القلق الذي يكاد أن يغير الموسيقى العربية | كميليا جبران

عشر محطات في قافلة كميليا

معازف ۲۲/۰۲/۲۰۱۳

تروي كميليا أنها عاشت في جوّ كلاسيكيّ سياسيّاً وفنيّاً بقرية الرامة. ولأن منطقة الجليل كانت آنذاك خاضعة للحكم العسكريّ، اضطّر والداها إلى خلق حالة لم تكن توجد في الأماكن العامة والشوارع. هكذا عزف والدها إلياس العود، وغنّت والدتها نهاد في الأمسيات الموسيقيّة العفويّة في المنزل. ووجدت كميليا نفسها تغنّي لسيد درويش وأم كلثوم في الحفلات المدرسيّة، وفي الأمسيات المنزليّة.

لدى انتقالها للدراسة إلى القدس، تعرّفت كميليا على الجو المدينيّ الذي يتغذّى على الأغنية الملتزمة الجديدة. وهو ما كانت تبحث عنه، أو تهرب إليه من الأغاني الكلاسيكيّة. وهناك، تتعرّف على فرقةصابرينوتصبح عضوةً أساسيّة فيها بالغناء والعزف على القانون. وتصدر الفرقة أسطوانةدخان البراكين” (1984).

كانت كميليا تعتبر أن إنتاجها الموسيقيّ فيصابرينتحوّل إلىعمل نضالي يوميّ تحت الاحتلال والأوضاع الاقتصاديّة الصعبة“. هذا العمل النضالي اليوميّ أيضاً توجّه إلى تطوير الأغنية الملتزمة، والابتعاد بها عن المباشرة والابتذال بعيداً عن الشعاراتيّة التي غمرت الأغاني الثوريّة على حساب جودة المنتج. خاصة أن الأسطوانة الثانية صدرت لدى اندلاع الانتفاضة الأولى: “موت النبي” (1987).

عندما صدرت أسطوانةجاي الحمام” 1994، كان خطصابرينمكتملاً، إذ تبيّن آنذاك أن الفرقة نجت بإنتاجها من التحوّل إلى أيقونة مستهلكة. وذلك بسبب عدة عناصر: اكتمال صوت كميليا بسبب وجودها ضمن بيئة محفّزة وطليعيّة، والبداية باتّخاذ العمل الجماعي في الفرقة كمرجعيّة موسيقيّة شبه وحيدة، إضافة إلى التعاون مع الكاتب الراحل حسين برغوثي الذي كتب جميع كلمات الأسطوانة

عندما أصدرتصابرينأسطوانةعلى فين” (2000)، اندلعت الانتفاضة الثانيّة. كان الإحباط الذي وفّرته أجواء ما بعد اتفاقية أوسلو، والمفاوضات العبثيّة، والتحالف الدولي والعربي مع إسرائيل، منعكساً على الأسطوانة. ولأول مرة، تمّ التعاون مع شعراء غير فلسطينيين: سيّد حجاب من مصر، وطلال حيدر من لبنان. هذا البحث عن المنزل وجد طريقه إلى كميليا التي استنفذت تجربتها معصابرين، حاملة الجو ذاته، والقتامة ذاتها إلى سويسرا حيث تمت دعوتها لإقامة فنيّة التقت خلالها مع الموسيقيّ الإلكترونيّ فيرنر هَسلَر.

يمكن اعتبار أسطوانةوميض” (2004) تصفية لحساب كميليا مع إنتاجها ومع جمهورها، وعلى نفس الدرجة. هذه التصفية بدأت تأخذ نمطاً منتظماً داخل منظومة التمرّد التي بدأتها على الأغاني الكلاسيكيّة في الرامة، ومن ثم القدس، والآن في سويسرا. استردّت كميليا هذه القطيعة مرة أخرى هنا، وتعاملت مع القلق تجاه اليقين كعنصر أساسي يحكم توجّه مسيرتها الجديدة. ما استفادت منه الموسيقيّة فيوميضفعلاً، أنها، محمّلة بتجربةصابرين، ابتعدت عن الاسترخاء في التعامل مع أشكال التبادل الموسيقيّ الغربيّ والشرقيّ. ففي مقطوعات الأسطوانة، لا يمكن تجيير مقطوعات مثلنفاد الأحواللـالتبادل الموسيقي بين الشرق والغرب“. بل يتم البناء على تراكم معرفة الآخر/ فيرنر باتجاه خلقٍ جديد، لكن ليس هجيناً. خاصة بغنائها لقصائد نثريّة لبول شاؤول وفاضل العزّاوي وغيرهم، والتعامل معها بغنائيّة قاتمة.

استقرّت كميليا في فرنسا: مكانها الجديد. وهذا يعني أنها استغنت عن التواصل اليوميّ مع بلدها كما تقول: “هناك متغيّرات يوميّة في الأوضاع. ولكي لا أبقى على إحباطي، أحاول من بعيد استيعاب فلسطين بأشكالها المختلفة، ونبض ناسها“. والنتيجة: عمل منفرد في أسطوانةمكان” (2009) وضعها على حدود المينماليّة الموسيقيّة من دون تكلّفوإن خرجت عن سياق الارتجاليّة الحرّة إلى الميكانيكيّة النغميّة.

بعد 6 سنوات من بداية تعاونها مع فيرنر هسلر، تعود كميليا لاستكشافالمغامرةوالتخفّف من القيود التي من الممكن أنهما اصطدما بها في بداية مشواريهما. أسطوانةونبني” (2010) جاءت نقيضاً لكل ما هو متوقّع: عمل صعب يؤكّد، ربّما، على إنهاك متعمّد لكل مرجعيّة موسيقيّة.

كم سرنا خفافاً على عجل. كم سرنا الهوينا، ولم نصل. كم قاد الخوف خطونا، نظمأ فلا نجد بئراً، نجوع فينفد الزاد“. ربّما تكون أسطوانةنولهي الأقرب في مسيرة كميليا جبران للسياق السياسي والتاريخي المعاصر، أو الأكثر إخلاصاً له. في هذه الأسطوانة، تتوسّع كميليا، بدون خوف، في التوزيع الموسيقيّ بالتعاون مع رفيقتها السابقة فيصابرينسارة مورسيا إلى حدود توزيع الوتريّات. محمّلة بإرث كلاسيكيّ، كانت تهرب منه دوماً، لتعيد غناء دورضيّعت مستقبل حياتيلسيّد درويش، ومنقّبة في قصائد بدو سيناء والنَّقب. هي بذلك توجّه رسالة خفيّة إلى جذورها التي حاربت من أجل إخمادها.

يتداول المتحمّسون لتجربة كميليا أغانٍ غير منشورة لها كل فترة. هذا النوع من الجمهور يرى في هذه الأغاني، التي عادةً ما تلتقط مقطوعات من حفلات، تواصلاً مع كميليا التي تسرّب ارتباطها مع ما تمرّدت عليه بين الحين والآخر. لكن الأمر ببساطة لا يعني شيئاً: ليس الأمر صراعاً، أو تجاذب هويّات: إنه فقط تحرّر. أو على الطريق.

المزيـــد علــى معـــازف