سعد لمجرد و جلال الحمداوي | بداية لما قد يكون جميلاً

كتابةعبد قبيسي - February 9, 2016

٤٥٠ مليون مشاهدة لفيديو واحد رقم لا يستهان به مهما كانت المعايير. سعد لمجرد نجم صاعد احتل مكانة في البوب العربي بسرعة لم نشهد لها مثيلاً. لسعد لمجرد شريك متواري في نجاحه هو جلال الحمداوي، ملحّن وموزّع أغنية لمعلم.

عند الإنصات لعمل جلال الحمداوي كموزّع وملحّن في أغنية لمعلّم، تتضح لنا خيارات اتخذها الحمداوي لم نكن لنسمع ما يقاربها على الإذاعات والقنوات التجاريّة. لنكون عمليين ونتجنّب الاسترسال، سنعتبر أن بإمكاننا أن نختزل موسيقى هذا العمل في قسمها الإيقاعي rhythm section، وبالتحديد تعيين الأصوات sampling الذي نفّذه الحمداوي لأصوات القرع والبايس. وبالأخصّ تعيين أصوات القرع الفاتح كالـ سنير دْرَم والصنوج المطبقة أو الـ هايهات.

على صعيد نسيج الأصوات المستخدمة، فلا مثيل لجفاف وصراحة وعدائيّة هذه الأصوات في الموسيقى التجاريّة العربيّة. لا يوجد أي تلطيف أو ترطيب لنسيج الصوت أو جَرْسِه على أذن المستمع، بل هو نسيج يكاد يطلب تعنيفه. يخلق العنفُ عنفاً. عنفُ أصوات الحمداوي يخلق عنفاً في المستمع. لا يمكن للمستمع (المتحرّر من أي أحكامٍ سابقة عن البوب) أن يتحرّر من هذا العنف إلّا عبر إخراجه رقصاً وحركةً جسديّة، ليجد عندها بأنّ علاقة القرع الجهور بالقرع الفاتح kick-snare ليست بالعلاقة الثنائيّة المتكرّرة والتي تسهّل حركة الجسد ببساطة معلومة نعم/لا الموجودة في أغلب أغاني الرقص في مختلف الأنواع الموسيقيّة العربيّة (والغربيّة) الرائجة.” الشبكة الإيقاعيّة هنا هي سلسلة جُمل، تتبع وزن الكلمات، ثمّ تتحوّل لفترة وجيزة إلى نبض ثابت يوحي بإيقاعات الرقص الشائعة في الموسيقات الالكترونيّة، لتعود من بعدها إلى إيماء وزن الكلمة المغنّاة. ما يلفت النظر أيضاً توظيف مؤثّرات صوتيّة مناسبة من الناحية الجماليّة والعمليّة، على عيّنات الأصوات القرعيّة المستخدمة، كتأثيرِ عكس العيّنة reverse sample الذي يجعل من عيّنة قد نكون سبق وسمعناها تعود بنسيج وجماليّة مختلفين تماماً. مثال عن الـReverse Sample من لحظة بداية الفيديو (١.٤٨) وحتى زمن ١.٥٩ .

بالعودة إلى خيارات الحمداوي لنسيج الأصوات في هذا المجال وجفافها، فنحن لا نجد شبيهاً لها سوى في بعض التسجيلات الجديدة نوعاً ما والآتية من موسيقى أعراس دير الزور والمحصورة ضمن أهل تلك المنطقة أو في مجتمعات شبيهة وشتاتهم منذ بدء الثورة، وفي أحيان قليلة لدى بعض المثقّفين الذين يحركهم التغرّب (الذاتيّ أحياناً) تجاه هذه الموسيقى. قد نرى أيضاً حدة مشابهة إلى حد ما في بعض المهرجانات (أوكا وأورتيجا تحديداً).  إذاً، نسيج أصوات الحمداوي في لمعلم غريب وغير مألوف، وقد يكون أول ظهور لهذا النوع من الجماليّات الجافّة والعدائيّة في حلبة الموسيقى التجاريّة.

(في هذا المثل تحديداً المثير للاهتمام ما يجري خلف الغناء وترجمة للسينثيسايزر له، والتركيز على القسم الإيقاعي أيضاً. بضعة ثوان م البداية ثم مباشرة إلى ٠٢:١٩ و ٠٣:٤٥)

يمكن للتنفيذ الموسيقي لـ لمعلّم أن يُختصر بإيقاعاته وبايسه، بل من الواضح قرار الحمداوي الحاضر جدّاً ببناء الأغنية على أساس فراغات لحنيّة وإيقاعيّة، تاركاً لغناء سعد المجرّد أن يطفو وحيداً للحظات وجيزة ومتكرّرة، إن أضيفت على بعضها يقارب مجموع مدّتها نصف مدّة الأغنية، وهذا خيار جماليّ آخر لم نسمع مثيلاً له في المشهد التجاريّ. الأغلبيّة الساحقة من الموزّعين والمؤلّفين في السوق الموسيقي لديهم رهاب من الصمت والفراغ، فلا تصادف لحظة في أغنية إلّا وهناك حضور لكلّ الطبقات الصوتيّة من أصوات جهورة وأصوات متوسّطة التردّد وأصوات عالية التردّد. ترك مساحة للفراغ في توزيع لمعلّم هو إحدى الجماليّات التي تجعل من هذا العمل على ما هو عليه من نجاح، ويُثبت أنّ الشباب العربيّ نهمٌ لما هو جديد. أخيراً في هذه النقطة، وعند طِبَاقِ جماليّة الفراغ الموسيقي مع السّرد الإيقاعيّ على أساس وزن الكلام، ومع الأصوات الحادّة والجافّة للقرعيّات والبايس، تتراكم هذه الخيارات لتحقق ما يصبو إليه الحمداوي من خلق رغبة بالحركة في جسد المستمع، دون أن يسهّل عليه الأمر، فيصبح ذهنه ملتزماً بالاستماع الجديّ للأغنية، خلال حركة جسده الراقصة.

لم يكن بإمكان أغنية لمعلّم طبعاً الوصول إلى هذا العدد من المستمعين لولا مرافقة هذه الخيارات الجماليّة لجُمَل لحنيّة سلسة، وذكاء برصف العناصر الموسيقيّة والصوتيّة بشكلٍ يحاكي ما هو رائج في هذا النوع الموسيقي. يبدو أنّ هذا التوازن، بين ما هو جديد، وما هو رائج، هو سرّ المهنة في يومنا هذا.

لكن يبقى الأهم هو اختيار تعيين أصوات غير لطيفةلبناء الشبكة الإيقاعيّة اللحنيّة للأغنية، تاركاً مساحة ما للقليل من التعنيف الصوتيّ. العنف هو تلك الجماليّة ذات الغياب المريب عن موسيقانا العربيّة، وهذا على مدى قرونٍ من تاريخ عربيّ مليء بالعنف الجاف والصريح والعدائيّ. جماليّةٌ لعلّها الآن تجد طريقها إلى موسيقانا اليوميّة، لتحرّرنا من عصرنا الذهبيّ، ومن الزمن الجميل.

هناك أيضاً عبث النقاش عما هو بديل وما هو تجاريّ وما هو هامشيّ إلخ. أغنية لمعلّم هي مثل، أو باكورة أمثال إن حالفنا الحظ، للتغيير الحاصل على صعيد إعلام الحشود. ميديا الحشود بدأت منذ آلاف السنين مع ناطق فرمان البلاط الذي يقف على مصطبة ساحة البلدة، فتبعته ثورة الطباعة الرسميّة، ومن ثمّ الراديو والسينما والتلفزيون. جميع هذه الوسائل تشترك في ما بينها بخاصّية واحدة، وهي الاعتماد على رأس المال والسلطة بشتّى أشكالها. الموسيقى والفنون كغيرها من الظاهرات الاجتماعيّة، تأثّرت بهذه العلاقة ما بين الانتاج والتلقّي، ليس كلّ ما أُنتج بُث، وليس كلّ ما بُثّ أعطي صورة إيجابية، أو على الأقل صورة غير معدَّلة. لا بل لو نَظَرَ أحدنا إلى الصورة المعطاة لاستخدامات الموسيقات العربيّة في معظم الأعمال السمعيةبصريّة العربيّة التجاريّة في العقود الأربع الأخيرة وحتى يومنا هذا، للاحظ كميّة التسخيف والتنميط التي أُغرِقَت بها الموسيقى العربيّة، والتي سبّبت ضرراً لا يُصلَّح في صورتها خلال تلك الفترة التي شارفت على نَفَسِها الأخير. كلّ هذه التفاعلات أثّرت بشكلٍ عنيف على مستوى تلقّي الأعمال الموسيقيّة العربيّة لدى المشاهدالمستمع العربيّ النموذجيّ. والتشديد هنا على أهميّة توغّل جماليّات جديدة وجريئة في المشهد التجاري للموسيقى العربيّة إذ أنّ أي تغيير مرجو. على صعيد صورة الموسيقى العربيّة في ذهن مستمعيها، فإنّ الساحة الوحيدة للمعركة هي السوق التجاري. وسنجد بأنّ السوق التجاري يشارف على تغيّرات بطيئة وواثقة، وسيكون المستفيد الأوّل منها من يحسن استغلال تلك الفوضى التي تحكم خلال أي انتقال ما بين سُلْطَتين.

(مثال على جفاف موسيقى المهرجانات مهما كانت بسيطة، نلاحظ الارتكاز على حلقة صوتيّة Looping بالأخص عند ٠٠:١٩ وما بعده بقليل ثم عند ٠١:٠٢)

فبالعودة للائحة وسائل إعلام الحشود من مصطبة البلدة إلى شاشات التلفزة، كلّ منها أدّى دوره وأسلم مشعل ميديا الحشود إلى خلفه وصولاً إلى سلطة التلفاز، الذي بدوره الآن يشارف على الانتهاء من تسليم دوره للانترنت ووسائل التواصل الافتراضيّة. الفرق الوحيد ما بين الانترنت وجميع سالفاته، هو الاستقلال عن رأس المال والسلطة على صعيد الانتاج والبث والاستقبال. الحقيقة هنا هي أنّ هؤلاء الشبّان الذين انتجوا أغنية لمعلّم استطاعوا أن ينتجوها من لا شيء، ومن ثمّ بثّها دون أي كلفة، واستطاع ملايين العرب أن يستمعوا إليها دون أي كلفة (٢٦٠ مليون مشاهدة في أقل من ٨ أشهر!)، ودون أي شركة انتاج أو توزيع. لا شيء سوى يوتيوب.

جلال الحمداوي استطاع إيصال جماليّات موسيقيّة جديدة شقّت طريقها إلى مئات الملايين من المستمعين، وممّا لا شكّ فيه أنّه أثّر بالعديد من المؤلّفين ممّن هم في خضم البحث عن سبل تأليف أغنيات بوب جديدة يمكن لهم تسويقها بسرعة وبأسعار جيّدة، دون أن تشبه كلّ ما هو موجود من بوب عربي. لو استطاع المؤلفون على امتداد المنطقة انتاج بضعة أغنيات في الشهر، يطرحون من خلالها جماليّات جديدة، دون الجنوح إلى التجريب الحرّ وهو أمرٌ يوازي إنتاجَ البوب الجيّد أهمّيّةً وفي الوقت نفسه، دون الانزلاق في التأليف والتوزيع إلى التزلّف لما هو منتصر بحكم العادة؛ كلّ هذا قد يغيّر وجه موسيقى البوب العربيّة لقرن من الزمن الآتي، وعندها يمكن للشباب العربيّ إصلاح علاقته مع الموسيقى العربيّة، وأن يحرّرها من التنميط القاتل التي وقعت به على مدى عقود من الزمن، حتّى أنّ مجموع هذه الأمور قد يحرّر صورة العرب عن أنفسهم، وهذا بحدّ ذاته قد يؤدّي إلى بداية أشياء جميلة.