يوم سألت أمريكا عن اسم المغني | فرانك سيناترا والأغنية المسجلة

تصوروا أن نسمع أغنية Hey Jude من تسجيل فرقة غير ذا بيتلز، أو I’ve Got A Woman بغير صوت راي تشارلز؛ نحن اليوم لا نكتفي بالبحث عن نسخ فنانين معينين من أغانينا المفضلة، بل ونميل أيضاً إلى تفضيل تسجيل معين لهؤلاء الفنانين سواءً أكان تسجيل استوديو أو حفل. نفضل التسجيل الذي يحمل بيئة صوتية  Acoustic Environment تعجبنا، فرقة مساندة أو عازف مشارك نفضل أداءه، ومرحلة عمرية معينة للمغني كان فيها صوته أو روح أدائه مختلفاً. في العقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين لم يكن الأمر كذلك على الإطلاق. وبالرغم من وجود أغانٍ مسجلة  Records منذ ذلك الوقت، وبعددٍ ليس بالقليل، إلا أنها لم تقترب من أهمية ورواج النوتات  Music Sheets، كما لم تكن الإذاعات تقبل بث الأغاني المسجلة، إذ كان ذلك يُعد غشاً وخداعاً للجمهور الذي لا يقبل سوى الأداء الحي من استوديوهات الإذاعة.

في ظل طغيان النوتات كالوسيلة الرئيسية لانتشار الموسيقى وبيعها، كان دور المغنين مهمشاً على حساب الملحنين، خصوصاً وأن وظيفة تلحين الأغاني كانت منفصلة تماماً عن العزف والغناء. كما لم يركز المغنون كثيراً على إضفاء طابع شخصي مميز على أداءهم لأنهم غالباً ما كانوا مطالبَين بالغناء في قاعات كبيرة بلا مايكروفون، ما استوجب الغناء بصوتٍ عالٍ لدرجة تجعل تعديله وإضفاء الطابع الشخصي عليه أمراً صعباً. علاوةً على كل ذلك كان المغني مجرد فرد غير مميز في الفرق الكبيرة، غالباً ما يؤدي فقرات قصيرة ويختفي في بقية الأغنية لصالح العزف الآلاتي. لم يكن الأمر أفضل عندما أدت الفرق الكبيرة في استوديوهات الإذاعات بشكلٍ حي، إذ اعتاد المغنون على أسلوب الحفلات ولم يفكر أحدهم بأن خصوصية الإذاعة قد تخلق فرصة للتجريب والتميز. كان ذلك حتى ظهور بينغ كروسبي  Bing Crosby الذي بدأ ثورة غيرت الموسيقى المعاصرة بكل الطرق الممكنة.

في أواخر عشرينيات القرن العشرين أقدم كروسبي على خطوة ثورية على صعيد الغناء رغم شدة ما تبدو بديهيةً لنا اليوم: استخدام الميكروفون كآلة موسيقية. لم يشارك كروسبي الآخرين الاعتقاد بأن المايكروفون يجب ألا يستخدم بالحفلات لما قد يسببه من تشويه جودة الصوت، بالعكس اعتقد أن استخدامه سيمنح المغني عالماً من الإمكانيات والخيارات غير المتاحة في الأداء الصوتي العاري. باستخدامه الميكروفون تمكن كروسبي من أداء الأغاني المنتشرة في زمنه بصوتٍ أكثر قرباً وحميميةً، وبنبرةٍ توحي كما لو أنه يخاطب كل مستمعٍ على حدة. كذلك أتاح الميكروفون لكروسبي التنقل بسهولة وسلاسة استعراضية بين طبقات صوتية مختلفة، وبالتالي إضفاء طابعه الخاص على الأغاني ليشكل هويته الأدائية الخاصة، ما أكسبه شهرة متزايدة جعلت الجمهور يتدافع لحضور حفلاته، ولما لم تستطع الولايات المتحدة بأكملها مشاهدة حفلات كروسبي، أخذ الجمهور يبحث عن تسجيلات لأغانيهم المفضلة بصوته بالذات، فبدأت شركات التسجيل بالتنافس للتسجيل مع كروسبي، وحققت خلال فترات قصيرة جداً أرباحاً فاقت كل التوقعات.

أثر كروسبي مباشرةً بجيل كامل من الموسيقيين المعاصرين مثل فرانك سيناترا وبيري كومو ودين مارتن، لكن تأثيره العام شمل بطريقة أو بأخرى معظم المغنين الذين تلوه. قد يبدو أن كروسبي بصوته الحميمي الشخصي هذا برز كنجم بين المراهقين وزيراً للنساء، إلا أن صورته الذهنية بالواقع كانت أكثر عائليةً ووداً، حيث عرف كعم أمريكا المفضل America's Favorite Uncle، أما صورة زير النساء فقد ارتبطت بثاني رواد ثورة الأغاني المسجلة، فرانك سيناترا.

نشأ سيناترا في حقبة زمنية سيطرت عليها الفرق الكبيرة، حيث كان صعباً أن يبرز مغنٍ من خارج إحدى تلك الفرق، خصوصاً في ظل التركيز لصالح الآلات على حساب الغناء، الأمر الذي أحبط سيناترا خلال فترة عمله مع فرقة منذ ١٩٣٥.

بين عامي ١٩٣٥-١٩٣٩، بحث سيناترا عن فرص مسيرة فنية فردية حتى لو كانت في مطاعم، ثم غادر الفرقة وبدأ يحقق نجاحاً فردياً بسرعة هائلة، معتمداً على شخصيته الجذابة وما تمتع به من كاريزما لحرق المراحل. بحلول الأربعينات أصيبت مراهقات أمريكا بحمى سيناترا Sinatramania، ففي عام ١٩٤٤ شهدت إحدى حفلاته، لأول مرة في تاريخ الموسيقى المعاصرة، أعمال شغبٍ إثر امتلاء المسرح وبقاء ٣٥ ألف معجب في الخارج. أصبح سيناترا نجم الأربعينيات، لكن الأهم من ذلك أنه أسس لفكرة النجم الشعبي Superstar، فباتت الأغاني التي يؤديها ترتبط به فوراً، ويأبى جمهوره أن يستمع لأي تسجيلٍ أو أداءٍ آخر من هذه الأغاني إلا من قبل سيناترا، ليس لأجل الصوت فقط بل وفاءً لنجمهم المهيب الذي تربطهم به علاقة ولاء. دفع نجاح سيناترا بهذا الشكل شركات التسجيل لبدء التفكير على هذا الأساس والتخلص من عقلية المغنين الثانويين في الفرق الكبيرة لصالح فكرة النجم الشعبي، الأمر الذي ارتبط بديهياً بضرورة التركيز على بيع اسطوانات التسجيل لأغاني النجوم. من كان يريد سماع ابن العم جيمي يغني Try a Little Tenderness في الأربعينيات؟ لا أحد، ولا أحد عاد مهتماً بشراء النوتات لذات السبب.

لكن هل كانت صناعة الموسيقى والتسجيلات جاهزة من الناحية التقنية لمواكبة ثورة مماثلة من الناحيتين الكمية والنوعية؟ الجواب على هذا السؤال هو شخص كان يدعى لِس بول Les Paul، موسيقي فذ والمخترع الذي أزال العقبات التقنية من طريق ثورة الأغنية المسجلة.

عرف لِس بول منذ بداية حياته الفنية وحتى وفاته عام ٢٠٠٩ سنة بولهه بالجيتار، وخصوصاً الكهربائي. في البداية ذاع صيته كعازفٍ إلى جانب بينغ كروسبي، ثم انتقل للعزف مع زوجته المغنية ماري فورد Mary Ford، ويمكننا أن نعثر في أغانيه معها، كـ How High The Moon، على أولى مقاطع عزف الجيتار المنفرد ذات الإيقاع السريع والصاخب بعض الشيء، تشبه تلك التي نسمعها اليوم في أغاني الروك الشهيرة. إلا أن إنجازه الأكبر في مجال الجيتار، إلى جانب براعته الهائلة في العزف، كان اختراعه لأول جيتار كهربائي ذو هيكل صلب Solid Body Electric Guitar، ولا يزال يعرف الجيتار حتى اليوم باسمه Gibson Les Paul. كان للصوت الذي يولده هذا الجيتار دور شديد الأهمية في ظهور الروك كما نعرفه اليوم، كما استخدم ولا يزال يستخدم من قبل العديد من نجوم الروك الأيقونيين من إلفيس برسلي إلى جيمي بايج وآليكس ترنر.

إلى جانب عمله على الجيتار الكهربائي، كان بول فطناً لما يحدث في الأربعينيات من ميلٍ نحو اسطوانات الموسيقى المسجلة عوضاً عن النوتات، فحصل على دعم مالي من عدة مصادر من ضمنها بينغ كروسبي ليبدأ العمل في استوديو الكراج الخاص به في هوليوود وينطلق من هناك، مطوراً تقنيات التسجيل والعزل وتكوين الصدى وآلات التسجيل متعددة المسارات، الأمر الذي كسب لاستوديو بول سمعة استقطبت الكثير من المغنين، ودفعت المجتمع الموسيقي للتفكير بآلية الإنتاج والمزج كمرلحلة إبداعية مستقلة، لا مجرد إجراء تقني لمزج الأصوات.

تعد آلة التسجيل متعددة المسارات أبرز اختراعات بول في هذا السياق. حيث كان بول يسجل صوته على اسطوانة، ثم يشغل الاسطوانة ويعزف في الوقت ذاته مواكباً صوته المسجل، ويسجل مزيج الصوت والعزف كله على اسطوانة جديدة، ثم يشغل الاسطوانة الجديدة ويعزف على آلة موسيقية أخرى ويسجل المزيج على اسطوانة جديدة وهكذا، حتى ينتهي به الأمر بتسجيل أغانٍ تضم العديد من الآلات الموسيقية التي تعزف بانسجام دون مساهمة أي عازف سواه. انطلاقاً من هذه الآلية طور بول أول آلة تسجيل متعددة المسارات في العالم عام ١٩٥٧، أسماها بالأخطبوط  كونها تحوي ٨ مسارات تسجيل.

امتدت اختراعات بول لتشمل معظم جوانب عملية التسجيل والإنتاج، بهدف رئيسي هو الحصول على منتج موسيقي نهائي ذو جودة ممتازة تمكن الفنان من إخراج الصوت الذي برأسه تماماً. كان لهذه الاختراعات إلى جانب نجومية سيناترا وما أتاحه كروسبي من إمكانات في مجال شخصنة الأغاني واختلاف نسخ أداءاتها، كان لإنجازات هذا الثلاثي الأثر الأهم في إطلاق ثورة الأغنية المسجلة، وما صاحبها من انفتاح عدة مجالات إبداعية وفنية أدى استكشافاها لتغير الموسيقى المعاصرة مرة تلو الأخرى تلو الأخرى، ولا يزال هذا التغير مستمراً.


هذا المقال هو الثاني ضمن سلسلة تاريخ الروك.