أجنبي جديد

فن الأغاني المخفية المفقود

معازف ۲۷/۰٦/۲۰۱۵

من مدونة ذ باريس ريفيو.

آدم فلمنج بتي

ترجمة: أميرة المصري


تقريبًا كل من بلغ مرحلة الشباب في فترة التسعينيات يتذكر الأغاني المخفية، كانت بمثابة بيضات عيد الفصح في عصر الأسطوانات المضغوطة. فقد كان الفنانون يضمّنون أغانٍ سرية أو عينات أغانٍ بعد آخر أغنية في الأسطوانة. وكان المستمعون يفتشون في المقاطع الصامتة بحثًا عنها. وبما أني نشأت في بلدة صغيرة وكنت دائمًا أبحث عن شيء أنشغل به في أوقات الفراغ الطويلة، أصبح الجلوس في صمت لانتظار ظهور الموسيقى التسلية المثلى في أوقات ما بعد الظهيرة. أعلم أن بعض الأشخاص الذين لم يتحلوا بالصبر كانوا يتخطون مقاطع السكون. لكنني لم أتخطاها.

كانت الأغاني المخفية وليدة عصر أسطوانات الجراموفون (LP)، حيث ظهرت أغنية Her Majesty لفريق البيتلز— في نهاية عمل Abbey Road العام ١٩٦٩ دون أية إشارة إليها على الغلاف — لتقدم نسخة أشبه باللحن الأولي، وإن كان بول مكارتني يزعم أنها أضيفت إلى الألبوم عن طريق الخطأ. ثم في العام ١٩٧٩ قام فريق The Clash بإضافة أغنية Train in Vain إلى أسطوانة London Calling في اللحظة الأخيرة، بعد إتمام طباعة غلاف العمل. لكن حينما كانت أسطوانات الفينيل الوسيط الموسيقي السائد كانت المفاتيح الدلالية لأسرار الألبوم موجودة على الطريقة القياسية: كان يمكن فحص سطح الأسطوانة ومراقبة الإبرة وهي تشق طريقها في المسارات الغائرة، وبعدما ازدهرت الأسطوانات المضغوطة، وقد طرحت كوسيط نظيرًا متكامل الأبعاد، ازدهرت الأغاني المخفية بالتبعية.

كانت الأسطوانات المضغوطة بداخلها أكبر حجمًا من خارجها، تمامًا مثل آلة الزمن تارديس التي كان يستخدمها الدكتور في مسلسل Doctor Who. فقد كانت الأسطوانة المضغوطة الواحدة تسع تقريبًا ثمانين دقيقة من الموسيقى. (أكاد أسمع بعضكم يسخر من استخدامي لصيغة الماضي، الأسطوانات المضغوطة ما زالت موجودة بالطبع، لكن تلك الأيام التي كانت تعد فيها الوعاء الأساسي لتجميع الموسيقى ونقلها والاستماع إليها قد ولت منذ زمن طويل.) استغل الفنانون تلك المساحة الكبيرة منذ البداية تقريبًا، لكن يقال إن فريق نيرفانا كان أول مجموعة ذات قاعدة جماهيرية عريضة تفعل ذلك. إذا استمعنا إلى عمل الفريق Nevermind الصادر العام ١٩٩١ وانتظرنا لعشر دقائق بعد انتهاء آخر أغنية سوف نجد مقطع Endless, Nameless، والحقيقة إن المقطع كان عبارة عن معزوفة ارتجالية رتيبة وغير مرتبة لدرجة أني لم أستطع الاستماع حتى نهايته. لكني وجدته على أية حال.

تلك الحماسة الناجمة عن الاكتشاف ومشاركة هذا السر مع الفنان كانت واحدة من أعظم متع الأسطوانات المضغوطة. وكثيرًا ما أتوق إلى ما كانت تلك الأغاني المخفية تجلبه من تسلية للفنان والمستمع على حدٍ سواء. عندما تقتطع من وقتك للتنقيب في الدقائق الصامتة – حتى وإن كان المقطع الذي اكتشفته لا يتعدى كونه مجرد تجربة غير مكتملة في الستوديو – لا تشعر أنك قد خدعت. لا تشعر أنك قد أسأت استخدام مقدرتك اليومية على التركيز الشديد، بل تشعر أنك قد بذلت الجهد اللازم بشكل ما؛ أنك قد ثابرت حتى النهاية، مثل العداء الذي ينهي سباقًا طويلًا. كان الفنانون يخبئون تلك الأغاني وهم واثقون تمام الثقة أن جمهورهم سوف يبحث عنها، وأن المستمع يتحرى الدقة.

مع ذلك كان فعل الاكتشاف في حد ذاته أكثر إشباعًا من الأغنية المخفية ذاتها. العديد من تلك الأغاني كان يعادل الوجه الثاني [من الأسطوانات] – لم تكن الأغاني ترقى إلى مستوى الألبوم أو متماشية مع سائر أغانيه. بل لم ترق إلى مصاف الأغنيات في بعض الأحيان. نستمع في أسطوانة فريق راديوهيد Kid A العام ٢٠٠٠ بعد أغنية Motion Picture Soundtrack إلى عدة دقائق من الصمت، يليها دفقة رائعة من الضوضاء الإلكترونية تتصاعد إلى السموات العليا، وتبدو للسمع مثل صوت اتصال مودم سماوي. أيضًا في نهاية أسطوانة Dookie قام فريق جرين داي بوضع أغنية All By Myself حيث يُمسك عازف الطبل تري كول بجيتار صوتي ويغني قصيدة حزينة لمتعته الشخصية، بينما يقهقه أعضاء الفريق ضاحكين في الخلفية. لقد عرف الفريق بهذا النوع من الأفعال الهزلية، وكانت الأغاني المخفية المكان الأمثل للتنفيس عنها.

لكنْ هناك فنانون آخرون تناولوا تلك الصيغة بقدرٍ أكبر من الاستعراض. فنجد في ألبوم Phrenology لفريق روتس أغنية اسمها Rhymes and Ammo، وهي أغنية رائعة بحق، تستعرض مقطع شعري مميز مستعار من طاليب كويلي. كما نجد نسخة من أغنية Can’t Take My Eyes Off You تؤديها لورين هيل مضمنة بشكل خفي في نهاية ألبوم The Miseducation of Lauryn Hill، وكان أداؤها فيها قويًا لدرجة رشحتها للفوز بجائزة جرامي. حتى كبار العاملين في صناعة الأسطوانات كانوا يبحثون عن الأغاني المخفية. وقد طرحت الأسطوانات كوسيط سبلًا أكثر دهاءً لإخفائها؛ فكانت هناك على سبيل المثال أغانٍ مخفية في الجزء الذي يسبق المقطع الأول (pre-gap)، يطلق عليها أحيانًا: الأغنية صفر، وكان يمكن الوصول إليها من خلال إرجاع الأسطوانة فور بدء تشغيلها.

أما أغنيتي المخفية المفضلة، والتي استخدمت تلك الصيغة على أفضل وجه، هي أغنية بِك Diamond Bollocks.

كان بِك لفترة ما في منتصف التسعينيات واحدًا من أكثر الشخصيات إثارة في المجال الموسيقي. قارنه بالنقاد بـ بوب ديلان – وهو أمر مذهل خاصة إذا وضعنا في اعتبارنا أنه كان يعد تقليعة جديدة في البداية. بعد احتلال أغنية Loser الصدارة في عام ١٩٩٤ لم يتوقع أحد سماعه مرة أخرى؛ فهذا هو الفنان الذي يتغنى بافتقار الجيل العاشر (الجيل الذي ولد في الفترة ما بين أوائل الستينيات وحتى أوائل الثمانينيات) إلى الطموح بشكل جمعي. لكن طريقة عمله نفت عنه تلك الصورة. أصدر بِك في عام ١٩٩٦ ألبوم Odelay، الذي شمل نطاقًا موسيقيًا واسعًا مع الحفاظ على تماسكه، وتهافت النقاد على مدحه. مع هذا الكولاج الموسيقي والأسلوب شديد التلون وحس التلاعب في الألبوم بدا أن الجيل العاشر قادر على فعل ما هو أكثر من التكاسل، لينتظر المعجبون والنقاد عمله التالي في لهفة، متوقعين عملًا أكثر تنوعًا وأكثر تماسكًا.

لكن جاءهم Mutations عام ١٩٩٨، ألبوم هادئ فولكلوري الطابع بدا كسد خانة وحتى كخطوة إلى الوراء من حيث الطموح. اتسمت المراجعات بالتهذيب، وشبهت هذا العمل بأعمال بِك المبكرة، لكن خيبة الأمل كانت واضحة. لماذا لم يرق إلى التوقعات التي بشر بها Odelay؟ هل كان خائفًا من تسليط الضوء عليه، مثل العديد من أبناء جيله؟

لكن المفارقة—وعلينا أن نتذكر أن ذلك كان في التسعينيّات، والمفارقات كانت سمة هذا العصر، حتى وإن كانت آلانِس [موريسيتي] لا تعلم المعنى الصحيح للكلمة – كانت أن بِك قام بالفعل بتسجيل أغنية على نفس مستوى Odelay من الإبداع الجنوني. لكنه قام بإخفائها.

إذا استمريت في الاستماع بعد الأغنية الأخيرة فيMutations سوف تهب مهتزًا، مثلي، لسماع أصوات هاربسيكورد وإيقاع على ميزان ٤/٤ يصاحبه صوت غنائي يطلق صيحات: ”أووه! آآه! أووه! آآه!“ هذه مقدمة أغنية Diamond Bollocks، ملحمة طولها ست دقائق لم أعرف اسمها إلا بعد شهور من سماعها، عندما قرأت المجلة الموسيقية البريطانية NME في مكتبة بوردرز في مدينة فورت وين، على بعد خمس وأربعين دقيقة بالسيارة من منزلي الصغير بولاية إنديانا.

يمكن قراءة أغنية Diamond Bollocks بتكوينها متعدد الأجزاء كرد على أغنية راديوهيد Paranoid Android الصادرة في العام السابق. (وهناك العديد من نقاط التقارب المثيرة للاهتمام ما بين مشوار بِك المهني ومشوار فريق راديوهيد؛ فكلاهما بدأ بإصدار يبدو نجاحه مجرد ضربة حظ لأغانٍ عن الحياة الساخطة قبل الحصول على التقدير النقدي.) لا شك أن الأغنية تقدم العديد من التغيرات في الأسلوب وسرعة الإيقاع، في نقلات مفاجئة من الموسيقى الفولكلورية المتزنة إلى مقاطع هلوسية طنانة منها إلى موسيقى الفانك الصاخبة، يصاحبها كلمات تصل بسوريالية بِك المقتضبة إلى ذروتها: ”أحلامك معدية من قلب ضار بالصحة يا فتاة الاختيار لاختصار الطرق المهجورة.“ هذا مجرد مثال على التشكيلة الكاملة التي يقدمها. تقدم هذه الأغنية لأي شخص يصادفها دليل إثبات على قدرات بِك التي تجاوز بكثير ما يظهره منها. لكنها لم تصبح محل نقاش قط – كيف للناس الحديث عنها في حين أن حتى اسمها غير معروف سوى لبضعة أشخاص؟ تحولت الأغنية بدلًا من ذلك إلى أقرب ما يمكن نعته بالموسيقى من أجل الموسيقى: سر يكتشفه السميعة الذين ينبشون في كل وحدة رقمية في مجموعة أسطواناتهم المضغوطة بحثًا عن معنى خفي.

إذا أردت الاستماع إلى أغنية Diamond Bollocks الآن كل ما عليك فعله هو الذهاب إلى موقع Spotify؛ دون انتظار ولا اقتناص، وبالتأكيد دون غياب المعلومات التوضيحية. لقد اندثرت الأغاني المخفية، والسبب في ذلك لا يقتصر على هجر الأسطوانات المضغوطة كوسيط للاستماع. لقد أصبح الفنان غير قادر على ترك المستمع دون محفّز؛ بعد ثوانٍ من الصمت سوف يتجاوز المستمع باقي الأغنية أو يكف عن الاستماع من الأساس. هذا ما يجعلني أتعجب: هل ما زال المعجبون يسعون إلى تلك الحميمية مع الفنان التي كانت الأغاني المخفية تقدمها؟

أعترف أني قاربت الدخول في حالة مبكرة من الحنين إلى الماضي. لكن بصفتي واحد من مواليد أوائل الثمانينيات، تشكلت عادات استهلاكي للوسائط على أكمل وجه قبل تقدمي للحصول على جنسية مزدوجة من الإنترنت. لقد كنت أذهب إلى المكتبة سيرًا على الأقدام مرتين أسبوعيًا لقراءة مجلة تايم، وما زلت أجد مطالعة حساب دريك على موقع إنستاجرام، مثلًا، أمرًا محيرًا – فأنا لا أجيد هذا الشكل من الولاء الفني، رغم أني لا أعتقد أن معجبيه أقل ولاءً مني. كما أدرك أن الحميمية في تلك الممارسات لا تزيد في علاقتها المباشرة مع الفنان عن تجربة الاستماع إلى الأسطوانات المضغوطة.

لكني أظن أني أفتقد حقًا الوقت عندما كانت شهرة العاملين في مجال الموسيقى تقوم على الكتمان بنفس القدر الذي تقوم به على المشاركة. لقد عشت حياتي كمراهق دون إنترنت، ولم أكن أعرف شيئًا عن شخصية بِك عدا ما كنت أستطيع استنباطه من موسيقاه. لم تكن هناك تغريدات عن قصة شعره ولا صور لوجبة فطوره أضغط على زر للإعجاب بها. إن المعجبين اليوم يستهلكون أشكالًا كثيرة جدًا من الوسائط في نفس الوقت، لدرجة تجعل الجلوس في صمت في انتظار بدء الأغنية المخفية أشبه بممارسة التأمل. لذلك كانت لحظة سماع أغنية Diamond Bollocks لأول مرة، وأنا منكبّ على جهاز ستيريو رخيص اشتريته من متجر ولمارت، بالنسبة لي، بمثابة لحظة تنويرية.


آدم فلمنج بتي كاتب يعيش في مدينة إنديانابوليس، نشرت أعماله في مواقع The Millions و The Los Angeles Review of Books و Electric Literature. يعكف بتي حاليًا على كتابة رواية عن لعبة Dungeons & Dragons في العراق. يمكن التواصل معه عبر حساب تويتر @flamingpetty.

المزيـــد علــى معـــازف