عند مفترق طرق الهزيمة | الفاجومي والعندليب وجاهين وآخرون

هذا المقال/التقرير جزء من ملف مشترك في الذكرى الخمسين لهزيمة حزيران ١٩٦٧، تعده ثماني مؤسسات إعلامية عربية مستقلة هي: اتجاه، دون تردد، الجمهورية، حبر، صوت، مدى مصر، معازف، ومنشور.

في ضيافة الإذاعي وجدي الحكيم وفي برنامجه الشهير ليالي الشرق، أجرى عبد الحليم حافظ حوارًا مع معلمه الأول محمد عبد الوهاب بكل الإجلال والتبجيل اللازمين للأستاذ من تلميذه الأثير. كرّس العندليب قسطًا كبيرًا من حواره حول إشكالية “الفنان الممرور الحاقد على المجتمع”، وكان الأستاذ يرد بلباقته وبلاغته الناصعة المعهودة ردودًا موضوعية تنّم عن تصوراته عن الفن والحياة. وفي سؤال تال مباشرة سأل حليم الأستاذ عن رأيه في “الشيخ إمام والشاعر اللي معاه”. لن تحتاج لكثير من الذكاء لتعرف من كان يقصد العندليب قبل ذلك بلحظات بـ “الفنان الممرور الحاقد على المجتمع”. ارتبك عبد الوهاب كمن سُئل على الهواء عن رأيه في الكوكايين، وقال إنه استمع إلى الشيخ إمام لكنه لا يعرف ذلك الشاعر، وإنه كموسيقي يكوّن رأيًا في الموسيقى فقط، وقال رأيًا محايدًا في موسيقى الشيخ الكفيف ونسبه لمدرسة زكريا أحمد وسيد درويش على ما بينهما من فرق يعرفه الأستاذ بالتأكيد ولو كان من الواضح أنه كان يقصد تيار موسيقى المشايخ الكلاسيكي. بدا واضحًا تهرّبه من الكلام عن االشاعر المعني. فللأستاذ معرفة كافية بالشعر تؤهله للإجابة، خاصة أنه قبل هذا السؤال بدقائق كان قد استفاض في الحديث عن الشاعر الرومانسي محمود ابو الوفا مؤلف قصيدة عندما يأتي المساء الشهيرة التي كان قد غناها قبل ذلك بنحو أربعين عامًا.

بدا عبد الحليم مُهتمًا برد تهمة لم نعرف من يشيعها حول محاباة عبد الوهاب ودعمه غير المشروط له ووقوفهما معًا في وجه مواهب شابة لم يسمِّها. وأيضًا بإمكاننا أن نتخيل من هم مرددو هذا الاتهام من المواهب، خاصة أنه أذاع بعد ذلك، وبكل أريحية أغنية مجهولة للشيخ إمام ضمن فواصل البرنامج الغنائية.

وعلى الرغم من أن الشيخ إمام عيسى كان قد احترف التلحين والغناء منذ عام ١٩٦٢، بعد أن قضى عقودًا يغني أعمال الشيخ زكريا أحمد في جلسات خاصة، إلا أن مكانته كمطربٍ مُعارض لم تبرز سوى بعد هزيمة يونيو/حزيران ١٩٦٧ التي عرفت عربيًا باسم النكسة ودوليًا بحرب الأيام الستة.

في هذا الحوار الإذاعي المسجل عام ١٩٧٠ – أي بعد ثلاث سنوات على النكسة – لا يبدو العندليب حقيقة معنيًا بالشيخ في كل هذا الخطاب الهجومي حول الحاقدين وكارهي المجتمع من الفنانين المعزولين، فما كان إمام عيسى بصوته وألحانه العائدة لزمن المشايخ ليمثل أي تهديد لمشروعه وخلفه كل هذه الكتيبة من الفنانين المجددين وعلى رأسهم عبد الوهاب، ولكن هجومه المبطّن ينصبُّ بالأحرى على “الشاعر اللي معاه” والذي تجاهل ذكر اسمه طوال الحلقة، ونعني بالطبع الفاجومي أحمد فؤاد نجم؛ ولذلك بالتأكيد قصة قديمة.

عبد الحليم حافظ وأحمد فؤاد نجم كلاهما من محافظة الشرقية شمال مصر، وكلاهما من مواليد نفس العام ١٩٢٩. يكبُر نجم حليمًا بشهر واحد فقط بالتمام، وفي ظروف متشابهة وبقريتين تبعد إحداهما عن الأخرى نحو أربعة كيلومترات فقط، نشأ الاثنان يتيمين في كنف الأقارب حتى التحقا بملجأ الأيتام نفسه في مدينة الزقازيق عاصمة المحافظة نحو منتصف الثلاثينيات، ليتزاملا هناك طوال فترة الطفولة والمراهقة مدةً تقارب العشر سنوات. كانت ملاجئ الأيتام في ذلك العصر مؤسسات تربوية توفّر قدرًا لا بأس به من التعليم لنزلائها من الأحداث ولا سيّما التعليم الموسيقي الذي كان يشرف عليه المايسترو محمد حسن الشجاعي بنفسه. وهكذا، كان مسار عبد الحليم الفني قد تحدد منذ لحظة مبكرة، فقد كان من نجوم فريق الموسيقى بالملجأ، الذي كان فؤاد نجم أيضًا عضوًا به، فهو لم يكن عاطلاً عن الموهبة بدوره، وكثيراً ما نسمعه يغني قصائده في بطانة صغيرة خلف الشيخ إمام بلا عوج أو نشاز. تخرج حليم في الملجأ ليسافر إلى القاهرة لدى شقيقه ويلتحق بمعهد الموسيقى، إلى آخر مشواره المهني الناجح الذي يعرفه الجميع، فيما عاد نجم بعد انتهاء فترة الملجأ إلى قريته ليرعى – كالأنبياء – أغنام ومواشي أقاربه الميسورين، ثم ينتقل بعدها بدوره إلى القاهرة، ولدى شقيقه أيضًا. لكن الأخير طرده من بيته. بدأ أبو النجوم بعدها رحلته مع التصعلك متقلّبًا بين المهن الصغيرة ومحتالًا على المعايش، ثم بدأ يكتب القصائد العاطفية. بعد تعرفه على مجموعة من العمال اليساريين، انجرف نحو كتابة الشعر السياسي بحسه الهجائي اللاذع، وبمعجم من العامية المصرية يستمد مفرداته وصوره من الخيال الشعبي دون أي توسط ثقافوي باستثناء الخطوط العريضة لقضايا الصراع الطبقي والعدالة الاجتماعية. وجدت قصائده في صوت الشيخ إمام وألحانه طريقًا للذيوع بين الشباب اليساري في الجامعات بداية من منتصف الستينيات وحتى السبعينيات لدى الجيل الذي سيعرف لاحقًا  بـ جيل الحركة الطلابية.

سارت الحياة بالزميلين القديمين في ملجأ الزقازيق إذًا في طريقين متوازيين أفضيا إلى طرفي نقيض. ففي منتصف الستينيات كان عبد الحليم حافظ  قد صار نجم مصر الأول مغنيًا وممثلًا سينمائيًا، وهو بأغنياته الوطنية التي أدت دور لسان حال النظام يبشر عبر كلمات صلاح جاهين، شاعر المدينة المنقسم على ذاته، بمشروع الاشتراكية والوحدة العربية و”التصنيع الثقيل” بحسب القاموس الناصري. في المقابل، كان نجم قد نما شاعرًا ساخطًا ومطاردًا محظورًا في وسائل الإعلام وصار لسان حال المعارضة اليسارية الغاضبة التي تكوّنت في جامعات الستينيات، بعد اندماج الرعيل السابق من الحركة الشيوعية  – في تيارها الرئيسي على الأقل – في المشروع الناصري، ومن داخل سجون النظام نفسه.

ليل وطوفان وطاعون

في صبيحة الهزيمة المؤلمة بعد الخامس من يونيو/حزيران ١٩٦٧ظهرت أغنيتان فقط تعبرّان عن تلك “النكسة”: الأولى من أروقة إذاعة الدولة وتحمل توقيع حليم وعبد الرحمن الأبنودي شاعرًا وبليغ حمدي ملحنًا. كان صلاح جاهين وكمال الطويل، الثنائي التقليدي المصاحب لحليم في خط إنتاجه الوطني الدعائي، وتحت وطأة شعور عنيف بالتورط في الخديعة التي أسفرت عن الكارثة الكبرى، قد التزما بصمت أقرب إلى خرس جراء الصدمة. جاءت أغنية عدى النهار تتكلم عن الهزيمة بلغة رمزية، عن مغربية وظلام يبتلعان النهار وأي بصيص للضوء، فيما البلد المهزوم فتاة تغسل شعرها على الترعة وتنتظر النهار حبيبًا لا يقوى على مهرها الغالي. كان التهويم واللجوء إلى ظواهر كونية كالظلام والليل والنهار صيغة مناسبة للبكاء أكثر من أي شيء آخر، ولمقاربة الموضوع المؤلم دون إشارة لطرف بعينه ترجع له الأسباب.

وفي أغنية سبقت عدى النهار بأيام، سجلها عبد الحليم من باب الحماسة قبل إفصاح النظام عن حقيقة الأمر في سيناء يقول الأبنودي أيضًا: “ابنك يقول لك يا بطل هات لي نهار / ابنك يقول لك يا بطل هات لي انتصار”. النهار انتصار والليل هزيمة، والمهر الغالي، ثمن اقتران الانتصار بالبلد بقي غامضًا، وهي أمور يستحسن ألا نسأل عنها. أما لحن بليغ حمدي وفي الثوب الاوركسترالي للموزع علي إسماعيل فقد جاء أنيقًا كعادة ما يقدمه العندليب، ببداية تشبه البكاء على ما قد مضى وتتصاعد في كريشندو يصرّ على عدم الركون إلى الهزيمة في صرخة احتجاج “أبدًا بلدنا للنهار… بتحب موال النهار.. لما يعدي في الدروب.. ويغني قدام كل دار”.

وعلى النقيض من الإنتاج الدولتي الضخم في استوديوهات ماسبيرو وبصحبة أوركسترا الإذاعة؛ أطلق الثنائي نجم/إمام من شقتهما المتواضعة بحارة خوش قدم في الغورية بالقاهرة المملوكية وبمصاحبة نغمات العود وحده أغنيتهما: الحمد لله خبطنا تحت بطاطنا، في كلمات شديدة التهكم والمرارة بلا مواربة  تعري النظام المهزوم وتحمله المسؤولية كاملة عمّا حدث:

يا أهل مصر المحمية بالحرامية الفول كتير والطعمية والبر عمار / إيه يعني في العقبة جرينا ولا في سينا هي الهزيمة تنسينا إننا أحرار / إيه يعني شعب في ليل ذلّه ضايع كلّه ده كفاية بس اما تقول له: احنا الثوار / الحمد لله ولا حولَ مصر الدولة غرقانة في الكذب علاولة والشعب احتار / وكفاية أسيادنا البُعدا عايشين سعدا بفضل ناس تملا المعدة وتقول أشعار / أشعار تمجد وتماين حتى الخاين وانشالله يخربها مداين عبد الجبار / الحمد لله خبطنا تحت باطاطنا يا محلى رجعة ظُباطنا من خط النار”

وجاء لحن إمام عيسى المصاحب لهذا الكلام بمثابة سوء فهم عظيم أخلّ بحسّ الكوميديا السوداء الذي يسري من أول القصيدة حتى نهايتها وأسكنه مقامًا بائسًا لا يلائمه، لحنٌ جعل تلك الروح الغاضبة الساخرة أشبه بعويل مكتوم في مأتم شعبي بالمقابر. بالتأكيد للشيخ ألحان لا تزال صالحة للسماع، لكنني لطالما ظننت أن اعتباره الصوت الموسيقي للحركة التقدمية في السياسة، هو المتراجع فنيًا عن منجزات الموسيقى المصرية في القرن العشرين في تجلياتها العليا لدى سيد درويش والقصبجي وعبد الوهاب، ليس الا نكوصًا أصوليًا كامنًا لدى قطاعات من النخب، ومن جملة التناقضات العديدة التي سكنت جسد الحداثة العربية منذ نشأتها فأصابتها بالعوار وأوصلتنا لما نحن فيه الآن. وبغض النظر عن الأشعار التي تمجِّد السلطة كيفما تجلّت، فمن المدهش – في هذه الحالة –  أن يكون خطاب السلطة الموسيقي، أكثر تقدمًا بما لا يقاس بمثيله لدى من هم خارجها وفي موقع المعارضة.

وفي السياق نفسه تجدر المقارنة شعريًا بين عبد الرحمن الأبنودي القابع في معسكر النظام ونجم شاعر الشوارع الفاجومي الصعلوك. فالاثنان، وإن كتبا بالمحكية المصرية بتنوع لهجاتها من لهجة قنا جنوبًا وحتى لهجات الدلتا مع حضور قوي للغة القاهرة لا سيما في الأغاني، فإنهما ينتميان لمدرستين أو بالأحرى لمفهومين مختلفين تمامًا عن الشعر. فالأبنودي، كما جاهين وأستاذه فؤاد حداد، هو ابن شرعي لحركة الشعر الحديث التي ظهرت في العالم العربي أعقاب الحرب العالمية الثانية بالتزامن مع حركات التحرر الوطني، وما استخدامه للتيمات الشعبية إلا توظيف حداثوي لها، على نحو ما نرى عند لوركا مثلا. أما نجم فهو شاعر شعبي بالمفهوم البسيط والعميق للكلمة، مجال شعريته شفوي وثقافته سمعية لا تحيل إلى أي مؤثرات مقروءة أجنبية كانت أو من التراث القريب لحركة تحديث الشعر العربي، وإن ذكر نيرودا وناظم حكمت وبيرم التونسي في قصائده. وهو وإن ذكّر ببيرم وبديع خيري في نقده السياسي اللاذع، فلا يزال ثمة فارق كبير بينه  وبينهما.

أما الثنائي جاهين/الطويل اللذان صاغا مع حليم المانيفستو الغنائي للناصرية، فقد ابتعدا بعد الهزيمة عن الأغنية السياسية، وانخرطا في نشاط غنائي سينمائي مرِح وتجاري مع صديقتهما سعاد حسني. والأرجح أن الطويل لم يكن مؤمناً إيمانًا تامًا بالناصرية كجاهين، فهو بحكم تربيته في عائلة وفدية كان يميل إلى الليبرالية، كما أنه كان قد انضم إلى حزب الوفد الجديد بعد إعادة تأسيسه وصار نائبًا عنه في البرلمان. بل وقيل إنه لحن ذلك الإنتاج الدعائي بضغط عاطفي من حليم نفسه، و ذهب آخرون للقول إنه فعل ذلك أحيانًا مجبرًا تحت تهديد النظام. ولم يقارب الثنائي ذلك الملف المؤلم ثانيةً إلا بعد سنوات، وبشكل رمزي في فيلم عودة الابن الضال ليوسف شاهين، وتحديداً في مقطوعة مفترق الطرق التي غنّتها المطربة الناشئة آنذاك ماجدة الرومي. وفي تلك الأغنية وفي الفيلم عمومًا تتجلى الكارثة في شكل مذبحة يقتل فيها كل أفراد العائلة بعضهم البعض ولا ينجو إلا الجيل الجديد الذي لم يشارك في صناعة المأساة، أو بالأحرى المهزلة:

“… آدي اللي كان وآدي القدر وآدي المصير / نودع الماضي بحلمه الكبير / نودع  الأفراح / نودع الأشباح / راح اللي راح ما عادش فاضل كتير / إيه العمل في الوقت ده يا صديق غير إننا عند افتراق الطريق / نبص قدامنا على شمس أحلامنا نلقاها بتشق السحاب الغميق”

ولا شك أن صلاح جاهين لم يبرأ أبدًا من كرب الصدمة ولا من عقدة الذنب المتعلقة بالهزيمة وقد يكون ذلك ما قاده ذات صباح من ربيع عام ١٩٨٦ للانتحار في سريره بالمستشفى بابتلاع كمٍّ هائل من الأدوية والأقراص المنومة. وقبيل وفاته بشهور قليلة عاد جاهين مرةً ثانية لمقاربة الموضوع مع المخرج يوسف شاهين في فيلم اليوم السادس. والأخير بدوره كان شريكًا في صياغة البروباجاندا الناصرية بأفلامه الستينية كالناصر صلاح الدين وفجر يوم جديد.  في اليوم السادس يقارب شاهين الكارثة بنفس المنحى الرمزي الذي اتخذه قبل عشر سنوات في عودة الابن الضال؛ فتتجلى الهزيمة هنا في شكل وباء الكوليرا الشهير الذي ضرب مصر عام ١٩٤٦، كوليرا هي في الفيلم أقرب لطاعون روحي على طريقة ألبير كامو. ويقول صلاح جاهين في أغنية الفيلم الرئيسية بعد الطوفان من ألحان عمر خيرت وغناء محمد منير:

“بعد الطوفان الجو شبورة / ننده لبعض بهمسة مذعورة / بشويش نمد الإيدين / يا اللي انت جنبي أنت فين؟!”. وكالعادة لدى يوسف شاهين، تكون النجاة –  سواء من المذبحة أو من الطاعون –  بالاتجاه شمالاً، إلى الإسكندرية مدينته الرمز.

عودة الابن الضال

في منتصف التسعينيات، تم رفع الحظر عن أحمد فؤاد نجم في وسائل الإعلام. فصار يكتب عمودًا بصحيفة الدستور، كما صار له نصيب من تأليف أغاني تترات المسلسلات التلفزيونية جنبًا إلى جنب مع غريميه التاريخيين سيد حجاب والأبنودي، وتآخى لحنيًا مع الموسيقار عمار الشريعي بعد انفصاله عن الشيخ إمام، الذي توفي بعدها بقليل. كما صار للفاجومي أيضاً برنامج تلفزيوني في فضائية دريم التي يملكها رجل الأعمال أحمد بهجت المقرب من مبارك ونظامه.

في مقالاته بجريدة الدستور حكى نجم أطرافًا من سيرة تزامله القديم مع عبد الحليم في الملجأ، وكيف كان الأخير طفلا رقيقًا مستضعفًا وسط مراهقين شرسين. ووسط تلميحات عن حياة الطفل الموهوب وخصوصيته التي قد تفسر عداء حليم له الذي كان قد ظهر في مقابلته مع عبد الوهاب، اعترف نجم بموهبة حليم المبكرة وذكائه الفطري.

بعد وفاته في عام ٢٠١٣، وفي فترة الحكم الانتقالي للمستشار عدلي منصور، تم منح أحمد فؤاد نجم وسام الدولة للعلوم والفنون من الطبقة الأولى. جاء في بيان رئاسة الجمهورية أن “نجم يعد أحد أهم شعراء العامية في مصر، وأحد ثوار الكلمة واسما بارزًا في الفن والشعر العربيين، وهب حياته من أجل حرية الوطن، وألهمت كلماته أجيالًا من الشباب للدفع من أجل التغيير.”

وهكذا استعادت الدولة “الابن الضال”، في محاولة بدت كتصالح مع القوى المدنية وطمأنة لها أعقاب إزاحة الإخوان من سدة الحكم، ورد اعتبار متأخر لعدد من الشخصيات العامة التي طالها الظلم والتعنت السياسي زمنًا طويلًا. وفي السياق نفسه حصل المخرج محمد خان على الجنسية المصرية بعد أن عاش سبعين عاما بأوراق أجنبية في القاهرة التي ولِد بها وصاغ عنها أفضل سردياتها البصرية، كما تم منح قلادة النيل أعلى أوسمة الدولة لاسم اللواء محمد نجيب أول رئيس للجمهورية والقائد الرمزي لتنظيم الضباط الأحرار، والذي أطاح به ناصر وحلفاؤه من الضباط متوسطي وصغار الرتب في التنظيم نفسه عام ١٩٥٤،  ليوضع  طوال سنوات الخمسينيات والستينيات رهن الإقامة الجبرية ببيت في ضاحية الزيتون شرق القاهرة مجردًا من كافة الحقوق. أتخيَّل اللواء نجيب في زمن النكسة، في روب منزلي يدخَّن غليونه الشهير ويرقب من محبسه –  بمزيج من الغمّ والشماتة – الإخفاقَ المروّع لتلاميذه “الغادرين” في ميدان المعركة.

وآدي المصير

عند مفترق طرق النكسة أصيب جاهين بالاكتئاب وقدم بعد ذلك نقده الذاتي في الأعمال السابق ذكرها، كما فعل يوسف شاهين شريكه في تلك المراجعات. أما الأبنودي، الذي استعاده حليم من رفقة الشيوعيين التي قادته إلى المعتقل عام ١٩٦٦ قبل أن يتدخل سارتر لإخراجه خلال زيارته لمصر، فصار بعد ذلك أكثر اقترابًا من المؤسسة العسكرية، لا السياسية، إن كان ثمة فرق بينهما في هذه الحالة.

وفرت له القوات المسلحة ما يشبه الإقامة الفنية على الجبهة في مدن القناة خلال سنوات حرب الاستنزاف،  كتب خلالها عددًا من الأعمال الشعرية والغنائية، نذكر من بينها ديوانه وجوه على الشط، وأغنية يا بيوت السويس. وظل حليم طافيًا على سطح الأحداث في تواليها، متواجدًا بأغنياته في أكتوبر/تشرين الأول ١٩٧٣، ثم في إعادة افتتاح القناة سنة ١٩٧٥ ولسان حاله يقول إنه وطني ولكن غير معني بالسياسة، حتى توفي عام ١٩٧٧ من مضاعفات البلهارسيا قبل أن يتسنى له الإدلاء بدلوه في معاهدة السلام وكامب ديفيد. أما أبو النجوم فظل يتنقل بين سجون ناصر والسادات، وكما أسلفنا ظلّ محافظًا على موقع الشاعر الصعلوك المعارض حتى منتصف التسعينيات. أما مواقفه المتقلبة بعد يناير/كانون الثاني ٢٠١١ فلنترك الحكم عليها الآن للتاريخ، ويكفينا منه قصائده وأغانيه التي ستظلّ وتبقى.