“سفرني على أي بلد” | عن الرحيل وغيابه في الأغنية السورية

سفّرني على أي بلد

منذ فترة ليست بالقصيرة، أولت صناعة الدراما السوريّة أهمية خاصة للأغاني والموسيقى المرافقة لمقدّمات المسلسلات التلفزيونية، أو ما يسمى بـ الشارة التي كثيراً ما كانت تستقل عن العمل الدرامي الذي ترافقه، لتغدو أغنية أو مقطوعة موسيقية مستقلة تنتشر بمعزل عن العمل الذي ألّفت لترافقه.

بعد فترة من الارتباك عقب بداية الثورة السوريّة في العام ٢٠١١، اتخذ جزء من صناع الدراما السوريّة قراراً بالاستمرار في إنتاج مسلسلات درامية سورية تسعى لمحاكاة الواقع السوري الراهن وفق مقاربات مختلفة تخضع دوماً لرأي جهة الإنتاج التي تنتج هذا العمل أو ذاك. ضمن هذا السياق ألّف الموسيقي السوري الشاب إياد الريماوي موسيقى شارة مسلسل الحقائب، أو، ضبوا الشناتي، وكتب كلماتها التي غنتها كارمن توكمه جي.

بمعزل عن نسبة المشاهدة للمسلسل الذي عرض في صيف العام الماضي على عدد من الفضائيات السورية والعربية، استقلّت شارة الحقائب عن المسلسل وحققت انتشاراً كبيراً في أوساط السوريين، وبخاصة على وسائط التواصل الاجتماعي. تشهد لذلك مشاهدات اليوتيوب والعديد من المؤشرات الأخرى لقياس الانتشار على الشبكة.

تبدأ الأغنية بالكلمات التالية سفّرني على أي بلد، واتركني وانساني، بالبحر ارميني ولا تسأل، ما عندي طريق تانيوذلك عقب مؤثرات صوتية لصوت أمواج البحر وصافرة الباخرة. تبدو الكلمات بسيطة وتعبيراً بديهياً عن حال آلاف السوريين الذين هاجروا وما يزالون في ظروف كارثية نحو بلدان اللجوء في القارة الأوروبية. لكن، وعلى الرغم من بديهية المعاني التي تُعبّر عنها الأغنية في سياقها السوري الراهن، إلا أن شارة المسلسل هذه تكاد تكون الأغنية الوحيدة التي تعبر بجمل بسيطة عن جزء من الواقع السوري دون أن تتطرق لبروباغندا سياسية لأي من الأطراف المتنازعة. المفارقة هي أن الشارة لم تنتج كأغنية مستقلة، بل جاءت رديفاً لمسلسل ضمن آلية الإنتاج الدرامي المعقدة. من جهة علاقتها بالسلطة والرقابة والتسويق، ومن هنا تكتسب الأغنية دلالات جديدة ضمن سياق إنتاجها.

تطرح الأغنية فكرة بسيطة وهي مغادرة سوريا، التي تحوّل العيش في مختلف مناطقها إلى كابوس يتجدد يومياً. الغريب أن مثل هذا الطرح الذي تأخر حتى صيف العام الماضي كان قد جاء عبر وسيط فني هو الشارة التلفزيونيّة ولم يأتِ حتى الآن عبر الوسائط الموسيقية الأخرى الأكثر هامشية، إذا صح التعبير. نقصد هنا أغنية الراب أو التنويعات المختلفة للفرق الموسيقية السورية الشابة، والتي لم يتجاوز معظمها العلاقة الرومانسية مع المدينة السورية، أو بصورة أعم العلاقة مع البلد ككل.

من المفارقات أيضاً أن الموسيقي الشاب إياد الريماوي الذي ألّف ولحن كلمات الأغنية كان قد عمل سنين طويلة مع الفرق الموسيقية الشابة، وكان عضواً أساسياً في كلنا سوا، أحد أشهر الفرق السورية الشابة حتى وقت قريب. لكن الريماوي لم يحقق شهرة عند الجمهور السوري إلا بعد دخوله ميدان تأليف موسيقى شارات المسلسلات التلفزيونية، حاله في ذلك حال معظم الموسيقيين السوريين الشباب.

نعود إلى الأغنية التي لا تطرح نفسها علينا كتركيب موسيقي قوي، باستثناء صوت كارمن توكمه جي الذي يشي بموهبة في طور التشكل. الأغنية لا تقدم شيئاً صادماُ بعد جملتها الأولى المفاجئة، والتي تحاول الأغنية التراجع عنها ضمناً في الجمل اللاحقة تركني روح ورح أرجع لو حتى بالأحلام، يمكن شي يوم أرجع ويهنيني زمانيإلا أن العبرة تبقى في النتيجة النهائية، حيث تجرأ أحد وعبر في أغنية (على الأقل في مطلعها) عن رغبة الهجرة السورية، التي كانت مكبوتة عن مساحة الإنتاج الموسيقي، وكأنها نزوة تخدش حياء المستمعين.

تبدو مقاربة فكرة الهوية السورية إشكاليّة وشائكة، ولا تقتصر إشكالية مقاربتها على أغنيات المسلسلات أو على موسيقى الفرق الموسيقية الشابة. لكن المؤكد أن الواقع السوري بدأ بدفع هامش جرأة المقاربة نحو مساحات جديدة، اقتربت سفرني على أي بلد على مستوى جملة واحدة من مقاربتها. من هنا يبدو طريق الموسيقى السورية الجديدة شاقاُ نحو مساحة الجرأة هذه. المساحة التي تقع تحت تلك الشمس التي تغيب، والتي افترض دريد لحام وجودها يوماً في نهاية مسرحية كاسك يا وطن وكتب عليها اسم البلاد التي يُغني حبها عن حب المال والبنين.

تحت شمس الهوية الحارقة تلك، تلحّ علينا حاجة لفهم تعقيدات هذه الهوية الوطنية السورية بغية فهم تعبيراتها الموسيقية. ربما أعاننا ذلك على فهم الماهية الشعرية لصورة هذا البلد، والتي تنسجها الانتاجات الموسيقية المختلفة كصورة سماوية عصية على المقاربة، بينما يخلقها الواقع كفسحة لأشد أنواع الإحباط والعذاب الإنساني اللانهائيين.