغلب أن عازف الكمنجة قرأ اسمها في أوراق النعي المكدسة على الجدران ولم يعرف من هي  زوفينار هذه.

من هي زوفينار؟

زوفيناز خجادور قره بتيان، الاسم الحقيقي الكامل الذي أطلق عليها طفلةً. ولدت من أبٍ حلبي ذي أصول أرمنية، وأم لبنانية فارقتها في عامها الأول بعد أن أخذها الموت، لتكمل زوفيناز طفولتها مع أختها الوحيدة في ميتم، ثم تنتقل في سنوات مراهقتها الأولى إلى الأردن لتعيش في دير راهبات الوردية في عمّان. هناك بدأت تتعلم الموسيقى على يد أستاذ روسي اكتشف خامة صوتها وعلّمها عزف البيانو، فبدأت ترتل مع الكورال في الكنيسة وتعلمت الغناء الأوبرالي الغربي.

عادت عام ١٩٧٩ إلى سوريا، وبدأ مشوارها الفني الصغير في إذاعة دمشق حيث عرفت باسم ربى الجمّال. رغم أدائها المبهر كما وصفه عدد من الموسيقيين، منهم الموسيقي السوري صميم الشريف الذي أشاد بقوة صوتها، لم يكن هذا كافياً لعائلتها ووالدها الذي أراد منها أن تدرس الطب، فغادرت سوريا إلى فرنسا.

بين الطب والموسيقى

في بداية الثمانينات وصلت ذات العينين المائلتين المنهكتين إلى باريس. كان واضحًا أنها لم ترغب بدراسة الطب بل أتت رغمًا عنها، وربما بحثت عن أمكنة للغناء قبل أن تبحث عن المستشفيات المهمة. وقفت على رصيف باريسي عتيق وقررت أن تمتهن طبًا من نوعٍ آخر: ستقدم الدواء الوحيد الذي آمنت به طوال حياتها، لتبدأ مشوارًا فنيًا حقيقيًا وتهمل الرداء الأبيض لصالح الفساتين الطويلة التي أحاطت جسدها بنعومة قبل أن تعتلي خشبات مسارح باريس.

تشير المعلومات الشحيحة وغير الموثقة عن هذه الفترة إلى أن ربى كانت تتخصص بمجال طب الأطفال وتعمل كمتدربة في إحدى مستشفيات باريس، ثم تذهب ليلاً لتغني في فندق خمس نجوم. ذات ليلة، تعرفت على مدير الأوبرا الفرنسية آنذاك، فأبهره صوتها وطلب منها أن تغني في حفل كبير.

من كان يعلم أن هذه العشرينية الجميلة ستطارد حلمها في دور الأوبرا الباريسية؟ بعد سنتين من وصولها، شاركت ربى في حفل تكريم للمغنية الراحلة ماريا كالاس، إحدى أشهر مغنيات الأوبرا بقرار سوبرانو، وفازت على ثلاثين مغنية أغلبهن أوروبيات بلقب أجمل قرار سوبرانو. بهذا اللقب، أثبتت ربى الجمال لنفسها أنها موهوبة.

لكن قلبها الميال إلى الشرق أعادها إلى الغناء بالعربية، فراحت تبحث عن مساحات مشرقية واسعة تفردت بها حبال صوتها القصيرة. تزوجت في السنوات الأولى من عشرينياتها لمدة خمس سنوات، وانتهى زواجها بطريقة لم تكشف أسرارها أبداً، لكن جميع من عرفها أجمع بأنها أصبحت مزاجية بعد فشل هذه العلاقة التي أثمرت عن وحيدها رامي في عمر الرابعة والعشرين عاماً، والذي وضعته في لبنان والتصق بها حتى موتها. لم يكن هناك معلومات كثيرة عن هوية زوجها، لكن الواضح أن رامي الذي رافقها طوال مشوارها القصير كان قريباً جداً منها. “كانت بتجنن، حضورها كان يختصر العائلة كلها بالنسبة لي، لأننا كنا نعيش لوحدنا. كانت سريعة الغضب لكن عصبيتها تزول بعد نصف ساعة”.

شهرتها في باريس بداية التسعينات فتحت أمامها أبواب المسارح العربية. وصفتها الصحافة بالمطربة المزاجية لتخلفها عن بعض الحفلات في اللحظات الأخيرة، ورجحت ذلك لزواجها الفاشل تارة وطفولتها الصعبة تارة أخرى، إذ توفت والدتها وبقيت هي مع أختها الوحيدة بعد زواج والدها، وتعاطيها الدائم للمهدئات. إلا أن من سمعها مرة واحدة سقطت عليه لعنة صوتها وعاود المجيء أكثر من مرة ليراها تغني حتى لو تكرر تخلفها عن الحضور. كان صوتها يشفع لها.

السنونوة البيضاء تعود

في دمشق غنت قصيدة لماذا تخليت عني بأسلوب طربي مصقول. لحّن القصيدة سعيد قطب الذي عرف بثقافته الموسيقية العالية وقدرته على إغناء الكلمات التي تقع بين يديه بألحان قوية. لحّن منذ بداية الستينات وحتى سنة ١٩٩٠عددًا كبيرًا من الأغاني الوطنية وأغاني أطفال، وتعامل مع عدد من المطربين مثل سهام ابراهيم وفؤاد غازي ووليد توفيق، إلا أن اسمه بقي خافتًا لم يلمع بالقدر الكافي لينال الشهرة الواسعة، ربما لأنه اتجه إلى الأعمال المسرحية للأطفال.

تقف المطربة الجميلة أمام الكاميرا بثبات وكأنها تقول: “هكذا ستكون الفيديو كليبات عندي، برصانة صوتي”. تبدأ الأغنية بموسيقى كمنجات طربية لتدخل ربى بالبيت الأول وكأنه موّال. كان مقام الأغنية بيات ولكن قدرتها على التراقص بين المقامات وكأنها تلهو على أطراف الغيوم يظهر جليًا في هذه الأغنية عندما تهدأ الموسيقى قليلاً في الكوبليه الأخير وتنتقل إلى مقام الكورد عند الدقيقة التاسعة “تعود السنونو إلى سقفنا وينمو البنفسج في حوضنا”. وكأنها ترينا كل ميزات غناء القصيدة وخاصة مع قوة مخارج حروفها وانسجامها التام مع الكلمات، وكأنها تتمتم تعاويذ آلهة الحب المجتمعين على من تخلوا عنها. المفارقة أن النسخة المشهورة المغناة من القصيدة هي التي لحّنها كاظم الساهر وغنّتها غادة رجب. اللحن في هذه النسخة رومانسي إلى حد كبير، متشابه مع ألحان كاظم لقصائد نزار قباني.

عندما تدمج القوة الكلثومية بالرقة الأسمهانية

بعد هذه العودة بدأت ربى الجمّال تُثبت موهبتها وتدهش الجماهير بالتفاريد القوية أثناء أدائها لأغاني أم كلثوم. تمردت على اللحن وعرّبت على مزاجها المتقلب. ساعدتها المساحة الواسعة في صوتها على الدمج بين صفات صوت أم كلثوم العريض الرخيم وصوت أسمهان القوي الآسر الرنّان. ساعدها أيضاً على هذا الدمج الموفق موهبتها الأوبرالية، فكانت تخرج الأغاني الطربية بحس أوبرالي-طربي يذهل الحضور في كل مرّة. أحبها الباحثون والنقاد مثل صميم الشريف الذي وصف صوتها بأنه خارق لم يسمع له مثيلٌ منذ خمسين عام.

في نهاية صيف عام ١٩٩٥ ذهبت ربى إلى القاهرة وكان ظهورها المسرحي الأول في مصر على مسرح دار الأوبرا المصرية أثناء مشاركتها في المهرجان الرابع للموسيقى. وقفت على المسرح أمام جمهور حذر متطلب، بمزاج أهلاً بمطربة جديدة تريد أن تقلد أم كلثومنا، ولم يتوقع أحد أن يقف الجميع ليصفق لها ربع ساعة متواصلة.

في هذه الحفلة كان صوتها مرتاحًا جدًا حتى خيّل لمن سمعها بأنه يسمع هذه الأغاني التي طبعت في الذاكرة منذ أكثر من ثلاثين عامًا للمرة الأولى. نجحت ربى في الخروج من ظلّ أم كلثوم بنجاح، لا بل لا نستطيع القول بأنها ارتدت عباءة أحد. ظهرت بفستان أسود وقسوة عينيها وحدة ملامحها لتحرك أصابعها ببساطة وتتلاعب بتفاريد صوتها كأنها مؤدية قديمة أعاد أحدهم إحيائها وأتى بها لتسرق قلوب سامعيها.

أمام ألف وخمسمئة شخص، أدت ربى في هذه السهرة أحد أجمل الأغاني التي أدتها ربما في حياتها، غنت إفرح يا قلبي. كأنها أمسكت عصًا سحرية وربتت فيها على قلوب جميع من حضروها بشجن صوتها الذي غنّى للفرح وكأنها لم تحزن يومًا.

من الطقطوقة في هقابله بكرا إلى القصيدة في رباعيات الخيام والأطلال، تمكنت ربى من المرور على أغلب النماذج التراثية لأم كلثوم ومختلف المدارس اللحنية من زكريا أحمد إلى محمد عبد الوهاب إلى رياض السنباطي ومحمد الموجي، وأثبتت أنها قادرة على التعامل مع جميع هذه المدارس وأن تحافظ أيضاً على شخصيتها. بعد هذه الحفلة تمت دعوة ربى الجمّال مرة أخرى إلى دار الأوبرا، ولكن هذه المرّة كانت المناسبة مميّزة جدًا، وهي تأبين محمد عبد الوهاب. حضرت برفقة وديع الصافي ليؤديا حوارية مجنون ليلى على غرار أسمهان وعبد الوهاب.

ستعبث ربى برؤوس الجميع مرة أخرى. تجلس بجانب وديع، تحمل بيدها ورقة على الأرجح أنها كانت كلمات الحوارية، وعلى الأرجح أيضًا أن الجمهور استهزأ بمطربة تجلس حاملة ورقة تلولح بها غير مكترثة بشيء، ظنًا من الموجودين أنها حاضرة لملء الفراغ. ولكن ما إن بدأت بالغناء كانت الكلمات الثلاث الأولى، ما وراء أبي، كفيلة بإثارة التصفيق الحار وتلاشي هذه الفكرة ليحل مكانها الدهشة. هنا تجلّى تمامًا الرونق الأسمهاني لصوتها. تغني. تضحك. يربت وديع على كتفها. تغدق نفسها بالتطريب وكأنها تفرد جناحيها لمساحات صوتها وتدهش جميع من حضر.

أغاني الستينات بقالب التسعينات

في ألبومها الرسمي الأول فاكر ولا ناسي والذي ضمّ ست أغانٍ، تعاملت الجمّال مع عدد من الملحنين منهم فاروق الشرنوبي وعماد سليم. حققت أغنية صعِّبها بتِصعب من كلمات نبيل أنيس نجاحًا باهرًا رغم عدم قبول ربى بتسجيل فيديو كليب لها على عكس الدارج في منتصف التسعينات. في هذه الأغنية أثبتت الجمّال أنها قادرة على التلاعب بصوتها القوّي وإخراجه برّقة متناهية. لعلّ من أجمل ما قيل عن هذه الأغنية كلمات الكاتب السوري إسماعيل مروة الذي يحكي إنه عندما غادر سوريا ليواجه الغربة حمل معه تسجيلين فقط، وكانا لربى الجمّال. الأول كان أداؤها لأغان أم كلثوم والثاني ألبومها الأول.

“ذات مساء أيلولي كنت أتحدث مع مشرفنا هناك، الأستاذ الدكتور أحمد طاهر حسنين، في الطرب، ورحت أتحدث معه عن تسجيلات أم كلثوم النادرة وصالح عبد الحي وعبد الغني السيد وغيرهم، ليقول: “كلهم على العين والراس لكن عندكم بنت سورية تهوس اسمها ربى الجمّال” وراح يحدثني عن حفلها الأهم الذي أقامته في القاهرة عام ١٩٩٥، وكانت المفاجأة بأنه ردد على مسامعي كلمات صعّبها بتصعب مبديًا إعجابه بها وبأغنياتها الخاصة علاوة على غنائها الكلثومي، وتمنى يومها لو يحظى بهذه التسجيلات، وكانت أول هدية أقدمها له، وغادرت بعد سنوات إلى سوريا، وهذه التسجيلات لا تغادر آلة تسجيله.”

تحدث مروة أيضًا، مثله مثل باقي الصحافيين، عن مزاجية ربى الحادة والتي أفقدتها الكثير من وزنها في الوسط الفني الإعلامي، ولم يكن الوحيد. فالموسيقار السوري سهيل عرفة الذي لحن لها عددًا من الأغاني وصفها بالنزقة وتحدث عن عدم التزامها بمواعيد التسجيل وبأنه كان يدربها في بعض الأحيان على الألحان عبر الهاتف، وخاصة في فتراتها الأخيرة، مرجحًا أن السبب هو إدمانها على المهدئات والمزاجية في شخصيتها.

من الموشحات الحلبية إلى الأغاني الوطنية

لم تظهر ربى في مقابلات تلفزيونية، ولم تجلس على كرسي مريح أمام مقدم يحاورها ويسألها كالعادة السؤال المشهور: ماذا تمثل لك سوريا؟ فتحكي عن حبها لها وعلاقتها بحلب. الطريق الوحيد الذي مشت به ربى للتعبير عن مشاعر حبها للوطن، للحياة، للأرض، للعشاق، للقصائد الجميلة، لابنها رامي ولحلب، هو طريق الغناء.

ارتبطت ذاكرتها الموسيقية بسوريا كثيراً رغم أنها انحازت للطرب المصري، إلا أن تاريخها الحافل بالأوبرا والطرب وغيره من الألوان أبى أن يمر مرور الكرام دون أن تغني موشحات حلبية. استطاعت ابنة حلب التي حرمت من أن تدفن في تراب مدينتها أن تلوّن موشح نسيمات الصبا وتخرجه برصانة وتلوينات جميلة.

ظهر تعلق ربى بسوريا من خلال الأغاني الوطنية التي أدتها بأسلوبها الخاص. غنت عدداً لابأس به من الأغاني الوطنية التي أذيعت في مختلف المناسبات. ومنها كم لنا من ميسلون أو يا عروس المجد من كلمات الشاعر عمر أبو ريشة الذي كتبها عام ١٩٤٦ بمناسبة الجلاء الفرنسي عن الأراضي السورية، وكانت قد غنتها سلوى مدحت ألحان فيلمون وهبي. أضفت ربى إحساساً آخراً على الأغنية فغنتها بتطريب عال وقوة بالصوت تشعرنا بأن الجنود الفرنسيين خرجوا من سوريا صباح اليوم وبأننا نحتفل الآن بالجلاء.

عفاريت المسرح يسرقون رغبتها بالغناء

لم يكف ربى ما تعرضت له من وعكات نفسية أصابتها في العمق وجعلتها حادة بالتعامل مع الآخرين ومع محيطها، بل زاد الطين بلّة تعرضها إلى حادث أصابها بآلام قوية في ظهرها نهاية التسعينيات، فكانت تأخذ الكورتيزون لتتمكن من التماسك والغناء.

طلّة ربى الجميلة الخفيفة التي ساعدتها على سرقة قلوب الجماهير التي رأتها لأول مرة منحتها ثقة بنفسها. تغيرت هذه الطلة بسبب الأدوية التي أكسبتها الكثير من الوزن وبدأت تشعر بأن الفساتين التي كانت تدوِّر قامتها الممتلئة بدأت تضيق، مما زاد من عصبيتها وألهاها عن صوتها الذي اكتسب نضجاً مع السنين بطريقة قاربت المثالية.

“لقد أتى الحادث في الوقت غير المناسب، فصارت تتناول الكورتيزون كي تتمكن من الوقوف على المسرح مما زاد من وزنها وأثّر إلى حد ما على نفسيتها.”

قد يكون خير شاهد على هذا أداؤها المبهر في مهرجانات قرطاج في تونس عام ١٩٩٨ حيث تغنّت بها الصحافة التونسية آنذاك واصفة صوتها بالصوت الكلثومي من عيار ٢٤. إذا أنصتنا إلى صوت ربى في هذا الحفل سنرى أن تفاريده في أغنية عودت عيني متزنة،  قامت فيها بدور المؤدية القوية ببراعة. نلاحظ في الفيديو  أيضاً أن وزنها زاد وأن شكلها تبدل كثيراً وكأنها شخص ثاني.

في الدقيقة الرابعة وثلاثين ثانية من الأغنية توقفت الجمّال عن الغناء وقالت للجمهور بعصبية إن عفريتاً مرّ على المسرح وإن العفاريت تريد محاربتها، ثم أضافت إنه على الأرجح قطة، ثم تحدثت عن كرهها للقطط وحبها للكلاب في منتصف الأغنية، وطلبت من قائد الفرقة أن يوقف العزف لتتابع كلامها “ما دخلت راسي هيدي البسينة ما عجبتني.. بسينة؟ عالمسرح؟ صورتوها؟”

لفت الميكروفون بمنديل ورقي أبيض وقطعت حديثها فجأة لتتابع سلطنتها وكأن شيئاً لم يكن، فتعود الموسيقى ويعود الصوت الصادح “يقربك مني ويبعدك عني”.

الحفل الأخير أطفأ شموعها

عام ٢٠٠٥ سجلت ربى الجمّال ألبومها الثاني الذي حمل اسم ليالي عمر وضم أربع أغاني جديدة كتبها ولحنها الملحن السوري ماجد زين العابدين. وبما أنها رفضت فكرة الأغاني المصورة ومال قلبها إلى التسجيلات الحيّة اتفق زين العابدين مع الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون السوري على أن يتم تنظيم حفل كبير في فندق إيبلا الشام تحييه المطربة ويتم تصويره، وبالفعل بدأ التحضير للحفل دون أن يأت ببال أحد أنه سيكون الضربة القاضية.

في بروفة الحفل المنشود لم تكن الأمور على ما يرام. مطربة جميلة بصوت عذب ترتدي نظارة سوداء لتغطي عيونها وكأنها تريد الغناء لوحدها في غرفة مظلمة لا يراها فيها أحد. تقف إلى جانب الملحن باستياء واضح.

زين العابدين هو من اختار لها أغنية حبيبي يسعد أوقاته التي أدتها أم كلثوم سنة ١٩٤٣ ليحسّن مزاجها قليلاً ويعطيها المساحة المطلوبة لصوتها من خلال ألحان الشيخ زكريا أحمد. تسند على كتفه بيدها ويحمل هو بيده ورقة فيها كلمات الأغنية، تسترق النظر إليها من خلف نظاراتها الحالكة السواد، كل ما خانتها ذاكرتها.

غنتها بصوتها الطربي دون أي هفوات رغم أن من يراها تشد الورقة لترى الكلمات يظن بأنها تلقيها للمرة الأولى. فجأة أوقفت الموسيقى وأخبرت الفرقة وقائدها بانزعاج شديد أنهم نسيوا لازمة. بدأت تحرك حنجرتها لتخرج من حبالها الصوتية اللازمة المنسية في عزف جميع الآلات التي حضرت. كانت هذه البداية.

مساء الثالث عشر من آذار عام ٢٠٠٥، حضرت المطربة إلى الحفل. رافقها الملحن الذي أمسك بيدها لتدخل وهي تبتسم وتحيي الجمهور الذي أتى لسماعها. وقفت على المسرح بثوب فاتح يظهر القليل من كتفيها اللذان حملا خصل شعرها وحزنها الدائم. كانت وقفتها متزنة وصوتها مرن بالرغم من أنها أخبرت الملحن زين العابدين بعد الحفل أنها لم تكن تسمع نفسها جيداً.

ثلاث أغنيات من ألبومها الجديد أطربت بهم من حضر. إذا أردنا المقارنة بينها وبين التسجيل الذي صدر من الاستوديو سيبدو بوضوح أنها ترتاح أكثر أمام الجمهور على المسرح. من الصعب إنكار قوة صوتها في التسجيل ولكن ما يغلبه هو قوة أدائها على المسرح. تغني أغنية الوداع هذه والحزن يلمع بحرقة في ثنايا صوتها وكأنها ودعت قبل ثوان معدودة أغلى الناس على قلبها وأتت لتخبر الجميع بلوعتها. هنا في الدقيقة الخامسة والثلاثين تؤدي الأغنية على المسرح في الحفل الأخير.

في الأغنية الرابعة بدأت راحتها تتبدد. لم تُظهر عدم راحتها في صوتها بل في تعابير وجهها المتجهم وحركات جسدها المستاءة، لتقف في منتصف الأغنية وتدير ظهرها إلى الجمهور وكأنها تريد إيقاف الغناء وإلقاء اللعنات على أعضاء الفرقة التي لم تعجبها منذ البداية. حاولت كثيراً خلق انسجام بينها وبين الفرقة لتواكب أداءها التطريبي ولكن عبث. لم تستطع كبح غضبها ” ضيعولي السلطنة أوف كل ما بدي سلطن بيطيرولي ياها .. قلتلكم أنا من البروفات ما فيي اتحمل” قالتها على المايكروفون على مسمع الجمهور وبعصبية.

صفق لها الجمهور وكأنه يطلب منها عدم الإكتراث، أو كأنه مستغرب عن أي فرقة تتحدث وأي سلطنة طارت، فتفاريد صوتها كانت تطير بينهم وتسرق آذانهم. أحد من الفرقة لم يعرها اهتمام، حتى المايسترو استمر بتحريك الآلات عن بعدٍ دون أي تلميح أن شيئاً حصل.

فجأة وقف عازف كمنجة، حمل نفسه وخرج بينما استمر البقية. لم تتوقف الموسيقى هذه المرة ولم تحكِ عن العفاريت بل التفتت لتتابع غناءها الذي كان يحمل تطريباً قوّياً رغم توترها الذي كان واضحاً في حركات يدها.

“هالدمعة قسمتنا مكتوبة ع الميلاد

شمعة ورا شمعة عم تنطفي وتنقاد”

اختصرت حياتها بهذا المقطع الأخير. رمت المايكروفون وكأنها تتخلص من حجار تربعت على صدرها وهربت عن المسرح دون أي سابق إنذار. تعثرت بطرف فستانها ولم تأبه بل تابعت الهرب أمام ذهول الجميع.

توجهت إلى غرفتها في الفندق حيث أصابتها نوبة عصبية تمّ نقلها على أثرها إلى المستشفى. بعد محاولات عديدة نجح الأطباء في التهدئة من روعة طبيبة الأرواح ونقلت إلى منزلها في دمشق حيث عزلت نفسها عن الجميع. بعد أيام تم نقلها مجدداً إلى مستشفى هشام سنان لإصابتها بجلطة دماغية.

قالت لماجد زين العابدين الذي حاول أن يفهم منها ما حدث قبل أن تصاب بالجلطة إنها لم تكن تسمع صوتها وإن الهندسة الصوتية كانت رديئة جداً، عدا عن الفرقة الموسيقية التي كانت تكبلها في كل مرّة تحاول فيها الخروج عن القيد اللحني لتخرج التطريب.

“الفرقة الموسيقية فرقة جيدة مؤلفة من أكاديميين وموسيقيين إنما لم تكن مناسبة لربى الجمّال، ربما تناسب مطربة ملتزمة بالنص اللحني تغني واحد اثنين ثلاثة. إنما ربى تستطيع استلام جملة موسيقية لتصدح فيها وتسهرنا حتى الصباح بأشكال مختلفة. لذلك، على العازف أن يكون مخضرماً ليواكبها، عليه أن يكون وراء المطربة لا أن تركض هي وراءه. يجب أن يمشي معها وأن يبقي عينيه عليها.  التزمت الفرقة بالنوطة في كل مرة حاولت فيها ربى الخروج عن اللحن وإلقاء تفاريد صوتها. ما دفعها لمغادرة المسرح هو شعورها بالتكبيل.” ماجد زين العابدين في مقابلة مع التلفزيون السوري

في مدافن الغرباء

لم تستطع المكوث في مستشفى هشام سنان أكثر من أسبوع رغم أن وضعها الصحي كان يستدعي ذلك، لكن المصاريف الباهظة وتنصل نقابة الفنانين التي رفضت أن تضمنها صحياً بحجة أنها ليست مسجلة في النقابة حال دون بقائها. في بيتها أصيبت بنزيف دماغي حاد فعادت لتتابع العلاج في مستشفى دوما البسيط. في الثامن من نيسان من ذاك الربيع الرمادي، ذهب رامي ابن الخمس عشرة عاماً ليجلب بعض الثياب لأمه، ثم عاد ولم يجدها. اتصل بخالته وأخبرها أن أمه ماتت. كانت العلاقة بين الشقيقتين متوترة لأن ربى دخلت الوسط الفني رغماً عن عائلتها، لذلك رفضت أختها وزوجها أن تدفن في مدافن العائلة.

ربى وابنها رامي

ربى وابنها رامي

في سيارة الموت السوداء ألقوا جثتها في تابوت وأقحموا معه إكليل ورد أصفر، وعلقوا صورتها وهي تضع يدها على خدها وتبتسم. مشت السيارة التي أحضرتها جمعية أرمنية خيرية تكفلت بالدفن. في مقابر الأرمن وضعوها وغطوها بالتراب. مشى في جنازة زوفينار التي أطربت الجماهير عشرين شخصاً فقط. ورجحت الصحافة ذلك إلى أن النعي حمل اسم زوفيناز خجادور قره بتيان وليس ربى الجمّال.

ماتت ربى في ربيع عام ٢٠٠٥. تركت وحيدها الذي ناجته في الأولة في الغرام. أذاعوا أغانيها في اليوم التالي على الإذاعات الرسمية وتكلموا عنها وعن قصة حياتها قليلاً. ثم عادوا لبث باقي البرامج. رحلت ربى، لكن على الأرجح أن في مكان ما في هذا العالم سيجلس شخص تعيس على كنبة، يبحث عن أغنية تلهو بمزاجه البائس وتفرح قلبه. إن حالفه الحظ ووجد أغنية بصوت هذه السنونوة سيفرح فرحًا كبيرًا. هذا إرث المطربة التي فقدت قدرتها على النطق.

كانت معكم هذه المرّة ربى الجمّال صاحبة الصوت الصادح بالفرح والحزن في آن واحد.